فرزانة وحيدي فتحت الأبواب أمام العالم لتصوير الحياة اليومية

إنجازات ومعاناة أول مصورة أفغانية محترفة

فرزانة وحيدي مع كاميرتها ({الشرق الأوسط})، سوق.. أحد أعمال فرزانة وحيدي
فرزانة وحيدي مع كاميرتها ({الشرق الأوسط})، سوق.. أحد أعمال فرزانة وحيدي
TT

فرزانة وحيدي فتحت الأبواب أمام العالم لتصوير الحياة اليومية

فرزانة وحيدي مع كاميرتها ({الشرق الأوسط})، سوق.. أحد أعمال فرزانة وحيدي
فرزانة وحيدي مع كاميرتها ({الشرق الأوسط})، سوق.. أحد أعمال فرزانة وحيدي

أرخت صورها حياة الأفغانيات المحاصرات على الدوام والمثيرات للاهتمام بشكل كبير.
كانت فرزانة وحيدي (30 عاما)، الحائزة على الجوائز، أول مصورة أفغانية محترفة قضت أكثر من 10 سنوات تحت حكم حركة طالبان، وتعرف ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لنساء أفغانستان لكي تروي قصصهن التي ترويها، على خلاف المعتاد، من خلال عدسة الكاميرا الخاصة بها.
كانت فرزانة في العاصمة الهندية مؤخرا لحضور مهرجان دلهي للصور لكي تعرض أعمالها وتتحدث بشكل مكثف عن مهنتها وحياتها خلال عهد طالبان وعن بلادها في الوقت الراهن.
بعد اعتلاء طالبان للسلطة وحظر تعليم النساء، كانت تتابع دروسها في مدرسة سرية توجد في شقة من الشقق تضم 300 فتاة أخرى. وتقول فرزانة إن والدها كان من أكثر الناس ذوي العقول المتفتحة في العائلة. حيث كان يؤمن بضرورة تعليم بناته.
وتروي فرزانة كيف كانت تقضي وقتها في تلك المدارس السرية التي نالت قدرا كبيرا من الشهرة الآن. وتتذكر السيدة وحيدي فتقول: «وصلت قوات طالبان إلى مدرستنا مرتين أو ثلاثة، وكنا نخبئ كتبنا، ونضع البراقع ونغطي أنفسنا ونتظاهر بأننا نتلقى دروسا دينية، بدلا من تعلم الإنجليزية والرياضيات. ولكن، كنا محظوظات أن أحدا لم يكشف سر مدرستنا لطالبان».
وعندما تمت الإطاحة بحركة طالبان في نهاية المطاف، اندفعت فرزانة والكثيرات من المعاصرات لها للحصول على الكثير من الدورات السريعة التي تساعدهن على مواصلة تعليمهن. كان حب التصوير يسري في عروقها حيث كان والدها من المصورين المحترفين. وكانت تشاهده يسجل كل لحظة من حياة أسرته بواسطة مجموعة واسعة من الكاميرات التي يمتلكها.
ولكن تحت حكم طالبان كان التصوير ممنوعا منعا باتا.
وتشير فرزانة «فقدنا أغلب ألبومات وصور العائلة خلال الحرب الأهلية. ولقد تمكنا من الهروب قبل سقوط أحد الصواريخ على منزلنا ليدمره. وفي وقت لاحق، دخل الناس بيتنا وسرقوا كل الصور منه». ومع ذلك، كما تقول، وفي ظل استمرار حكم طالبان للبلاد، كان والدهم يصطحبهم إلى أكشاك التصوير المخصصة بالأساس لصور تحقيق الشخصية، لكي يصورهم هناك. وتستطرد قائلة: «كان ذلك للذكريات العائلية فحسب. تخيل عدم التقاط أي صور للحياة اليومية بين عامي 1996 و2001. إن كل ذكرياتي عن الطفولة هي عن الحرب، وعن الخوف، والتنقل الدائم بحثا عن الأمن».
