كان المؤرخ البريطاني الإنساني الكبير إريك هوبزباوم يكره القرن العشرين، لأنه قرن حربين عالميتين، وقرن العنف، والهجرة، وبشكل خاص، القرن الذي استخدم فيه حاكم، للمرة الأولى في التاريخ، الأسلحة الكيمائية ضد شعبه. سكت العالم الغربي آنذاك على الجريمة. كان ذلك الحاكم «رجلهم، ولو كان رجلا سيئا»، حسب تعبير مارغريت تاتشر التي فرضت «ضريبة الرأس» السيئة الصيت على كل إنسان يتنفس. وأنكرت أميركا حينها أن الوحش العراقي قد استخدم الأسلحة الكيمائية.
قرن مضطرب وقف مؤرخه الكبير أمامه عاجزا: «إننا اليوم لا نعرف إلى أين نسير. كل ما نعرفه هو أن التاريخ أوصلنا إلى هذه النقطة. ومهما يكن في الأمر، فإن ثمة أمرًا واحدًا يبدو واضحًا: إذا كان للبشرية أن تعيش مستقبلاً يمكن التعرف إليه، فإنه لن يكون عن طريق إطالة الماضي أو الحاضر، فإذا ما حاولنا بناء الألفية الثالثة على هذه الأسس، سنخفق بالتأكيد. أما ثمن الإخفاق، البديل الوحيد عن ضرورة تغيير المجتمع، فلن يكون سوى الظلمات».
وها هي الظلمات تحل، والقرن لا يكاد يبتدئ بعد. حاكم آخر يستخدم الأسلحة الكيمائية ضد شعبه، تتوعده القوة الكبرى، ثم تسكت على عبور الخط الأحمر. وها هي الهجرة تكاد تتجاوز كل الهجرات في القرن العشرين مجتمعة. إنه الاقتلاع الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. وها هو العنف حر يجول أينما يشاء، عنف عالمي عابر للحدود.
إلى أين نسير؟
إذا كان هوبزباوم العظيم لا يعرف أين نسير، فكيف نعرف نحن؟
«صدام الحضارات»، لم يعد له معنى. أصبح أقرب إلى نكتة سمجة. وصارت أطروحة «الشرق» و«الغرب»، اللذين لا يلتقيان، أقرب إلى قصة خرافية. ها هما يلتقيان ربما للمرة الأولى في التاريخ. يلتقيان بالعنف. ها هما ضحيتان، مرعوبتان من فرانكنشتاين يجول في الأرض، فرانكنشتاين لم يهبط من السماء بل خلقناه في مصانعنا الأرضية. شكلناه عضوًا عضوًا في تاريخنا، وسياساتنا، وحماقاتنا، غربًا وشرقًا. إنه ابننا، وإن أنكرناه، ولم نقيّد اسمه في سجلات الأحوال المدنية.
ما العمل؟ يقول لنا هوبزباوم إن «الحل لن يكون عن طريق إطالة الماضي أو الحاضر»، ويقصد ضرورة تجاوزهما بالطبع. ولكن كيف يمكن تجاوزهما إن لم نفهمهما أصلاً؟ يتحدث هوبزباوم هنا عن التاريخ الإنساني ككل. ولكن أركون، المتخصص في التاريخ الإسلامي، أكثر تحديدًا. إنه يوصينا بأن نفكك «الحلقات العصية» في تاريخنا الإسلامي والعربي، لنعرف كيف تسلل هذا الابن الشرعي، أو غير الشرعي إن شئتم، من أرحامنا، وتغذى حتى نما واستطال عملاقًا، يسرح ويمرح كما يشاء في مساحة إنسانية وجغرافية كبرى، من الشرق إلى الغرب، زارعا الموت والدمار. لم يحدث في التاريخ أن استطاعت منظمات موت كهذه أن تتحول بسرعة عجيبة إلى منظمات أممية. أين الخلل؟
كيف يحدث ذلك في غفلة من الجميع؟ أسئلة يرددها البشر من أقصى المعمورة إلى أقصى المعمورة. ذهول مطلق يخيم على البشرية الجمعاء. كيف كبرت الوحوش فجأة، بهذا الشكل؟ لا أحد يعرف.. أم يعرفون؟ كان العالم واضحًا، مقسمًا بين هذا وذاك، بين هذا الفكر وذاك، ثم لم نعد نعرف شيئًا.
هل دخلنا عصر الاضطراب الكبير في التاريخ؟ يبدو أن الأمر كذلك. وبالطبع، ليس بالمعنى الذي يقصده فرانسيس فوكوياما في كتابه المعنون بهذا الاسم، الذي يتحدث فيه عن تصدع المجتمعات، ويقصد الغربية، خصوصًا الأميركية، نتيجة ما يسميه التدهور الأخلاقي منذ الستينات. الأمر أبعد وأعقد من تحليل فوكوياما الذي تحول، كما يبدو، إلى مبشر أخلاقي يذكر بأبيه القس الذي هاجر من اليابان، أكثر منه مفكرًا ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أطلق كتابه الشهير «نهاية التاريخ».
اضطراب متسارع يلف البشرية جمعاء، ربما فاجأ كل المنظرين المسترخين في غرفهم. قلق مما سيحدث غدًا، وإلى أين نحن سائرون. أسئلة تقرأها في وجوه الناس. قلق لم يعد محصورًا على بغداد ودمشق، وبيروت والقاهرة، وتونس وطرابلس، بل تحسه يدب في شوارع باريس وبرلين، وبروكسيل ونيويورك. سقطت كل النظريات التي تقسم العالم إلى شرق وغرب، وشمال وجنوب. ها نحن قرية واحدة. ها هو العنف يوحدنا!
عصر الاضطراب الكبير
عصر الاضطراب الكبير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة