لبنان يحتفي بـ«يوم المرأة العالمي» كما لم يفعل من قبل

في {يوم المرأة} .. المفوضية الأوروبية تطالب الدول الأعضاء بالمساواة في الأجور * احتفالات متنوعة في القاهرة والأقاليم

تمثال رملي للملكة اليزابيت الثانية للمثال سودرسان باتناك على شاطئ بوري على بعد 65 كيلومترا من بوبانسوار عاصمة ولاية اوريسا الهندية بمناسبة يوم المرأة العالمي (ا ف ب)
تمثال رملي للملكة اليزابيت الثانية للمثال سودرسان باتناك على شاطئ بوري على بعد 65 كيلومترا من بوبانسوار عاصمة ولاية اوريسا الهندية بمناسبة يوم المرأة العالمي (ا ف ب)
TT

لبنان يحتفي بـ«يوم المرأة العالمي» كما لم يفعل من قبل

تمثال رملي للملكة اليزابيت الثانية للمثال سودرسان باتناك على شاطئ بوري على بعد 65 كيلومترا من بوبانسوار عاصمة ولاية اوريسا الهندية بمناسبة يوم المرأة العالمي (ا ف ب)
تمثال رملي للملكة اليزابيت الثانية للمثال سودرسان باتناك على شاطئ بوري على بعد 65 كيلومترا من بوبانسوار عاصمة ولاية اوريسا الهندية بمناسبة يوم المرأة العالمي (ا ف ب)

واحدة من أطرف الطرق التي ابتكرها اللبنانيون للاحتفال بيوم المرأة العالمي، هي تلك المبادرة التي قام بها ثلاثة شبان، وهم سماح الحكيم، وسمار، ووجيد الحتي.. فقد لبس كل منهم حذاء نسائيا بكعب عال، وهم بكامل هندامهم الرجالي أي بالبدلة وربطة العنق، وجالوا في أحد مولات منطقة ضبية (شمال بيروت)، يوم الأربعاء الماضي، في لفتة منهم إلى ما تعانيه المرأة وهي تلبس حذاء بكعب يقيد حريتها. وقد أطلق على الحملة اسم «لأنها امرأة بحترما من راسا إلى كعب رجليها».
ولم يكتف الظرفاء الثلاثة لتسجيل تضامنهم مع المرأة، بهذه النزهة المبتكرة، لافتين الأنظار، بل سجلوا شريطا قصيرا يوثق تجوالهم هذا، مصحوبا بموسيقى وأغنية، وجرى نشره على موقع «Uf Chou Laziz» على «يوتيوب»، مصحوبا بكلمة تقول «نهدي هذا الفيلم إلى كل أم وأخت وزوجة وخطيبة وصديقة وإلى كل النساء المذهلات في لبنان والعالم أجمع»، وأضافت الكلمة أنه «بعد أن عين موضوع (الإلهام للتغيير) لليوم العالمي للمرأة هذا العام، أصدرنا هذا الفيديو لتشجيع النهوض بالمرأة في شتى المجالات ولتعزيز المساواة في الحقوق».
ولم يسبق للبنان أن احتفى بيوم المرأة العالمي كما هذا العام، فغالبا ما كان يمر هذا اليوم باحتفالات بسيطة، وغالبا مطلبية، لكن الظروف هذا العام جاءت مأساوية ومستفزة مما دفع المجتمع المدني إلى تحركات كثيرة، وكل من يستطيع أن يساهم سيكون له اليوم حصة. فقد شهدت الشهور الماضية، عددا كبيرا من الجرائم التي ارتكبها أزواج بحق زوجاتهم، وأسماء القتيلات باتت شهيرة لكثرة ما تتداول. وتجهد الجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة لحث مجلس النواب اللبناني على المصادقة على قانون يحمي المرأة من العنف الأسري من دون جدوى، كما تطالب اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين منذ سنوات بإعطاء أزواجهن وأولادهن الجنسية اللبنانية وليس من يستمع لهن، كما أن السياسيين يديرون ظهرهم لمطلب هذه الجمعيات بالكوتا النسائية أثناء الانتخابات.