ولكن لا توجد ذكريات للطفولة تضاهي تلك الليلة التي سيطرت فيها طالبان على الحكم في البلاد. تقول: «كان عمري 13 عاما حينها، لم يتمكن أحد من النوم في تلك الليلة. كان منزلنا بالقرب من نقطة تفتيش للشرطة. كان علينا الانتقال للأمان في منزل عمنا. كان عددنا نحو 30 فردا في هذه الليلة. وفي وقت لاحق، وأثناء عودتنا إلى منزلنا، كنت أشعر بالطلبة يقفون عند الجوار يرمقوننا بنظرات حادة غريبة. شعرت بقلق شديد. تمنيت لو أنني مصورة في ذلك الوقت. فلقد كنت أعيش في مجتمع كان يهم العالم أن يعرف كيف يبدو من الداخل». كانت فرزانة قد أنجزت أعمالا تصويرية هائلة من خلال الكاميرا قد فتحت الأبواب أمام العالم فيما بعد عهد طالبان لتصور الحياة اليومية للأفغان في البيت والعمل والمدرسة إلى جانب المناسبات الخاصة مثل حفلات الزفاف.
أتيحت لها الفرصة، وهي في السابعة عشرة من عمرها، للتدرب كمصورة محترفة، عندما بدأت إحدى مؤسسات الإغاثة في أفغانستان وتدعى (إينا)، وتعني المرآة باللغة الأفغانية، في برامج تمكين المرأة المحلية، وخصوصا في وسائل الإعلام مثل الكاميرات التي لم تعد محظورة في ذلك الوقت كما كانت من قبل. كانت فرزانة واحدة من 15 طالبة ممن التحقن ببرامج مؤسسة إينا. وكان معهد للتصوير يديره شقيقان فرنسيان من أصول إيرانية وهما المصوران الصحافيان: مانوشير ورضا ديغاتي. وبعد عدة سنوات، ظهرت فرزانة كأول مصورة محترفة من الإناث من المشهد المعقد، وربما الخطير، للتصوير الفوتوغرافي في أفغانستان. ولقد عملت بجدية ثم صارت في نهاية المطاف أول مصورة في أفغانستان تعمل مع وسائل الإعلام الدولية مثل وكالة أسوشييتد برس ووكالة الصحافة الفرنسية.
وهي متزوجة من المصور الصحافي الحائز على جائزة بوليتزر في التصوير مسعود حسيني.
وأوضحت فرزانة المولودة في قندهار وتعيش في كابل في ردها على سؤال حول أسباب اختيارها مهنة التصوير أن الحياة في دولة متأثرة لدرجة كبيرة بكل ما يدور في العالم من حولها، فإن التصوير الصحافي يبدو كأفضل وأوضح الخيارات المهنية المتاحة. كان الكثير يدور من حولي، كما تقول، وكانت لدي كل تلك القصص لأرويها ولكني لم أكن أعرف كيفية التعبير عنها. لذا تخيرت التصوير الصحافي لأجل تلك الغاية.
ووفقا لكلامها فإن التصوير الصحافي له أهمية بالغة بالنسبة للعوام في أفغانستان. وتقول: «أكثر من 90 في المائة من الشعب الأفغاني لا يعرف القراءة والكتابة، ولذلك فهم لا يقرأون الجرائد ولا يحصلون على المعلومات الكافية عن بلادهم والعالم الخارجي. وإنني أجد في التصوير الصحافي شيئا مفيدا للغاية لهم بسبب أن نسبة هائلة للغاية من سكان بلادي يحصلون على الأخبار والمعلومات عبر مطالعة الصور».
وفي عام 2007 حصلت فرزانة على منحة لدراسة التصوير الصحافي في كلية لوياليست في بيلفيل في مدينة أونتاريو الكندية.
كانت فرزانة واحدة من أربعة أشخاص حصلوا علي جائزة تقديرية من مشروع «أول رودز فيلم» ومن برنامج التصوير برعاية جمعية ناشيونال جيوغرافيك. وفي عام 2008 حصلت على الجائزة الذهبية تصوير البورتيريه من جامعة ميسوري الأميركية. كما رشحت كذلك لنيل جائزة أفضل مصور من مجلة «سميثونيان» الأميركية. كما ظهرت أعمالها في الفيلم الوثائقي الأميركي «إطار بعد إطار»، الذي يعكس كيف يمكن للتصوير الصحافي أن يغير العالم.
