يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

أسئلة «الإصلاح السياسي» أم «التنوير» أيهما يجب أن يأتي أولاً في المملكة بعد عقد ونصف من الإرهاب

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»
TT

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

يقظة «الهوية الوطنية السعودية» مقابل «الهويات الفرعية»

تتواتر الأخبار أخيرًا على المستوى المحلي حول قرار «البيت السياسي» السعودي بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حسم تنفيذ «القصاص» في من صدرت بحقهم أحكام قضائية من الإرهابيين الملطخة أيديهم بالدماء من جماعات العنف الديني المسلح، من الطائفتين الشيعية والسنية.
عبرت الرياض، في عقد ونصف العقد، منعطفات سياسية وجودية في مواجهة صعود موجات إرهاب غير مسبوقة عالميا، استهدفت الداخل السعودي. كانت مجاميع «الإسلام السياسي» المصنفة كإرهابية محليا من «الإخوان المسلمين» إلى «القاعدة» إلى حركات المجاميع الشيعية شرق السعودية إلى «داعش»؛ تسعى جاهدة لخلخلة الأمن للدولة الأقوى في محيطها الإقليمي.

في عام 2008، بينما كانت «القاعدة» تدخل في حالة موت سريري على أيدي رجال الأمن السعودي، كان أمير مكافحة الإرهاب، الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية حينها، وولي العهد السعودي اليوم، يقول لريتشارد هولبروك، السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة: «الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»، بحسب تقرير منشور في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. كان الجرح الوجداني للذاكرة الوطنية عميقا.
لكن قبل الذهاب بعيدا في هذا الاستقراء الصحافي، لا بد من توطئة فكرية سريعة؛ ففي عام 1997 أصدر دانيال برومبرغ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون الأميركية، كتابا بعنوان: «التعدد وتحديات الاختلاف.. المجتمعات المنقسمة كيف تستقر؟»، بالمشاركة مع مجموعة من أساطين العلوم السياسية وعلماء الاجتماع السياسي، الباحثين والمتخصصين في التغيير الديمقراطي في دول العالم الثالث.
تحت مقالته في الكتاب المعنونة بـ«الخطاب الإسلامي وتقاسم الديمقراطية»، يشرح حالة سياسية سماها «الحداثة التكتيكية والأصولية الإصلاحية»، قائلا: «الحداثة التكتيكية تقتضي الاستخدام التلقائي للموضوعات المستحدثة لدفع برنامج أصولي إلى الأمام. وبالمقارنة بأشكال الآيديولوجية الإسلامية (...) التي يمكن أن تتخذ شكلا سياسيا منظما، فإن الحداثة التكتيكية أداة خطابية يستخدمها الإصلاحيون (يقصد المؤلف الإصلاحيين الأصوليين) لتأمين دعم المجموعات الاجتماعية، مثل الأنتلجنسيا (الأنتلجنسيا كأبسط تعريف: المثقفون والمتعلمون ذوو النزعة النقدية التقدمية)، التي بخلاف ذلك لن تؤمن بالمشروع الأصولي».
ويضيف شرحا مستفيضا للفكرة، نقتطع منه: «ترتبط الحداثة التكتيكية ارتباطا وثيقا بالأصولية الإصلاحية (...) تتلاءم الطبيعة النفعية للإسلام (الإصلاحي) من حيث الجوهر مع برنامج تدريجي، يَعقِد الإسلاميون من خلاله تحالفات مع مجموعات شتى. فالإصلاحيون يتكلمون بلغة أصولية عندما يخاطبون أتباعهم الخُلّص، ويستحضرون أفكار الأمة والشريعة الإسلامية والوحدة، ولمخاطبة حلفائهم المحتملين من الطبقة الوسطى المهنية والأنتلجنسيا ورجال الأعمال، يعمد الإصلاحيون (الأصوليون) إلى انتقاء الأفكار والموضوعات والرموز التي يستقونها من مخزن الحداثة». في هذا السياق، يلاحظ خبراء حركات العنف المسلح أن «الإرهاب الديني» في المنطقة يعيد تكرار نفسه في دورة زمنية تقارب كل 20 - 25 عاما. وفي كل مرة تعود بمفاهيم إرهابية أكثر تطورا على مستوى عقلها السياسي وتجدد أفكارها وطرائق بحثها عن منابع اقتصاديات إرهاب مبتكرة، فضلا بالطبع عن الغرام الأصولي بكل ما هو حديث في التقنية.
