في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

من كانط إلى التباين الإنجليزي الفرنسي في تعريفها كحقل معرفي

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا
TT

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

يمكن اختزال جوهر الدرس الإبستمولوجي، في كونه تنبيها إلى ضرورة مساءلة المعرفة من حيث شروط وأدوات إنتاجها، وعلى الرغم من أن هذا النوع من البحث كان متداولا إلى، حد ما، في الفكر المنطقي والفلسفي القديم، فإن الإرهاص بتأسيسه، يرجع إلى القرن الثامن عشر مع الفلسفة النقدية الكانطية. والنقد في المعجم الكانطي لا يفيد الدحض، بل يفيد بيان حدود الصلاحية والاستعمال. وقد طرح بخصوص استعمال العقل. ومن هنا فقد كان السؤال النقدي الكانطي سؤالا يدل على تنبّه إلى التفكير في الأداة (العقل)، بدل الاستغراق في استعمالها، أي تفكير في العقل بدل الاقتصار على استعماله للتفكير في غيره. وإن كنت أرى أن كانط ذاته، لم يتنبه إلى ضرورة الوقوف، بتواضع، عند حدود إمكانات العقل التي قررها هو نفسه، حيث خلص إلى مجموعة من الأحكام، أصدرها فيما يخص حقيقة الفكر وطبيعته القبلية، متناسيًا أنه منهجيًا يقول باستحالة بلوغ الحقيقة الماهوية للوجود. لكن على الرغم من هذه المفارقة الواضحة في فلسفة كانط، فإن مشروعه النقدي أسَّس لثورة معرفية قلبت دفة الفكر الفلسفي الأوروبي من أولوية الإشكال الوجودي (الأنطولوجي) إلى أولوية الإشكال المعرفي (الإبستمولوجي). بمعنى بدل الإيغال في بحث أسئلة الوجود، أسهم كانط في إيقاظ العقل الفلسفي، ليبحث ابتداء مدى قدرته على الإجابة عن الأسئلة الوجودية. وبذلك تم تسييد مبحث نظرية المعرفة في مرتبة الأولوية. وهنا أشير إلى مسألة إغفال كثير من مؤرخي الفلسفة عن إدراك إسهامها ودورها. وهي أن حصيلة التفكير في الأسئلة الوجودية الكبرى كانت هي المناسبة الدافعة إلى إدراك محدودية العقل. ومن ثم فإن السؤال الديني كان هو المهماز الحافز للتساؤل عن إمكانات المعرفة ومحدودية أدواتها. ولذا لا بد من إعادة الاعتبار إلى هذا الدور المنهجي الذي قام به هذا السؤال أثناء التأريخ لتبلور الوعي الإبتسمولوجي.
وإذا كانت المساءلة الكانطية لقدرات العقل قد دفعت بمبحث نظرية المعرفة إلى مرتبة الأولوية في الفكر الفلسفي، فإن القرن التاسع عشر هو الذي سيشهد التأسيس الفعلي للإبستمولوجيا كحقل معرفي خاص. وذلك بسبب ما شهده من أزمات معرفية، مسّت الأسس المفاهيمية الكبرى التي ترتكز عليها العلوم الرياضية والمنطقية، حيث لم تقتصر الأزمة على مجرد إشكالات جزئية، بل أفرزت إشكالات بنائية عميقة.
فما دلالة هذا الحقل المعرفي المعاصر؟
على الرغم من الإشكالات والالتباسات التي تحوط هذا الحقل «الجديد»، الراجعة إلى طبيعته الموضوعية والمنهجية، تلك الالتباسات التي تزيد في تعميقها الاختلافات السائدة بين تيارات الإبستمولوجيا واتجاهاتها، فإنه في سبيل تعريف المفهوم، يمكن أن نوظف مسلكًا قد يبدو سطحيًا، ولكنه مقدمة ضرورية لإنجاز مقاربة دلالية، ولو في مستوياتها الأولية. ونقصد بهذا المسلك، التحديد اللغوي للفظ إبستمولوجيا، فهذا اللفظ إن كان قد استعمله جيمس فيرير Ferrier سنة 1854، في مقابل الأنطولوجيا، بقصد تعريف موضوعات الفلسفة ومباحثها، فإنه من حيث بناؤه اللغوي يتكون من كلمتين إغريقيتين هما: «إبستمي»، وتعني من بين ما تعنيه في اللسان اليوناني العلم، ولوجي: وتفيد الخطاب، كما تفيد العلم أيضًا. ومن ثم تكون الدلالة الحرفية للفظ «إبستمولوجيا» هي: علم العلم، أي خطاب يتخذ العلم موضوعًا له.
