عسكريون سوريون هجروا السلاح.. وقادة الجيش الحر سجناء في تركيا

من هم المعارضة المعتدلة في سوريا؟

عسكريون سوريون هجروا السلاح.. وقادة الجيش الحر سجناء في تركيا
TT

عسكريون سوريون هجروا السلاح.. وقادة الجيش الحر سجناء في تركيا

عسكريون سوريون هجروا السلاح.. وقادة الجيش الحر سجناء في تركيا

العسكريون لا يتقنون إلا الموت، من أجل الوطن وأهله.. فماذا يفعل حاملو السلاح إن طلب منهم أن يقتلوا من يحمونهم.. ماذا يفعل حماة الديار إن أمروا بتدمير الديار..
وإلى أين يمكن أن يذهبوا؟ هل يهربون كغيرهم، أم عليهم مواجهة قادتهم الذين خانوا أمانة السلاح الذي يحملونه؟ من يستطيع أن يعطيهم ثقته وهم أبناء نظام قاتل..
في سوريا أو في تركيا أو في بلاد أوروبا.. إلى أين يمكن أن يؤول حال حامل السلاح السوري إذا تركه وانشق عن مؤسسته العسكرية ورفض تنفيذ الأوامر؟

مازن حسون مواليد 1977، من تلبيسة التابعة لمدينة حمص، تخرج عام 2000 ضابطًا متخصصا في الحرب الإلكترونية حتى نهاية عام 2011. وعندما اقترب من الترقي إلى رتبة «رائد» اندلعت الثورة السورية.. انضم كما غيره من مئات العسكريين المنشقين إلى الجيش الحر لحماية المظاهرات السلمية من بطش النظام، وهو كغيره أيضًا من المنشقين الذين هجروا السلاح قبل تحقيق النصر.
يقول حسون وفقا للشقيقة «المجلة»: «بعد انشقاقي تابعت عملي العسكري مع الجيش الحر وشغلت عدة مناصب ضمن تشكيلاته وشاركت بـ27 عملية عسكرية لحماية المدنيين. وفي نهاية عام 2013 وبداية 2014 قررت الخروج من حمص لإدراكي العميق بعد متابعة سير الأحداث أن حمص سوف تقع في قبضة النظام ﻻ محالة بعد الخذلان الدولي لها، خصوصًا للجيش الحر، وبعد زحف «داعش» باتجاه حمص من الجهة الشرقية، فكانت الخيارات محدودة؛ إما مبايعة داعش وإما مصالحة وتسوية مع النظام، والأمران مرفوضان بالمطلق بالنسبة لي».

مدرسة الأسد
ويتابع: «تلقيت دعوة من قيادة الأركان فخرجت بمهمة رسمية للتمرن على السلاح النوعي، وصلت إلى معبر باب الهوى وبقيت شهرين ونصف الشهر، وبعد التواصل مع الإخوة الضباط وعدم توفر عمل مقنع يخدم القضية في قيادة الأركان قررت الرحيل إلى تركيا، والضباط المنشقون في تركيا إما في المخيمات وإما في الطريق إلى أوروبا للحصول على لجوء، والقلة المحدودة تعمل للتنسيق مع الداخل والحصول على بعض الدعم»، منوها بأن «المنشقين في عزلة تلبى كل حاجاتهم في المخيم وهم جالسون، عادة مشكوك بهم لأنهم تخرجوا من مدرسة الأسد التي فقدت الثقة مع الشعب.. المنشقون نوعان منهم من كان ينتظر الثورة وكان يظن أنها لأبد قادمة، وكنت أنا منهم، والآخر أجبر على الانشقاق من قبل الجيش الحر.. وهناك من وقف في منطقة متوسطة بين طرفي الصراع لعدم قناعته بالطرفين. من هنا جاء الشك، كما أن بعض سياسات القوى الإقليمية كانت تتعمد زرع الشك وتعميق الهوة بين الشعب وضباط الجيش الحر».