المطالب كثيرة وحياتية، وتتراكم، والجرائم ترتكب بوتيرة متسارعة صارت تهز وجدان المجتمع، وتجعل صم الآذان بمثابة التستر على القتلة. لهذا فإن جمعية «كفى عنفا واستغلالا»، تنظم اليوم مسيرة تحت عنوان «إذا بدها شارع للتشريع.. نازلين!»، تشارك بها النساء المحتجات، والمطالبات بقانون يحميهن من العنف الأسري.
وجاء في الدعوة إلى المسيرة: «ماتت كريستال أبو شقرا، وقبلها منال العاصي، وقبلهما فاطمة بكور، ورولا يعقوب، ومالكة، وآديل.. واللائحة تطول بأسماء كان لها وجوه وحيوات ورغبات وأحلام ومخاوف أمست غبارا لحظة قرر هو ذلك. لحظة قرر أن يقتلها ولم يردعه أحد. هو اليوم مستعد لقتلنا مرة أخرى، واحدة تلو الأخرى، بعد أن يهددنا، ويسممنا، ويشدنا من شعرنا، ويسحلنا أرضا، ويمزق ثيابنا، ويرهق أجسادنا، ويزهق أرواحنا، داخل بيوت ألفت التهديدات الأمنية الخطيرة حتى قبل أن يتعرف الشارع عليها». وتضيف جمعية «كفى» في بيانها «كل ذلك ولا مجلس التأم لأجلنا، حتى بعدما مدد لنفسه بحجة تحصين الأمن في البلاد، بينما أمننا داخل منازلنا عرضة للاهتزاز بين لحظة ولحظة، والخوف من فقدان الأمهات والأخوات والصديقات والجارات والغريبات يقضم عظامنا يوميا».
تنطلق مسيرة النساء التي ستضم الكثير من الرجال، ظهر اليوم، من المتحف الوطني وصولا إلى قصر العدل. ويشارك فيها فنانون، كل على طريقته، حيث يجري البدء بعرض مسرحي لـ«فرقة زقاق» يحمل اسم «ناس بسمنة وناس بزيت» الذي يمثل في مطلعه موكبا لجنازة وزواج، ويدين في نصه السلوكيات الذكورية التي باتت جحيما للنساء، مستفيدا من قصص حقيقية وموثقة تعرضت لها نساء، وكن ضحاياها.
وجدير بالذكر أن المحطات التلفزيونية اللبنانية تشارك بدورها بفاعلية، واهتمت البرامج باستضافة نساء ناجحات للإضاءة على تجاربهن، وأخريات تعرضن للظلم للتعريف بأحوالهن، وبالمناسبة جرت استضافة أمهات النساء الضحايا اللواتي قتلن على أيدي أزواجهن، وأطلقت الإعلامية منى أبو حمزة، من خلال برنامجها «حديث البلد»، نداء إلى المحامين في لبنان للتكفل بالمرافعة في قضية الضحية رولا يعقوب التي أطلق سراح زوجها، وتحوم شبهات قوية حول تزوير في التقارير الطبية التي جرى الاستناد إليها في قضيتها.
ويشهد لبنان إلى جانب المسيرة أنشطة مختلفة، ومحاضرات وعروض أفلام، وورشات عمل بعضها تنظمها مراكز ثقافية غربية، وأخرى جمعيات محلية.
وفي القاهرة تنظم اليوم مديرية الشباب والرياضة تحت رعاية المهندس خالد عبد العزيز وزير الشباب والرياضة بالتعاون مع اللجنة الأولمبية المصرية احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة بالملعب الفرعي باستاد القاهرة. يحضر الاحتفالية السفيرة ميرفت التلاوي، رئيس المجلس القومي للمرأة، وعدد كبير من سيدات المجتمع المصري، والمستشار خالد زين رئيس اللجنة الأولمبية المصرية، وجميع عضوات لجنة المرأة باللجنة الأولمبية المصرية.