هذا من حيث المقاربة الدلالية اللغوية، أما من حيث الاصطلاح، فقد تعددت التعريفات واختلفت: فالفيلسوف الفرنسي كانجيليم، يعرف الإبستمولوجيا بكونها «وعيًا نقديًا تجاه المناهج». في حين يذهب لالاند في معجمه الفلسفي الشهير، إلى أنها «ليست دراسة المناهج العلمية»، لأن هذه الدراسة من اختصاص الميثودولوجيا وليس الإبستمولوجيا.
وفي معجم روبير الفرنسي، نجدها تعرف بوصفها «دراسة خاصة للعلوم تهدف إلى تحديد أصولها المنطقية وقيمتها»، لكن إذا كان هذا التعريف يركز على المقاربة المنطقية للعلوم، فإن ثمة تعريفات أخرى تركز على الاشتغال العلمي ذاته، كإجراءات وأبحاث: فالفيلسوف غرانجي مثلا، يحدد الإبستمولوجيا بكونها «دراسة خاصة للعلوم ولتطور مشكلاتها»، وهو بذلك يجعلها موصولة على نحو داخلي بتطور المعرفة العلمية وإجرائها العملي.
والواقع أن هذا الاختلاف في تحديد طبيعة الاشتغال الإبستمولوجي، ليس مجرد اختلاف بين باحثين أو ثلاثة، بل هو يقسم فلاسفة العلم إلى شطرين، حيث يذهب قسم منهم، كجون ستيوارت مل، وبرتراند راسل، وكارل بوبر، غالبا، إلى النحو منحى التقليد الكانطي، فيحددون الشروط المنطقية والنظرية للعلم، بينما يذهب قسم آخر إلى النحو منحى البحث في آليات اشتغال العلوم في صيغها التطبيقية، مثل بيير دوهيم، وإرنست ماخ، ولوتمان وكانجيليم.
إضافة إلى هذا الاختلاف، فثمة تباين يمكن تصنيفه من منظور جغرافي، إذ إن الإنجليز يحددون الإبستمولوجيا بوصفها «نظرية المعرفة»، بينما التقليد الفرنسي يذهب إلى اعتبارها «نظرية العلوم». وتماشيًا مع هذا التقليد، نجد لالاند يعرفها بـ«الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ولفرضياتها ونتائجها، بقصد تحديد أصلها المنطقي لا السيكولوجي، وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية».
وثمة نقاش سائد بين الباحثين حول أي الدلالتين أدق في توصيف مبحث الإبستمولوجيا، أهي الدلالة الإنجليزية أم الفرنسية؟ وهناك اجتهادات تميل إلى تغليب هذا الطرف، وأخرى تميل إلى ترجيح الآخر. غير أن هذه الاجتهادات في عمومها، محكومة بهاجس الإقليمية لا بهاجس المعرفة! أو لنقل بتعبير مخفف، إنها محكومة بالذوق الفكري السائد، ومتأثرة به.
ويبدو لي أن الخلاف بين هذين التقليدين ليس بالخلاف الجذري الذي يصعب على المرء أن يذهل عن المشترك بينهما. بل إن الإيغال في محاولة إبرازه أو التخفيف منه، يدفع إلى نسيان الأهم، وهو أن هذين التعريفين معا يحتاجان إلى مراجعة. وفي سبيل إيضاح رؤيتنا، يمكن أن نوجز ذلك فيما يلي:
أولا، من حيث الدلالة، فلا بد من توسيع حقلها لتصير الإبستمولوجيا خطابا نقديا في المعرفة عامة، سواء كانت علمية بحصر المعنى (أي العلوم الدقيقة)، أو كانت علومًا إنسانية، أو حقولا معرفية فنية.
ثم ثانيا، إن الإبستمولوجيا هي أيضًا خطاب في المعرفة ومنتجاتها. وبذلك لا تدخل في مجالها كل أنماط المعرفة فحسب، بل إنه بالتنصيص على منتجاتها، فإننا بذلك ندخل، فيما يخص المعرفة العلمية، التقنية كموضوع يستوجب التفكير والمساءلة الإبستمولوجية. ومن ثم يمثل هنا السؤال الأخلاقي، الذي نرى اليوم أنه أخذ في الحضور، ولو باحتشام في فلسفة العلم، لكننا ندعو إلى جعله جزءا من صلب الاهتمام الإبستمولوجي وليس مجرد تأمل خارجي عن العلم. خصوصًا أن التقنية ليست مجرد كينونة آلية، بل هي نمط في التفكير أيضًا.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.