تقع السعودية بثقلها الديني موضع القلب من العالم الإسلامي، في مرمى هذه الجماعات «السنية والشيعية»، وهي تقف كند صلب يحارب «ذهنية التطرف الديني سياسيا» بكل أطيافها المذهبية كثقل اعتدال في كل أزمات المنطقة.
ومع ذلك، التجربة السعودية مع الإرهاب الحديث في العقد ونصف العقد الأخير لافتة للنظر في نجاحها الباهر في جوانب وتراجعها في جوانب أخرى يمكن تطويرها كمنظومة مرافقة لمعالجاتها الأمنية، التي ما إن أدخلت تنظيم القاعدة في حالة موت سريري حتى استيقظت المنطقة على شبح «داعش»، الذي يفوق «القاعدة» وحشية ويجد ملاذات آمنة في بيئات جغرافية محاذية.
بعد أيام من فاجعة باريس، ظهر على قناة فرنسية باحث فرنسي يُلقي بتهم عشوائية عن تمويل السعودية لـ«داعش» وعن كون التنظيم منظمة «وهابية» تتبنى الأدبيات السعودية.. إلخ من الحديث المثير للشفقة المعرفية.
فالرياض تتعرض لهجمات من «داعش» أكثر مما يتلقى العالم الغربي، والرياض في خندق العالم المتحضر، والظل المُجنّح لصقورها في القوة الملكية الجوية يطارد الإرهابيين شمالا وجنوبا، وتقصف طائراتها «داعش» مع فرنسا وبقية قيادات المجتمع الدولي. والسعودية قدمت تجربة فريدة على مستوى القضاء على «القاعدة»، بشهادات غربية مرموقة، وهي أحد أنشط ممولي صندوق مكافحة الإرهاب العالمي، ولم تتبع سياسة طائفية ولا مرة واحدة في حياتها السياسية، ودعمت نوري المالكي كممثل للدولة العراقية في أكثر أوقاته إساءة للسعودية.. نهر طويل من الحجج والأدلة التي ليس هناك أسهل من استحضارها لتقديمها كمرافعة للتأكيد على نزاهة مواقف الرياض السياسية والأخلاقية من الإرهاب.
لكن بعيدا عن النرجسية الوطنية، وإذا استثنينا القراءات المغرضة من قبل بعض المهتمين في العالم الغربي، ومثقفي الداخل، فهناك شريحة واسعة من الجادين لم تستطع الرياض تقديم خطاب «ثقافي» مقنع لها يشرح ويرافق دوافع الرياض السياسية.
إضافة إلى أن الخطاب الإعلامي والثقافي والسياسي المؤسسي لم يحدّث آليات تأثيره في الجماهير بمختلف المستويات الثقافية، فالخطاب المقنع لطبقة الأكاديميين يتطلب مهارات مختلفة عن الخطاب الموجه لطبقة المثقفين، ومختلفة عن الموجه كذلك لطبقة المتابعين التقليديين.
حسنا.. من أين جاءت تهمة إلصاق «داعش» بـ«الوهابية» المرتبطة بالتالي بالهوية أو اللمسة السعودية؟ هناك خلط متعمد من قبل «الحركيين الإسلاميين» بفرض العنف كجزء من هوية المنظومة «السلفية» المحلية، رغم أن «الإرهاب الإسلامي المتطرف الحديث» حاضنته التنظيرية على مستوى العالم العربي مصرية من قبل جماعة «الإخوان المسلمين» وما تفرع منها من أذرع أكثر تشددا. بل وحتى بعض قيادات القاعدة الأوائل المؤثرين عسكريا كانوا من بعض كفاءات الجيش المصري، مثل عصام القمري الذي كان برتبة رائد في الجيش المصري، ومحمد إبراهيم مكاوي، وهو مكتشف الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس «القاعدة» في العراق، إضافة إلى زعيم القاعدة اليوم أيمن الظواهري (مصري)، فضلا عن عبد الله عزام الذي يحمل الجنسية الفلسطينية، وأبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش (عراقي).