ويسرد مثالاً عما أسلفه قائلاً: «في إحدى العمليات الضخمة لنا عندما كنا منضوين في العمل ضمن المكتب العسكري لحمص وريفها وكان آنذاك عدد الضباط المشاركين في العملية يصل إلى 17 ضابطًا، جاءت الأوامر من قيادة الأركان في تركيا ببدء العمل القتالي، وأن الذخيرة والإمدادات سوف تصل خلال ساعات.
وتم إيهامنا بأنه ﻻ مجال للتأخير في التنفيذ وأن الوقت ليس في صالحنا، علمًا بأن ذخيرتنا بالكاد تكفي ليوم قتالي واحد وبدأنا الهجوم واستمر ليومين ولم تصل الإمدادات وكانت الجبهة قد اشتعلت وكان ضروريًا استقدام تعزيزات ضخمة ﻻسترجاع المناطق التي خسرناها، حينها اضطررنا للانتقال إلى موقع الدفاع وبدأت حرب استنزاف استمرت ثلاثة أيام، كاد حينها الريف الشمالي لحمص أن يسقط في معركة (مللوك) فقدنا كثيرًا من شبابنا واضطررنا للانسحاب وفقدنا كثيرًا من مصداقيتنا لدى مقاتلينا واتهمنا بأننا كاذبون سارقون وأنها كانت خطة للقضاء على المعارضة المسلحة وحصل بعدها انشقاق كبير، ذهب بعدها كثيرون للانضمام إلى الفصائل الإسلامية (الأكثر مصداقية) بين هلالين - بعدها بمدة قصيرة تصدع المكتب العسكري وفشل»، متهكمًا: «ولم تصل الذخيرة لحد الآن».

مخيم يضم المنشقين وعوائلهم

«مخيم أبايدن (كما يسميه الأتراك) هو مخيم يضم المنشقين وعوائلهم، يقع في الأراضي التركية ولا يبعد عن الحدود السورية أكثر من 4 كم، ويوجد حول المخيم سور من الأسلاك الشائكة للحفاظ على سلامتنا، هكذا كان يقول لنا الأتراك، صراحة يشبه السجن. والخروج من المخيم لم يكن مسموحًا. هناك يوم واحد في الأسبوع مسموح فيه للذهاب إلى السوق»، الكلام لأحد المنشقين عن جيش النظام ويدعى أبو أحمد، الذي غادره متسائلاً: «ماذا كنا نفعل؟ نحتسي الشاي.. كانت هناك حلقات لحفظ القرآن والإنشاد وقراءة الشعر، مثلا الشيخ أبو مسلم والأستاذ عبادة بركات كانوا يقومون بمثل هذه النشاطات لذا خرجت من المخيم».
عمل أبو أحمد في مهن متعددة إلا أنه الآن عاطل عن العمل ولم يفلح في تأمين مبلغ يمكنه من السفر واللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية ووجوده في تركيا منعه من الإفصاح عن المزيد واكتفى بحديث مقتضب مع «المجلة».
* ما خلف أسوار أبايدن .. ومزيد من التفاصيل بشأن دور جماعة الإخوان في إفشال المنظومة العسكرية للثورة أضغط على هذا الرابط



السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
TT

السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)

تعيش دمشق، في الذكرى الأولى لـ«التحرير» التي تصادف اليوم، لحظات احتفاء بعودة السوريين إلى بلادهم، وانهيار النظام السابق وهروب رئيسه بشار الأسد.

في العاصمة التي بدت كأنها في «وقفة عيد»، تتداخل بهجة بـ«حق العودة» مع ثقل الذاكرة، فيما تعكس الشوارع ملامح هوية جديدة حلّت محل رموز «الحقبة السوداء»، وصهرت مقاتلي الفصائل في أجهزة الدولة الناشئة، وامتصت جانباً من قلق الدمشقيين تجاه مستقبلهم.

وخلف الزينة والزحام والفنادق المكتظة والعائدين بعد سنوات منفى، ثمة غصة حاضرة لدى أهالي المغيبين وسكان المناطق المدمرة. رغم ذلك، استعاد الناس جرأة النقاش العلني، كأن «الجدران لم تعد لها آذان»، في تعبير عن شعور عام باسترداد القرار الفردي والحق في العودة.

هذا التحول لم يلغِ ذكرى الليلة العصيبة التي أعقبت هروب الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حين وقفت دمشق على حافة الفوضى؛ فقد انهارت المؤسسات الأمنية، واندفعت مجموعات مسلحة لنهب مقرات حساسة، بينما ترك عناصر النظام بزاتهم في الشوارع.

ومع ذلك، نجحت أحياء مثل الجسر الأبيض وباب توما والقصاع في حماية نفسها عبر لجان أهلية ارتجالية ضمت أطباء وطلاباً وتجاراً. وبفضل هذه المبادرات، أوقف أكثر من 200 لص، وأحبطت محاولات اعتداء ذات طابع طائفي، في لحظة كشفت قدرة الناس على منع الانزلاق.

وفي طهران، تبرز اليوم روايات متناقضة حول انهيار «خيمة المقاومة»، وفقدان إيران عمودها السوري بين خطاب المرشد عن «مؤامرة خارجية»، ورؤية «الحرس الثوري» لسوريا بوصفها «المحافظة الخامسة والثلاثين»، ودفاع الدبلوماسية، واتهامات برلمانيين بهدر عشرات المليارات. وتتوالى الأسئلة حول التكلفة والخسارة، وفيما إذا تستطيع طهران خوض مغامرة جديدة في سوريا بعدما انهار الرهان السابق.


4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.