مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

تحوي صورًا تعود للقرن الـ18.. وكان من زوارها نجيب محفوظ وأمينة رزق والرئيس محمد نجيب

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
TT

مكتبة {لينرت ولاندروك} بالقاهرة.. متحف لبدايات الفوتوغرافيا في الشرق الأوسط

صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف
صورة لقاعات عرض الصور الفوتوغرافية النادرة إلى جانب الكتب بمختلف اللغات، صورة من بدايات القرن العشرين لمقر المكتبة العريقة بشارع شريف

بواجهة زجاجية كلاسيكية في شارع شريف بوسط القاهرة، تقبع مكتبة عتيقة تعرض كتبًا بشتى اللغات وقطعًا فنية تحمل التراث المصري والفرعوني، اشتهرت باسم «المكتبة الألمانية» نظرًا لأنها الوحيدة المتخصصة في بيع كتب بالألمانية بالقاهرة. إنها مكتبة «لينرت ولاندروك» أقدم المكتبات الأجنبية في مصر والشرق الأوسط.
حوائط وجدران المكتبة تنضح بالتراث الشرقي والمصري، تحمل لقطات من حكايات البشر المرئية ترويها وجوه وملامح مصريين عاشوا عبر عقود مضت، وصور تحمل نفحات من تاريخ مصر ومعالمها الشهيرة وكيف جرت عليها تقلبات الزمن عبر أكثر من 100 عام. يعود تاريخ مكتبة «لينرت ولاندروك» إلى عام 1904 إلا أن ما تحويه من صور يعود تاريخها إلى ما هو أقدم، فهو يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر.
بمجرد دخولك للمكتبة سوف تنسى الوقت وتهيم في روعة الصور الفوتوغرافية التي التقطتها عدسات الفنان «لينرت رودلف فرانز» (1878 - 1948) المولود في بوهيميا بأوروبا الوسطى آنذاك، وكان عاشقا للتصوير ومفتونا بالفوتوغرافيا، وكان يتجول حاملا الكاميرا في أنحاء أوروبا سيرا على الأقدام يلتقط كل ما يلفت ناظريه إلى أن وصل إلى إسبانيا فشخص ببصره نحو الشرق، قادته روح الاستكشاف إلى تونس عام 1903 وبهره سحرها؛ ففيها عرف سحر الشرق وعشق التراث العربي. وهناك التقى بصديق عمره رجل الأعمال «لاندروك أرنست هينرش» (1878 - 1966) المولود في مقاطعة «راينسدوف ساكسون» الألمانية، والذي شاركه الهوس بفكرة تصوير الأماكن والأشخاص، واتفقا على شراكة تجمعهما يقوم فيها لينرت بالتصوير والإبداع، ولاندروك بالتمويل وتولي عملية بيع الصور وتسويقها. ويروي د. إدوارد لامبلييه، حفيد لاندروك لـ«الشرق الأوسط»: «كان لينرت يمتلك بصيرة ورؤية فنان محترف، فكان دوما يقول: (ما أقوم به سوف يخلده التاريخ)، وسانده لاندروك وبعد عودتهما لسويسرا قررا العودة مرة أخرى لتونس فقام بتوثيق الحياة اليومية فيها وصحرائها ووديانها وبيوتها، والرجال والنساء بأزيائهم، واتفقا على أن يؤسسا مكانا لبيع الصور في أشهر شوارعها آنذاك شارع فرنسا». ومن تونس الخضراء إلى مصر، ساقهما الشغف والولع بالتصوير إلى أرض الكنوز الفرعونية التي تجذب البعثات والمستكشفين، فحققا نجاحا كبيرا، لكن ما إن نشبت الحرب العالمية الأولى واجه الصديقان وهوايتهما خطرا محدقا، حيث ظن الفرنسيون أنهم ألمان، فتم تأميم محلهما بتونس ونزعت ملكيته، فقرر لينرت السفر وأقام قليلا في الجزائر، وحينما حاول لاندروك اللحاق به اعتقل وتم ترحيله إلى سويسرا.
يستطرد لامبلييه: «عاد لينرت إلى سويسرا حتى خروج صديقه من السجن وتزوج لينرت من أوجيني شميت من إلزاسيا التابعة لفرنسا حاليا، وتزوج لاندروك من إميليه لامبليه من تورجاو بسويسرا، وأسسا عام 1920 شركة باسم ناشر وفنون شرقية ومقرها بالعقار رقم 11 بشارع إمبليان في مدينة لايتسيك».