لا بصمات دامغة سعودية في ما يطلق عليه «أدبيات الجهاد العالمي الأولى» إلا ما جاء لاحقا ممثلا في شخص الإرهابي أسامة بن لادن، وشهرته كزعيم في الحقيقة هي كتنفيذي بارع وممول سخي لا كبصمات فكرية تنظيرية ابتدعها، بل كان تحوله السياسي متأثرا بأدبيات «الإخوان» في أفغانستان. وهو ما يتفق عليه الباحثون المحليون منهم والغربيون، مثل الباحث النرويجي توماس هيغهامر والصحافي الأميركي لورنس رايت، من أن بذور الحركة الحزبية والعنيفة تجلت في «الجماعات السلفية» التي تبنت الأدبيات الإخوانية، بل إن الباحثة الأميركية كارينا أرمسترونغ بلغت حد نفي الجوهر القتالي لـ«السلفية التقليدية».
أحد أهم الفوارق بين الحركات «السلفية» والحركات المتبنية لأدبيات الإخوان المسلمين، أنها ليست ذات طابع ارتدادي على الداخل «الوطني» بأعمال عنف، ومعروف للمتابع قصة المعسكرين «الجهادية في أفغانستان المتبنية للمنهج السلفي.. والأخرى المتبنية للأدبيات الإخوانية». فالمنضمون من السعوديين لمعسكر جميل الرحمن «شيخ السلفيين» هناك إبان الحرب الأفغانستانية عادوا إلى البلاد من دون أي حراك عنفي يمس السلم الاجتماعي. على عكس العائدين من المعسكر الإخواني مثل «القاعدة» وزعيمها بن لادن المتأثر بالأدبيات الإخوانية، والذي ارتد على الداخل السعودي بأعمال تخريبية وتفجيرية، واستهداف للأبرياء والمدنيين.
الفرق الجوهري بين العقيدة «السلفية» والعقيدة «الإخوانية»، هو أن الأولى تميل للتشدد فقهيا في فضاءات الحقوق الاجتماعية والثقافية مثل حقوق المرأة والتسامح مع الحريات الفردية، لكنها تكاد تكون تميل للعزلة في تركها الخوض السياسي لرجال السياسة.. في المقابل تجد العقيدة الإخوانية متخلفة ومتطرفة سياسيا لكنها متقدمة فقهيا من ناحية المرأة وفضاءات الحريات الشخصية، وهذا ما تجلى في حكم «الإخوان» لمصر، فبينما كان مرسي يصدر استكمالا دستوريا يضعه فوق القانون ويفرض نفسه كحزب ديني شمولي، فإنه كان في الوقت نفسه يجدد للمراقص الليلية تراخيصها لثلاث سنوات.
في لقاء مع نادر بكار، مساعد رئيس حزب النور «السلفي» المصري، قال إن «(الإخوان) أول من يستدعون السمت السلفي عند الحاجة للحشد الديني بإطلاق اللحية مثلا رغم أنهم في الظروف العادية يحلقونها».
والحال أن «الوصمة الوهابية»، كما يحب الغربيون تسميتها أو «السلفية» بشكل أدق لـ«داعش»، هي وصمة «ثقافية» وليست وصمة «سياسية». الجماعات الإرهابية أخذت من «الإخوان» تطرفها المسلح، وأخذت من «السلفية» تشددها الفقهي. فأصبح لدى المتابع العادي الغربي أو حتى في العالم العربي خلط بديهي، فهو يرى جهاز «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في مناطق حكم «داعش»، ويستلهم حضور هذا الجهاز في الحياة السعودية، ويرى السمت الديني من اللحية إلى تقصير الثوب لـ«داعش» مشابها لأدبيات «السلفية» السعودية، ويشاهد «داعش» يستشهد بذات المراجع الدينية مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن بقراءة مجتزأة مشوهة، فمن الطبيعي أن يُضلل بتفصيلات معرفية تجعله لا يفرق بين الهوية السياسية والأخرى الثقافية لتنظيم معقد كـ«داعش» في مشهد إعلامي ملئ بالمتطرفين والانتهازيين الذين يجدون شرعية ومنابر ليكرسوا هذه النظرة.
