صناديق وحقائب تختزل فن السفر في الماضي والحاضر

معرض «طِر.. أبحر وسافر» في باريس .. رحلة ممتعة تعكس التطورات الاجتماعية والاقتصادية

كانت المدة التي يقضيها المسافر بعيدًا عن بيته تتطلب صناديق على شكل خزانات لحفظ كل أغراضه و أول ما تستقبلك عند دخول المعرض صورة المؤسس لويس فويتون بريشة الرسام الصيني بيي مينغ و وزير الثقافة الفرنسي مايكل بيرك  عند افتتاح المعرض يوم الأربعاء الماضي و تطور أساليب السفر تطلب تصاميم جديدة مثل تغيير الخامات والأحجام مع تطور الطيران الجوي و جانب من المعرض
كانت المدة التي يقضيها المسافر بعيدًا عن بيته تتطلب صناديق على شكل خزانات لحفظ كل أغراضه و أول ما تستقبلك عند دخول المعرض صورة المؤسس لويس فويتون بريشة الرسام الصيني بيي مينغ و وزير الثقافة الفرنسي مايكل بيرك عند افتتاح المعرض يوم الأربعاء الماضي و تطور أساليب السفر تطلب تصاميم جديدة مثل تغيير الخامات والأحجام مع تطور الطيران الجوي و جانب من المعرض
TT

صناديق وحقائب تختزل فن السفر في الماضي والحاضر

كانت المدة التي يقضيها المسافر بعيدًا عن بيته تتطلب صناديق على شكل خزانات لحفظ كل أغراضه و أول ما تستقبلك عند دخول المعرض صورة المؤسس لويس فويتون بريشة الرسام الصيني بيي مينغ و وزير الثقافة الفرنسي مايكل بيرك  عند افتتاح المعرض يوم الأربعاء الماضي و تطور أساليب السفر تطلب تصاميم جديدة مثل تغيير الخامات والأحجام مع تطور الطيران الجوي و جانب من المعرض
كانت المدة التي يقضيها المسافر بعيدًا عن بيته تتطلب صناديق على شكل خزانات لحفظ كل أغراضه و أول ما تستقبلك عند دخول المعرض صورة المؤسس لويس فويتون بريشة الرسام الصيني بيي مينغ و وزير الثقافة الفرنسي مايكل بيرك عند افتتاح المعرض يوم الأربعاء الماضي و تطور أساليب السفر تطلب تصاميم جديدة مثل تغيير الخامات والأحجام مع تطور الطيران الجوي و جانب من المعرض

