لبنان يدخل موسوعة غينيس بـ«أطول منقوشة في العالم»

بطول 32 مترًا.. وبمناسبة عيد الاستقلال

«أطول منقوشة في العالم» كما بدت في ختام تحضيرها في مدرسة أمجاد في منطقة الشويفات
«أطول منقوشة في العالم» كما بدت في ختام تحضيرها في مدرسة أمجاد في منطقة الشويفات
TT

لبنان يدخل موسوعة غينيس بـ«أطول منقوشة في العالم»

«أطول منقوشة في العالم» كما بدت في ختام تحضيرها في مدرسة أمجاد في منطقة الشويفات
«أطول منقوشة في العالم» كما بدت في ختام تحضيرها في مدرسة أمجاد في منطقة الشويفات

مرة جديدة يدخل لبنان موسوعة غينيس العالمية، من خلال كسره الرقم القياسي لصناعة «أطول منقوشة في العالم» والتي بلغ طولها 32 مترا.
فقد نظّمت مدرسة أمجاد في منطقة الشويفات هذا الحدث بعد أن أخذت على عاتقها هذه المهمة، وذلك لكسر الرقم القياسي المسجّل في الموسوعة المذكورة عام 2014 من قبل مدينة الأحساء السعودية، التي استطاعت يومها أن تحضّر أكبر عجينة في العالم بطول 15.17 متر.
وهذا الأمر ليس بالجديد على لبنان إذ سبق وكسر أرقاما قياسية عدّة في مجالات أخرى وبينها: «أكبر صحن حمصّ» (زنة 3000كلغ)، وأكبر صحن تبولة (زنة 2طن)، وأكبر سجل ذهبي (تالّف من 600 صفحة بعرض 3 أمتار للورقة الواحدة وبزنة 300 كلغ).
أما الرقم الجديد الذي حققه من خلال كسره الرقم العالمي لأطول منقوشة، فقد كان بمثابة الهدية التي أرادها القيمون على هذا العمل التقدّم فيها إلى لبنان لمناسبة عيد الاستقلال. وأكد فؤاد بكار المسؤول عن قسم العلوم والصحة في مدرسة «أمجاد»، أن الموظفين والأساتذة من زملائه في المدرسة، أرادوا المشاركة في هذه الخطوة، للتأكيد على أن لبنان هو بلد الثقافة والعلم والنور، وأن في إمكانه تحقيق إنجازات عدة في مجالات مختلفة بعيدا عن الأزمات البيئية والسياسية التي يتخبّط بها.
جرى الحدث على أرض مدرسة أمجاد تحت عنوان «يوم لبناني ما إلو تاني»، وتمّ فيه مدّ عجينة بزنة 80 كيلوغراما على صاج حديدي بطول 32 مترا ويبلغ وزنه 1020 كيلوغراما. وقد استخدم في صناعة هذه المنقوشة الضخمة التي حضّرت وفقا للمكوّنات الأصلية التي يتألّف منها هذا الطبق التراثي في لبنان، وبإشراف أكثر من 30 طاه لبناني، من 10 كيلوغرامات من الزعتر البلدي و20 لترا من الزيت. أما الوقت الذي استغرقه التجهيز لهذا الحدث فبلغ 12 يوما، بينما أخذ تنفيذ «أطول منقوشة في العالم» نحو الساعتين.
ورأى فؤاد بكّار صاحب هذه الفكرة أن إدارة المدرسة تفاجأت بالاقتراح الذي قدّمه لها في هذا الخصوص واعتبرته ضربا من الجنون، إلا أنه أصر على القيام به ليكون بمثابة جائزة يهديها إلى لبنان في مناسبة العيد الثاني والسبعين لاستقلاله.
وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أتردد في القيام بهذه المبادرة كوني معتادا على تنظيم برامج مشابهة تدخل في مجال قسم نادي العلوم والصحة الذي أشرف عليه في المدرسة، والذي استطاع تلامذته تقديم أكثر من مشروع مميّز». وتابع: «وهم سيشاركون في الشهر المقبل في مؤتمر العلوم في مدينة الإسكندرية المصرية، وذلك من خلال عدة مشاريع علمية بينها دراسة تطبيقية نوّهت بها الجامعة الأميركية في بيروت، والتي تتناول مشكلة ارتداء الحذاء ذات الكعب العالي من قبل النساء».
أما الممثل الرسمي لموسوعة غينيس سامر خلوف فقد تأخر وصوله إلى بيروت لمراقبة عملية تنفيذ «أطول منقوشة في العالم»، بسبب الإجراءات الأمنية التي اتخذت في أجواء الطيران في المنطقة العربية ككلّ، بسبب المناورات العسكرية التي أعلنت روسيا عن القيام بها كما أشار لنا فؤاد بكار، وأوضح قائلا: «هذا الأمر لم يثن من عزيمتنا خصوصا وأن الموسوعة العالمية غينيس، أعطتنا الضوء الأخضر للقيام بهذا الحدث الذي سيسجّل في كتابها للعام 2015 بعد أن نزوّدها بالداتا الإلكترونية التي تصوّر كيفية تنفيذ هذا العمل من ألفه إلى يائه».
ومن المتوقّع أن تطعم هذه المنقوشة الضخمة نحو 1800 شخص، وقد زيّنت أطرافها برسم للعلم اللبناني، استخدم فيه البندورة والنعناع للإشارة إلى ألوانه المعروفة، والتي يتوسطها الأرزة الخضراء. ورأى رئيس بلدية الشويفات ملحم الدسوقي أن ما حققه لبنان في هذه المبادرة من قبل مدرسة أمجاد، هو فخر للوطن ولبلدة الشويفات بالتحديد في ظلّ كل ما نعيشه من مآس ومشكلات.
ويشتهر لبنان بالمنقوشة بالزعتر كأشهى فطور يمكن تناوله صباحا.
يذكر أن هذا الحدث الذي حقق فيه لبنان رقما قياسيا جديدا في أجندة نشاطاته السياحية، صوّرته قناة «إم تي في»، وقد تخلله تقديم لوحات فولكلورية موسيقية وأخرى راقصة تصبّ أيضا في خانة نشر التراث اللبناني.
وكان لبنان في العام الماضي وفي نفس المناسبة (عيد الاستقلال)، قد كسر الرقم القياسي المسجل في موسوعة غينيس من خلال تشكيله «أكبر تجمّع بشري»، بعد أن تشابكت أيادي مواطنيه على الطول الساحل اللبناني الممتد من مدينة طرابلس الشمالية وصولا إلى مدينة صور في جنوبه. وتضمن يومها هذا التجمّع أكثر من ألفي شخص، تألّفوا من الكبار والأطفال.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)