الاحتواء السياسي بين التيارات السلفية والإخوانية ومنظريها دائما يتمركز حول امتلاك الشرعية الدينية التي تبدو في عمقها العلمي تميل للجانب السلفي «شعبيا» فيما تميل لصالح «الإخوان» كفة الشرعية السياسية.
يصنف الفلاسفة حقب التنوير إلى ثلاث مراحل، الأولى هي التنوير البريطاني القائم على قيم الفضائل الاجتماعية، ثم التنوير الفرنسي القائم على العقلانية ضد القطعية الدينية، وأخيرا التنوير الأميركي القائم على الحريات السياسية.
إشكالية الرسالة الأميركية المؤمنة بالديمقراطية و«تنوير الحريات» أنها تريد تطبيقها في المنطقة دون شرطي التنوير اللذين سبقاها، وهما تنوير قيم الفضيلة الاجتماعية وقيم تطوير النقد الديني واحترامه كمقدس شخصي للأفراد لا كقطعيات غير قابلة للنقاش العام. لذا فقد جاءت بوعود حرية لمجتمعات ترزح تحت ضغطي الأمية والآيديولوجيا الدينية باستقطابها أبناء الطبقات المسحوقة في المجتمعات. فكانت النتيجة فوضى «الربيع العربي» الذي باتت الجماعات الإرهابية تنمو فيه كما ينمو العشب في الخرائب. تستطيع السعودية، عملاق الصحراء، أن تعيد تشكيل المعمار المعرفي الديني في العالم الإسلامي، بفضل قيمتها الدينية والسياسية والاقتصادية، واليوم العسكرية، بأن تتبنى مشروع هوية داخليا يؤنسن شخصيتها الدينية التي تحارب الإرهاب على الأرض بلا هوادة. وتعيد فتح باب الاجتهاد في الفقه «الاجتماعي»، وقد يكون مشروعا ملهما لمحيطها.
لكن الواقع يشير إلى أن السعودية الحديثة ليست قادرة بعد على إنتاج «مفكرين دينيين» سعوديين، لأن المؤسسات في الواقع كجامعات وجهات حكومية تخرّج «مشايخ دينيين» لا «مثقفين دينيين» قابلين للتطور ليصبحوا فقهاء.
إشكالية هذا الواقع الذي لا ينتج «مفكرين دينيين» أنه نابع من أن قيمة وتقدير «شيخ الدين» التقليدي يقومان على القدرة على الحفظ والاستظهار، لا على الفهم والنقد والتنقيح والتكييف العصري للمفاهيم الدينية. وبالتالي هي لا يمكن لها كمؤسسة تقليدية أن تقود خطابا تطويريا داخليا، ليس لأنها مستفيدة من بيروقراطيتها كمؤسسة فقط، بل ولأنها لا تملك مهارات معرفية يشترطها هذا التحديث والترّقي.
التنوير الأوروبي أعطى درسا عندما اعترف بأنه لم يكن لينجح هذا النجاح لولا تبني الكنيسة متمثلة في القس الأشهر «توما الإكويني» ومجموعته من القساوسة الذي عكفوا على دراسة الفلسفة وعلم المنطق.
كانت تلك أولى مقاربات البعد الروحي للدين والبعد العقلاني للعالم الحديث الذي يبحث عن المنطق والقصة القابلة للتصديق بأدلة «علمية».