ولقد نشرت أول قصة دولية لها في صحيفة «صنداي تايمز» (المملكة المتحدة) في عام 2003 حول الفتاة التي بيعت لقاء المخدرات.
وتقول فرزانة «عندما حاولت التقاط الصور للمرة الأولى، سألت الناس إن كانوا يحبون أن ألتقط لهم الصور، وكم كانت مهمة شاقة وصعبة. لم يكن الأمر سهلا على الناس فضلا أنه لم تكن مرت إلا سنوات قليلة على سقوط نظام طالبان».
وتتذكر وحيدي كيف كانت تخرج لالتقاط صور للشوارع، وكان بعض من الناس يرمونها بالحجارة. وفي جولة أخرى عام 2004 ذهبت إلى شمال أفغانستان، حينما طاردتها امرأة تمسك عصا لأنها التقطت صورا كثيرة لها. وتقول عن ذلك «إن التصوير قوي للغاية. ويثير اهتمامي كثيرا. إنه يساعدني على السفر الذي يشعرني بالحرية والانطلاق. أما في ظل طالبان، كنت كمثل السجناء».
لا تزال أفغانستان من الأماكن الخطيرة وخصوصا في الأقاليم. وتقول فرزانة إنها واجهت التهديدات مؤخرا في عام 2013: «كنت أعمل في مشروع وكان أحد زعماء الجماعات المقاتلة يحاول منعي من استكمال عملي. لتلك المهنة مميزاتها وعيوبها. وبكل أمانة، حينما أنطلق لتنفيذ مهمة، أترك مذكرة لكل من أحب لأنني لا أعلم إن كنت سأعود إليهم أم لا».
في الدولة التي تختفي فيها النساء من المشهد العام كانت فرزانة تنقل قصصهن إلى العالم. فلقد كانت صورها تتحدى النمطية. والأهم من كل شيء، أن صورها تسبب الإزعاج. وربما أن صورها تعكس كذلك حياتها وكفاحها.
وهي لا تصور النساء في عالمهن الخاص الذي يعشنه، ولكن الحياة اليومية كذلك. وتقول: «لقد أضفت قطاعا جديدا بالجيل الجديد من النساء في تلك السلسلة. إنه بمثابة جسر بين أولئك الذين يبغون رواية قصتهم وأولئك الذين يريدون الاستماع».
وتجدر الإشارة إلى أنها عرضت أعمالها التصويرية بمعارض في كندا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وباكستان والهند. وتقول عن ذلك «هناك الكثير من القصص غير المروية في أفغانستان. وأريد رواية تلك القصص عبر الصور».
وهي تشارك أيضا في تدريب المصورين الجدد، وتصمم الإرشادات حول أساليب العمل في ذلك الوسط ومراجعة قوانين حقوق التأليف والنشر في أفغانستان التي تتميز بالكثير من القيود، والعقوبات، والقواعد الغامضة لأولئك العاملين في تلك الصناعات الإبداعية. وتعشق فرزانة كل صورها، وتقول مبتسمة «حتى الصورة السيئة أعشقها». ولكن بعض تجاربها يعتبر عصيا فعلا على النسيان.
وتوضح «لن أنسى ما حييت التصوير في جناح الحروق بإحدى المستشفيات التي كنت أعمل فيها. كانوا قد أتوا بامرأة أشعلت النار في نفسها. لم يسمحوا لي بالاقتراب منها، ولكن رائحة جسدها وصوتها والجو العام في تلك اللحظات لن يفارقني للأبد».
هناك بعض السلبيات لكوني امرأة أعمل في هذا المجال. ولا بد، كما تقول، حيث إن أغلب الرجال ممن يعملون في الصناعة الإبداعية، لا سيما في المناطق المحافظة من أفغانستان، يقولون: إنه لا ينبغي أن أكون مصورة صحافية. ولكن ما يدفعها للمضي قدما هو الحماس الجامح الذي تستمده من النساء اللائي تصورهن ويقلن لها انظري إلى نفسك، إنهن يحببن حقيقة أنني أعمل ولدي وظيفة وأن حياتي تحت سيطرتي الشخصية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)