يتضمن الاحتفال باقة من الفقرات الفنية والرياضية المتنوعة، منها مهرجان رياضي للمشي وبعض اللعبات الخفيفة، كما سيشهد عروضا فنية لفرق الفنون الشعبية ثم ندوة تثقيفية عن الرياضة والمرأة.
تبدأ الاحتفالية في الحادية عشرة صباحا باستاد القاهرة الرياضي ويشارك في فقراتها أكثر من 300 سيدة وفتاة من مراكز الشباب والأندية ومديريات الشباب والرياضة بالقاهرة.
من جهتها، تحتفل المؤسسة المصرية لمكافحة سرطان الثدي باليوم العالمي للمرأة، من خلال تنظيم يوم متنوع للتوعية بصحة المرأة. ويتميز اليوم بالطابع الصحي والمعرفي والترفيهي، حيث يشتمل على العديد من الأنشطة للجمهور والأطفال، منها محاضرة توعية بصحة الثدي يقدمها الدكتور محمد شعلان رئيس المؤسسة، وفحص طبي مجاني لأورام الثدي، واستشارات للتغذية من خبراء تغذية، وفقرات لممارسة رياضة الزومبا، وأنشطة ترفيهية وأيروبيكس راقص للأطفال.
وقال الدكتور محمد شعلان رئيس المؤسسة: «حين تشخص سيدة بمرض سرطان الثدي، فإن تأثير هذا التشخيص لا يقتصر عليها، وإنما يمتد ليشمل أسرتها وأصدقاءها وجميع المحيطين بها». وأضاف شعلان أن المؤسسة المصرية تغتنم مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة وتسعى جاهدة لتجميع الناس حول هدف واحد، وتوفير المعلومات ووسائل الدعم النفسي إلى جانب إطلاق حملات لتحسين الرعاية الصحية.
وقال شعلان إننا نحاول في هذه المناسبة ربط نضال النساء مع المرض بنضالهن في خدمة قضايا الوطن في شتى المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وتنظم ساقية عبد المنعم الصاوي الثقافية احتفالا موسعا باليوم العالمي للمرأة، يبدأ من صباح اليوم (السبت)، ويتضمن العديد من الفعاليات من موسيقى ورقص الزومبا وجيتار وبعض أغاني الروك والبوب، ومشاركات من المؤسسات المختلفة الداعمة لحياة أفضل.
ويتضمن الاحتفال مائدة مستديرة حول واقع المرأة ودورها في الثورة المصرية، في ضوء التحولات التي تطرأ على المجتمع، يتحدث فيها كل من: منة عبد المنعم الصاوي مديرة الساقية، والدكتورة هالة يوسف مقرر المجلس القومي للسكان، والسفيرة منى عمر أمين عام المجلس القومي للمرأة، والدكتورة أميمة إدريس أستاذة النساء والتوليد بطب قصر العيني. كما يتحدث عن رؤيتهم للمرأة ودورها في حياتهم، عدد من الشخصيات العامة منهم الدكتور حسام بدراوي أستاذ النساء والتوليد بطب قصر العيني، والدكتور عمرو حسن مدرس النساء والتوليد بطب قصر العيني.
وتتنوع الاحتفالات في الإسكندرية ومعظم أقاليم مصر، وتتسم بطابع سياحي ترفيهي وحفلات غناء في مدن شرم الشيخ والغردقة، والساحل الشمالي غرب القاهرة. وفي بروكسل قال مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات)، إن 40 في المائة من الفتيات في دول الاتحاد الأوروبي أكملن تعليمهن العالي، مقارنة بنسبة 32 في المائة من الرجال خلال عام 2012، كما بلغت نسبة من ترك التعليم والتدريب مبكرا 10.9 في المائة من الفتيات مقابل 14.4 في المائة من الشبان.