الرياض، بثقلها الاستراتيجي في المنطقة، قادرة على تقديم رؤية متوثبة لوطن فتي وطامح لغد أفضل وسعيد بمكتسباته الوحدوية الوطنية، لكن هذا لن يتحقق إن لم يحافظ على مكتسباته الوجودية بالسعي نحو وقف دورة الإسلام الراديكالي الرابعة، بعد دورة «الإخوان المسلمين»، ثم «القاعدة»، ثم «داعش».
يرى الدكتور خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في المغرب، أن «النخبة الدينية عموما - و(الفقيه) على وجه الخصوص - قادت عبر زمن ممتد مسيرة الفعل المجتمعي الإسلامي. ولم يكن ذلك بفعل القوة المادية العسكرية للفقيه، وإنما بفعل الاختيار الطوعي الجماعي، الذي كان ينظر للفقيه باعتباره الوجه العملي للمرجعية الإسلامية. ومع تحولات المجتمعات الإسلامية، وتقهقر ذهنية الفقيه بتركه الاجتهاد وانغماسه في التقليد وفقه المختصرات ازداد تقهقر وعي الأمة».
ومع الهجمة الاستعمارية، وبعد ميلاد الدولة القُطرية، ازداد عجز النخبة السائد عن مواجهة الإشكاليات المتراكمة داخليا وارتباط الأزمة الحضارية بالخارج. فبقي الوعي الديني مهموما بمركزية الدفاع عن الدين وحصونه المهددة من الخارج الاستعماري، ومن الداخل المبتعد عن عقيدة السلف الصالح فهما وتنزيلا، بحسب يايموت.
هكذا انتقلت النفسية الدفاعية، التي اعتبرت العقيدة وعلم التوحيد دفاعيين ومكتفيين بذاتهما، إلى ذهنية عامة ومنطلق مركزي لرؤية للعالم، يتم من خلالهما عرض تصور الفقيه وارتباط منظومته المعرفية بغيرها من المنظومات العلمية المستجدة (سياسة، ثقافة، اقتصاد، فن).
تستطيع السعودية اليوم أن تتبنى تجربة بناء معمار معرفي «سلفي» جديد كمناهج دراسية لكليات شريعة محددة في بعض الجامعات تكون منفتحة وتشجع على الاجتهاد الفقهي «الاجتماعي» كأبحاث ودراسات ومناهج بحث، وتخرّج هذه الكليات طبقة مثقفة دينيا وفقهيا تحت مظلة الدولة، تسهم وترسم الرؤى الفكرية للأجهزة الحكومية الدينية، من المنظومة التعليمية إلى منظومة الأجهزة الدينية التي تتعامل مع الجمهور، مثل «هيئة الأمر بالمعروف»، بحيث يكون هناك إضفاء ديني فقهي محلي على الخطوات التنموية التنويرية التي ترغب الدولة في تطبيقها، لكن الفهم الديني أحيانا يكون عائقا أمامها، مثل حلول البطالة في أوساط السعوديات مثلا.
يرى الدكتور مصطفى حجازي، أستاذ علم النفس والمفكر اللبناني، في كتابه اللامع «التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، أنه «لا يُمْكِنُ للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأة، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غُبنًا، فالارتقاء إما أن يكون جماعيًا عامًا، أو هو مجرد مظاهر وأوهام». ويضيف: «يتهرب الرجل من مأزقه بصبه على المرأة من خلال تحميلها كل مظاهر النقص والمهانة التي يشكو منها في علاقته مع المتسلط وقهره والطبيعة واعتباطها. ولذلك يفرض على المرأة أكثر الوضعيات غبنًا في المجتمع المتخلف. إنها محط كل إسقاطات الرجل السلبية والإيجابية على حد سواء. وهي تُدفع نتيجة لذلك إلى أقصى حالات التخلف. لكنها من هوة تخلفها وقهرها ترسّخ تخلف البنية الاجتماعية من خلال ما تغرسه في نفوس أطفالها من خرافة وانفعالية ورضوخ».