معرض آخر تفتتحه دار «لويس فويتون» هذا الأسبوع في باريس، بعد معرض عن الحرفية نظمته في «أسنيير سير سين»، مقر إقامة عائلة لويس فويتون، وآخر في لندن كانت أعمال مصممها الحالي نيكولا غيسكيير البطل فيه، وأخيرا وليس آخرا، معرض بعنوان «فولي، فوغي، فواياجي» Volez! Voguez! Voyagez! أي «طر.. أبحر وسافر» تحتفل فيه الدار بفن السفر منذ انطلاقها في عام 1854 إلى اليوم.
ثلاثة معارض في عام واحد تشير إلى أن العملية، بكل أشكالها وأهدافها الفنية والتجارية، أصبحت تجري في دماء الدار الفرنسية وجزءًا من ثقافتها. المعرض الأخير، مقام في «لوغران باليه» وممتد إلى شهر فبراير (شباط) من العام المقبل، ويشكل قراءة ممتعة لبداية الدار وعلاقتها الوطيدة بالسفر، من خلال تخصصها في صناعة حقائب تأخذ بعين الاعتبار تغيرات كل حقبة ومتطلباتها. يمكن القول أيضًا، إنه درس في فن السفر: كيف تطور وكيف أثر على الموضة، لأن المتتبع لتسلسل المعرض، يكتشف أنه كلما تغيرت وسائل النقل وإيقاع الحياة، تغيرت التصاميم والخامات المستعملة والأحجام لتعكس هذه التغيرات.
السفر، حسب المعرض، لم يكن ولا يجب أن يكون، مجرد عملية تنقل الشخص من مطار إلى آخر، أو من وجهة إلى أخرى، لأنه ترف وحلم وفن يجب أن يعكس الذوق الرفيع والعملية في الوقت ذاته.
أمين المعرض، أوليفييه سايار، غير جديد في لعبة معارض بيوت الأزياء، فقد سبق أن نظمها لكل من «بالنسياجا»، و«كوم دي غارسون» وعز الدين علايا، وأكد فيها أنه لا يكتفي بالقشور، بل يتغلغل في الجذور ولا يترك شبرا إلا وينبشه ويخرجه إلى السطح حتى يأخذ حقه من الضوء. هنا، يبدو واضحا أنه اقتفى تطور فن السفر، الذي تخصصت فيه الدار الفرنسية، وكيف دخل عالم الموضة ليمنحها نفسا جديدا، سواء في حياتنا اليومية أو في الإجازات. ففي العهد القديم كانت الزبونات، حسب قوله: «أنيقات تقتدين بالإمبراطورة يوجيني، زوجة نابليون الثالث التي كانت تسافر كثيرا إلى الجزائر ومصر». وهذا يعني أنها كانت تريد أن تسافر بأناقة من دون أن تستغني عن أي غرض من شأنه أن يزيد من متعتها ويسهل حياتها، وهو ما كان يحتاج إلى حقائب ضخمة وعملية يتمتع بعضها بأدراج متعددة، وبعضها الآخر بمساحة كافية لاحتضان فستان فخم مصنوع بأمتار طويلة من الأقمشة التي لا تريدها أن تتجعد أو تتلف. الآن ومع تطور السفر وانتقاله من ترف إلى أسلوب حياة عادي، فإن خفة الوزن هي المطلوبة لحمل ما قل ودل، وهو ما انعكس على التصاميم العصرية، من حيث المواد أساسا لأن التصاميم لا تزال تستمد خطوطها من القديمة.
لهذا، إذا كنت مهتما بتطور هذه الحقائب كموضة، فإنك ستلحظ أن هذا الجانب شهد ازدهاره في عهد المصمم السابق مارك جايكوبس، حين جعلها جزءا من عروض الأزياء. ففي أول عرض قدمه للدار، أرسل عارضاته وهن يحملن حقائب يد في مشهد غير مسبوق، لأن المصممين من قبله، كانوا يركزون على الأزياء أولا وأخيرا. وقد يكون هو من زرع البذرة التي نتج عنها جنون الإكسسوارات، وتحديدا حقائب اليد. كان هو أيضًا من فتح باب التعاونات مع فنانين عالميين، نذكر منهم تاكاشي موراكامي وستيفن سبراوس على سبيل المثال لا الحصر.
مصممها الحالي نيكولا غيسكيير، لا يزال سائرا على نفس خطى سلفه، مضيفا لمساته، من تغيير اللوغو إلى التصاميم المبتكرة، التي تجعل كل حقيبة تظهر على منصات العرض تتحول إلى نجمة على وسائل التواصل الاجتماعي. فألوانها ونقشاتها وأشكالها «الصندوقية» تجعلها تبدو رائعة على الإنستغرام. ما قام به غيسكيير في هذه التصاميم أنه استلهم في الكثير منها صناديق السفر الكبيرة، وحولها إلى حقائب سهرة بأحجام صغيرة تؤكد نظرة فنية بعيدة المدى. تجدر الإشارة إلى أن الجنس الناعم لم يكن المستفيد الوحيد من هذا التاريخ وجمالياته، فالجنس الخشن له أيضًا نصيب منها، لأن كيم جونز مصمم الجانب الرجالي، يغرف بدوره من إرث الدار ويقدمه في كل موسم من خلال حقائب مبتكرة بنفحات رجولية، مثل حقيبة «ذي ستيمر»، التي ظهرت أول مرة، منذ عقود، كحقيبة غسيل في الباخرات قبل أن تتحول إلى حقيبة سفر مصنوعة من القطن، ثم عادت لتطل علينا بالجلد الطبيعي بأحجام كبيرة وخامات حديثة.