واختلفت النسبة بين دولة وأخرى في دول التكتل الموحد البالغ عددها حاليا 28 دولة، فمثلا وصلت النسبة في البرتغال لـ14.3 في المائة من الفتيات مقابل 27.1 في المائة من الأولاد، بينما وصلت في إسبانيا لـ20.8 في المائة للفتيات مقابل 28.8 في المائة بين الشبان. وقلت النسبة في دول أخرى مثل النمسا، حيث بلغت بين الفتيات 7.3 في المائة وبين الشبان 7.9 في المائة.
وأظهرت الأرقام الأوروبية أن أصغر الفوارق بين الرجال والنساء بعد الانتهاء من التعليم العالي كانت في النمسا وألمانيا ولوكسمبورغ. وبشكل إجمالي فقد وصلت نسبة النساء اللاتي حصلن على التعليم العالي في الاتحاد الأوروبي في عام 2012 إلى 39.9 في المائة. وتتراوح أعمارهن بين 30 و34 سنة، بينما وصلت النسبة بين الرجال لـ31.5 في المائة وفي نفس المرحلة السنية. ولوحظت النسب الأعلى في الفوارق في دول مثل إستونيا ولاتفيا وسلوفينيا والدنمارك، بينما قلت النسبة في النمسا وألمانيا ولوكسمبورغ.
كما اختلفت مجالات الدراسة اختلافا كبيرا بين النساء والرجال في دول الاتحاد الأوروبي. وتفوقت النساء بشكل كبير في دراسة الهندسة. وقالت المفوضية الأوروبية ببروكسل إن المساواة بين الرجل والمرأة هي حق أساسي من المبادئ التأسيسية للاتحاد الأوروبي تماما مثل الحق في المساواة في الأجور المنصوص عليها في المعاهدات التأسيسية منذ عام 1957. وأشار بيان للمفوضية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة إلى أن أوروبا حققت تقدما كبيرا في مسألة المساواة بين الجنسين، حيث قامت على مدار نصف قرن بتطوير القوانين التي تضمن المساواة في الأجر عن نفس العمل وأيضا المساواة في مكان العمل والحصول على الحقوق الأخرى مثل إجازة الأمومة، وأصبحت المبادئ التأسيسية للاتحاد واقعا ملموسا في الحياة اليومية للأوروبيين. ولكن مع ذلك يعترف الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي بأن بعض الاختلافات لا تزال موجودة، ويتعين على أوروبا أن تواصل سعيها لتحقيق كامل المساواة خلال السنوات المقبلة. واعتمدت المفوضية توصية تطالب الدول الأعضاء بتحسين الشفافية في الأجور بين النساء والرجال ومحاولة سد الفجوة في الأجور بين الجنسين، ويتعين على الدول الأعضاء أن تقدم للمفوضية تقريرا عن الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ تلك التوصيات بحلول نهاية عام 2015.
وقال نائب رئيس المفوضية الأوروبية فيفيان ريدينغ «لا ينبغي أن تحصل المرأة على مقابل مادي أقل من الرجل، ولا بد من قدر أكبر من الشفافية، وسد الفجوة في الأجور بين الجنسين، ونأمل أن تأخذ الدول الأعضاء بهذا التحدي، وتسعى إلى تغيير ما هو معروف من حصول المرأة على أجر أقل من الرجل».
وعلى صعيد الدول الأعضاء، قال مركز المساواة بين الجنسين في بلجيكا، إن دخل الرجل شهريا يزيد على دخل المرأة بمقدار 250 يورو.
وتشكل المرأة 45 في المائة من قوة العمل في البلاد كما تشغل السيدات مراكز قيادية في العمل بنسبة 34 في المائة والباقي للرجال.
ويشكل الفرق بين أجر المرأة والرجل ما يصل إلى ثلاثة مليارات و587 مليون يورو في العام لصالح الرجل، ولكن البعض يرجع ذلك إلى وجود عدد كبير من النساء لا يعملن الوقت الكامل ويشكلن 45 في المائة من عدد النساء العاملات.
ويصل الفرق بين أجر الرجل والمرأة في الساعة إلى 10 في المائة لصالح الرجل في بعض القطاعات، بينما يصل إلى أرقام أخرى في قطاعات مختلفة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)