يذهب لامبلييه إلى دولاب عرض زجاجي يحوي أقدم الكاميرات الفوتوغرافية وآلات لعرض الصور الفوتوغرافية في العالم، أشبه بصندوق الصور الذي يلهو به الأطفال، وأختام «لينرت لاندروك» الأصلية، متأملا صور جده وصديقه وما صنعاه على مر السنين، ويروي بفخر شديد، وهو ينظر إلى ثروته الثمينة التي لا يرغب في التفريط فيها، قائلا: «في عام 1924 عاد (لاندروك) إلى مصر مع زوجته وابنها كورت لامبلييه وهو والدي وكان ابنها من زوج سابق، كما عاد لينرت مع زوجته وابنتهما إيليان، نزلا بالإسكندرية بعد رحلة بحرية على متن الباخرة الإيطالية تيفيري، وفي القاهرة أسسا (شركة لينرت ولاندروك) في عمارة (بناني) رقم 21 بشارع عدلي بوسط القاهرة. بعدها أسسا مقرا بشارع الجمهورية، لعرض بطاقات بريدية وصور ومطبوعات فنية وكروت المعايدة، وكان موقعه ما بين فندقي شبرد والكونتيننتال، جاب لينرت خلال هذه الفترة مصر من الإسكندرية للنوبة، مصورًا ما كانت عليه الحياة في مصر وترك لنا تراثا ثريا من آلاف الصور النادرة».
ويشير حفيد لاندروك إلى أن لينرت جذبه الحنين مرة أخرى لتونس، «باع نصيبه لجدي ورحل لتونس عام 1930 ليستقر في واحة (جفسة) ومكث بها حتى وافته المنية عام 1948». وظل لاندروك وابنه لزوجته كورت لامبليه يحافظان على تجارة الصور والكروت وتوسعا ببيع الكتب التاريخية والسياحية عن مصر وأوروبا باللغات الأجنبية، حتى ذاع صيت المكتبة واستطاعا الصمود رغم كل الصعوبات والحروب والأزمات الاقتصادية التي مرت بمصر خلال القرن العشرين، بل ودخلا مجال النشر أيضًا وأدخلا تقنية الصور الملونة إلى مصر. توفي الجد لاندروك تاركًا لكورت لامبليه تركة عظيمة، حافظ عليها وساعده ابنه د. إدوارد في الحفاظ على صيت ومكانه المكتبة، رغم أن الاحتلال البريطاني أغلقها من قبل بسبب اعتقاده أنهم ألمان، ولكن بعد فترة عادت المكتبة أقوى وبقرار من وزير الثقافة المصري د. ثروت عكاشة تم افتتاح فرع لها بداخل المتحف المصري لعرض الصور الرائعة التي تؤرخ لتاريخ مصر البشري للسائحين.
استطاع سعيد محمد وحسن رزق المسؤولان عن إدارة المكتبة اكتشاف «الأفلام الزجاجية» في أحد مخازن المكتبة عام 1982 بعد أن كانت مهملة، وأبلغا مالكها إدوارد لامبلييه، الذي فرح كثيرا وقرر إعادة طباعة صور لينرت الأصلية بجودة ممتازة، مما لقي إعجاب عدد كبير من عشاق التراث المصري والشرقي وسحر الأبيض والأسود، وكان من بينهم: الصحافي والأديب الفرنسي فيليب كاردينال، الذي كتب مقالا عن هذا العمل ونشر عنه كتابين باللغة الفرنسية، كما شجعه تشارلز هنري فافرود، مدير متحف الإليزيه بلوزان بسويسرا، وأقام للصور النادرة معرضا في سويسرا، كما حثه على أن يتم الاحتفاظ بأصل الألواح الزجاجية في المتحف بسويسرا. ورغم ما مرت به مصر، وتأميم المكتبة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن إدوارد لامبلييه لم يرغب قط في مغادرة مصر، بل اضطر مرغما لدراسة الجيولوجيا في سويسرا، وما إن سنحت له الفرصة للعودة عاد لمصر واستطاع إعادة افتتاح المكتبة، فلم يستسلم كما فعل عدد كبير من الأجانب من مختلف الجنسيات الذين ولدوا بمصر وهجروها، بل أصر على الحفاظ على تاريخ المكتبة ودورها، فهو عاشق لمصر ويسافر فقط لزيارة ابنته وأحفاده ويعود ليحرس كنوزه.
اصطحبني سعيد محمد، مدير المكتبة، في جولة بين مقتنيات المكتبة وقد صنفت بعناية تامة، كتب بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، في مجالات العلوم الإنسانية والهندسة والطب واللغات والروايات الأجنبية، وأخرى لتعليم الأطفال اللغات. وفيما يشبه قاعة عرض منفصلة تضم أروع ما صورت عدسات لينرت، توجد أرفف لألبومات صور نادرة لفلسطين والقدس قبل الاحتلال الصهيوني، والتي تعد وثائق تاريخية للدفاع عن الأرض الفلسطينية، وأخرى لتونس والجزائر، وأخرى لمصر وهي أكثرها عددا وتم تصنيفها حسب فترات زمنية وحسب الأماكن والمحافظات التي التقطت بها، فضلا عن صور لعدة مدن أوروبية تعود لبدايات القرن العشرين، يحكي سعيد ونحن نتجول بين ممرات المكتبة العامرة: «طورنا من تقنية