انطلق أوليفييه سايار، أمين المعرض هنا من فكرة بسيطة تختزلها صورة للمؤسس، لويس فويتون، بريشة الرسام الصيني بي مينغ، تستقبلك بمجرد دخولك أول قاعة، وتُحضرك لطبق دسم يلتقي فيه الماضي بالحاضر بأسلوب مدهش يعطي بعدا جديدا للترف من جهة ونعمة السفر من جهة ثانية.
فإلى جانب أعمال فنانين كبار من أمثال دايمون هيرست وستيفن سبراوس وغيرهما، فإن المعروضات في ثلاث قاعات تحديدا، ستبقى راسخة في الذهن لوقت طويل. هذه القاعات تسلط الضوء على حقائب صممت بعد ظهور السيارات، والقطارات والطائرات، وبالتالي تعكس التغيرات الاجتماعية وانعكاساتها على فن التصميم. في القاعة الأولى، نجد إكسسوارات أخرى مثل خوذة تعود إلى العشرينات من القرن الماضي كان يلبسها السائقون. في الثانية غطيت الجدران كاملة بالخشب الغامق، الأمر الذي يولد إحساسا كما لو كنا في قطار الشرق السريع، بكل غموضه وترفه. في القاعة المخصصة بالطيران الجوي، توسطت طائرة بمراوح مجموعة من الحقائب المعلقة على جانبيها وكأنها أجنحة تمنحها التوازن.
يكمل الزائر الرحلة ويدخل قاعات أخرى لا تقل دسامة، وتشرح كلها معنى السفر من خلال صناديق ضخمة، صممت بأسلوب يجعلها قابلة لحمل أغراض كثيرة، تتباين بين الأدوات المنزلية والأزياء، لتذكره بأن وسيلة السفر الدارجة منذ أكثر من قرن، أي قبل ظهور الطائرات والسيارات، كانت هي البواخر، وهذه كانت تستغرق وقتا طويلا يحتم على المسافر أن يأخذ معه كل ما استطاع حمله من أغراض شخصية. وحتى عندما يصل إلى وجهته، فإن هذا المسافر كان يقضي وقتا طويلا فيها، لأنه من غير المعقول أن يُبحر لأسابيع طويلة فقط ليعود بعد فترة قصيرة.
بملء أوليفييه سايار هذه الصناديق بالأزياء أو الإكسسوارات وغيرها من الأغراض التي كانت ترافق أصحابها في تنقلاتهم، أعطانا صورة شاملة عن ثقافة السفر في ذلك الوقت. بعرض أزياء سهرة إلى جانبها، قدم لنا أيضًا مفهوم السفر كمتعة، لأنه كان مناسبة يلبس فيها المسافر أحسن ما لديه خلال الرحلة، حيث كانت كل مناسبة غداء أو عشاء بمثابة حفل لا يجب التنازل فيه عن الأناقة والذوق الاجتماعي. وحتى عندما تحول هؤلاء للسفر بالطائرات، فإنهم استمروا في هذا التقليد مع إدخال تغيرات بسيطة يحتمها حجم الطائرة والمدة الزمنية. الدليل أن النجمات في الستينات كن يصلن بعد ساعات طويلة من الطيران، وهن في كامل أناقتهن وكأنهن خارجات من صالون تجميل ومتوجهات لحفل أو جلسة تصوير.
تسع قاعات تنقلك من حقبة إلى أخرى، ومن وجهة إلى أخرى إلى حد أنك تشعر عندما تطأها قدماك وكأنك انتقلت زمنيا وجغرافيا. فكل قاعة تتميز بديكور مختلف يعكس الحقبة التي صممت فيها هذه الحقائب، منها مجموعة مرصوصة، مثلا، على خلفية تجسد تلالا من الرمال تستحضر حقبة استكشاف مقابر الفراعنة في مصر أو رحلات السافاري في أفريقيا، وأخرى بخلفية تعكس زرقة مياه لازوردية تأخذنا إلى وجهات صيفية مترفة مثل «كابري» و«الريفييرا» في الخمسينات والستينات، من دون أن ننسى قاعة مخصصة لحقائب صنعت لنجوم هوليوود، وعلى رأسهم إليزابيث تايلور التي تُعرض لها حقيبة خاصة كتب عليها كلمة «ماين» Mine. بل كانت هناك أيضًا حقيبة على شكل صندوق كبير صنعت للمصمم الراحل كريستيان ديور نفسه.
تكتشف في هذه الرحلة أن المؤسس، لويس فويتون، أدرك في عام 1854 أن السفر متعة يجب أن تجمع الأناقة بالراحة، بمعنى العملية، وهو لا تزال الدار تحرص عليه، وهو مفهوم ترسخ أكثر مع جورج فويتون، ابن المؤسس، حين اخترع في عام 1896 حقيبة مصنوعة من «الكنفس» رسمت عليها حروف الدار، وهو ما كان بمثابة ثورة في ذلك الوقت، لأن الحقائب كانت تصنع من الخشب والجلود أساسا.
لكن جورج كان مبتكرا يتمتع بنظرة مستقبلية، كما كانت له مساهمات مهمة في معارض متخصصة في الاكتشافات والاختراعات الجديدة، مثل معرض «يونيفرسال» الذي حضره نحو 48 مليون زائر في باريس في عام 1900، مثلا. كان هذا المعرض يقام في لو «غران باليه» مما يمكن أن يكون إشارة واضحة بأن الدار تريد أن تذكرنا بهذا المبتكر كما بأدق تفاصيل تاريخها. وهذا ما نجحت لحد كبير بأخذنا إلى أرشيفها في رحلة ممتعة عبر العقود، نشعر فيها بأن الحاضر قد يكون جميلا بإيقاعه السريع وتسهيلاته المتطورة، لكن الماضي كان أكثر أناقة، أو على الأقل أكثر إتقانًا لفن السفر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)