قد يستغرق بناء مؤسسات جادة كهذه أكثر من 15 سنة لتبدأ في التأثير في المشهد بعد غربلة خريجيها واختيار المثقفين دينيا المخلصين منهم كوجاهات اجتماعية دينية لديها منطق معرفي بجانب منطقها الديني «السلفي» يجعلها أكثر تسامحا اجتماعيا.
بينما يصر الكثير من المحللين على فرض استلهام تجارب خارجية محيطة على السعودية لتحريكها، يتجاهل الكثيرون أن السعودية تملك مقومات أن تكون نموذجا بدورها، ولديها من الكفاءات والتجارب الوطنية الداخلية والخارجية ما يجعل إعادة صياغتها ثقافيا ليست أمرا صعبا لو وجدت رؤية استراتيجية سعودية جديدة، لديها فلسفتها في خلق نموذج تنوير يشبهها ويتفهم طبيعة تراكيبها الاجتماعية الثرية التي هي مصدر قوة لـ«الهوية السعودية» الجامعة.
نحت الهوية «الوطنية» لعقد ونصف عقد كامل قادم، يتطلب ابتكار أنماط تواصل جماهيري مختلفة مع الداخل والخارج.. وبقدر ما تخطو الرياض خطوات انفتاح فقهي «اجتماعي»، سيتم استثمارها في تسويق صورتها العامة، بقدر ما ستشعر التنظيمات الإرهابية التي تتبنى الأدبيات المتطرفة كفقه اجتماعي بوحشة آيديولوجية في المحيط الإقليمي، وبقدر ما سيصبح الأصدقاء أكثر ثقة في كون الرياض حليفا للمجتمع الدولي يستحق الدفاع عن قيمه وعن قيادته الاعتدال الديني إقليميا.
وبالتالي، تخلص نفسها من شبهها بالتنظيمات المتطرفة كـ«فقه اجتماعي» وتجرد «الإخوان المسلمين» ومنظريهم من ميزة الفقه المنفتح اجتماعيا والمُضَلِل سياسيا.
تستطيع السعودية اليوم أن تقدم نموذجا فريدا ربما للمرة الأولى في المنطقة يمزج بين «اليمين الثقافي الليبرالي» المحافظ سياسيا والتنويري معرفيا، المؤمن بأن الدولة (المؤسسة) هي من يجب أن يقود التغيير والتنوير ومن يصنع النخبة. لكنه للتعبير عن نفسه لشرائح الجماهير المستهدفة يستخدم المثقف حججا ذات أدبيات مدنية تملك مفردات عقلانية قادرة على مخاطبة طبقة المثقفين في الداخل والخارج ومراكز الدراسات والمؤسسات الفكرية.
وعلى النسق نفسه، تتبنى الدولة تيارا دينيا بكل سماته «السلفية» لكن بجوهر معرفي أكثر إيجابية يسهم في دفع التنمية الاجتماعية لا عرقلتها. وحتى التعايش بين الهويات الطائفية في السعودية لا بد أن يقاد من التيارين اللذين يتناغمان في خدمة الدولة الوطنية، فتيار اليمين الليبرالي من المثقفين سيقدم حججه الفلسفية العقلانية المتمدنة، فيما الشخصية الدينية المتطورة للمؤسسة الدينية تدفع في اتجاه مفاهيم فقهية دينية حديثة تكرس الهوية الجامعة، السعودية. دون إغفال أن يجري التحديث المعرفي ذاته على المجاميع الشيعية المتطرفة ذات المفردات المدنية الحداثية منهم أو مجاميع الأدبيات الدينية بخلق تيار شيعي وطني بذات قيم الحداثة الثقافية والدينية لكن داخل المجاميع الشيعية.
لتكن فلسفة «الرؤية السعودية» الحديثة هي الروح التي تحرك مؤسسات الدولة في منظومة متناغمة تملك رؤية منسجمة يقوم فيها كل بدوره، لينحت «الهوية السعودية» ويعيد إنتاجها طامحة ليس إلى تغيير تكتيكي وقتي بل لتغيير استراتيجي لو نجح ربما يغير تاريخ المنطقة للأبد.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.


«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».


ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.