طباعة الصور فأصبح يمكن للزائر اختيار الصورة التي يريد اقتناءها ونوع الورق أو القماش ونوع الإطار لنعدها له ويمكنه إهداؤها كتذكار قيم، كما يأتي إلينا عدد من المخرجين والسينمائيين لتصوير بعض مشاهد الأفلام والمسلسلات أو لاقتناء صور تفيد في السياق الدرامي لأفلامهم خاصة الوثائقية»، وحينما سألته عن أشهر زوار المكتبة الذين قابلهم طوال سنوات عمله التي تخطت الثلاثين عاما، قال شاردا للحظات: «أتذكر جيدا في بداية عملي هنا أول رئيس لمصر الرئيس محمد نجيب كان يأتي لاقتناء المجلات الأجنبية التي كنا متخصصين في بيعها، كذلك السيدة أمينة رزق، وبالطبع الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يمر من آن لآخر لاقتناء بعض الموسوعات الأجنبية بالإنجليزية والفرنسية، كذلك أيضًا أتذكر المخرج يوسف شاهين، ومؤخرا الأديب علاء الأسواني الذي كان يقتني كتب طب الأسنان بالإنجليزية، وآخرين كثر لكن ذاكرتي لا تسعفني لتذكر الجميع»، ويأتي سعيد بكتاب مصور ضخم بعنوان «Egypt The Land of Pharaohs: In the historical Photographs»، كاشفا عن المقدمة الإنجليزية الممهورة بقلم نجيب محفوظ والتي كتب فيها: «نشأت أسمع عن لينرت ولاندروك وقد احتفظت بصورهم التي ظلت معي حينما كنت أشق طريقي في الحياة»، وهذا الكتاب من إصدارات المكتبة، مشيرًا إلى أنه نظرا للإقبال على الصور الفوتوغرافية لمصر زمان تسعى المكتبة من حين لآخر لإصدار مجموعات لينرت ولاندروك في كتب مصورة ذات طباعة فاخرة لتصل للأجيال القادمة.
وكما هو حال اللوحات والأعمال الفنية الأصلية لكبار الفنانين في العالم، تمنحك «لينرت ولاندروك» شهادة موثقة تثبت بأنك تمتلك صورة أصلية من مجموعة لينرت ولاندروك النادرة بتقنية النيجاتيف الزجاجي. وبأسى شديد يقول سعيد: «للأسف نعاني من سرقة صورنا وتزييفها وإعادة طبعها، وحاليا نخوض ضد هؤلاء المزورين معارك قضائية للحفاظ على حقوق الملكية، كما أن الكثير من الصور الخاصة بنا انتشرت على الإنترنت لكن أكثر ما يسعدني هو حب الشباب لتاريخ بلادهم وحنينهم لحقب لم يعايشوها»، مشيرًا إلى صورة للرجل القارئ التي يتم تداولها بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تجسد رجلا بملابس رثة يقرأ بانهماك وسط أرفف من الكتب.
في الطابق العلوي للمكتبة، التقينا المدير الآخر للمكتبة حسن رزق، الذي تجول معنا فيما يشبه قاعة عرض متحفي أخرى، وإنما للفنانين المصريين المعاصرين، تضم مشغولات يدوية ومنحوتات ولوحات زيتية صنعتها أنامل فنانين موهوبين من مختلف محافظات مصر بداية من أسوان وحتى سيوة وسيناء، ويقول: «نحاول دعم الفنانين الشباب بتقديم أعمالهم وعرضها للبيع والترويج للفلكلور المصري بمختلف صوره، وهنا يمكن لزوار المكتبة الاستراحة واحتساء كوب من القهوة أو الشاي والاستمتاع والتجول بناظرهم وسط المعروضات المبهرة، كما نستضيف حفلات توقيع للكتب ومعارض فنية». التجول في أرجاء المكتبة متعة لا نظير لها، فبعد مرور 4 ساعات ما بين أرجائها، شعرت أنه لن يكفيني يوما كاملا للاطلاع على كنوزها، واقتناء كل ما أستطيع منه، ما بين الصور والبراويز واللوحات والكتب المصورة والروزنامات الرائعة التي تحمل صورًا رائعة لمصر، أو القطع الخزفية والرخامية والمزهريات والثريات المصنوعة من الملح السيوي أو المشغولات السيناوية وغيرها، ولكن للأسف قلة من المصريين يترددون على المكتبة وأكثرهم من دارسي الألمانية واللغات الأجنبية، ويظل أكثر زوارها من الأجانب المقيمين أو الذين ولدوا في مصر وعايشوا مجد هذه المكتبة ويعرفون قيمة ما بها من كنوز يصطحبون أبناءهم وأحفادهم للتعرف على تاريخ البلد التي نشأوا فيها يقتنون نفحات منه لكن عبر الصور التي تخلده.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».