بانتهاء الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي أول من أمس (الجمعة)، طوى المهرجان في الواقع مرحلة جديدة لمهرجان يسعى حثيثًا للتطور والتطوير من دون أن يأخذ حقّه في ذلك.
حفلة توزيع الجوائز كانت منظّمة وفاعلة وقليلة الخطابات تمامًا كما كانت حفلة البداية؛ إذ هي أيضًا كانت مضبوطة على إيقاع سريع. وهي حملت جوائز كثيرة في خمس مسابقات من بينها المسابقة الرسمية التي فاز عنها الفيلم الإيطالي «البحر المتوسط» لجوناس كاربنيانو بالجائزة الأولى، ومسابقة «آفاق السينما العربية» التي منحت جائزتها للفيلم السوري «في انتظار الخريف» لجود سعيد، ومسابقة النقاد التي منحت جائزتها الأولى إلى الفيلم البولندي «العنكبوت الأحمر».
إلى جانب أن الحفلة كانت منظّمة (أكثر من أي حفلة اختتام في السنوات القريبة الماضية)، فإنها كانت تسجيلاً لانعطاف مهم: ها هي دورة تمضي وأخرى تقترب من هذه اللحظة، فبعد فترة راحة قصيرة تنطلق المساعي من جديد لكي تنظم دورة العام المقبل.
* لمعة
لم يفز فيلم مصري بأي جائزة رئيسية في أي من المسابقة الرسمية. السبب واضح وجلي: لجان التحكيم ليست هنا لكي تراضي جهة أو بلدًا أو أشخاصًا، بل لتمنح جوائزها بحرية ومن دون حسابات خارج الإطار الفني. والمنتج بول وبستر الذي ترأس لجنة التحكيم الرئيسية كان على حق حين قال: «لقد اطلعنا على 16 فيلمًا من 15 دولة ووجدنا أنها تلتقي على أن السينما لغة تواصل وسلام وليست لغة عنف وحرب». وإن لجنة التحكيم الدولية لاحظت اختلافات بين الأفلام المتسابقة لكن كان هناك، على أي حال، ما يكفي من أعمال لتوزيع الجوائز الأساسية بينها.
هل سيكون الحال أفضل في الدورة القادمة؟ هل مزيد من التنظيم يعني المزيد من النجاح أو أن النجاح له ظروفه الأقوى؟ وما هي ملامح المستقبل المرتسم لهذا المهرجان الذي يحاول تجاوز محناته وأزماته، بالإضافة لتجاوز محنات وأزمات المنطقة؟
الحقيقة، إن دورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الحالية لم تكن بالسوء الذي تحدّث عنه بعض المشاركين من الداخل والخارج. نعم، لم يكن هناك لمعان شديد. لم يحضر مخرج في وزن الألماني فولكر شلندروف، ولا أثار احتمال حضور وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ تجاذب الآراء الذي أدّى لتمنّعه عن الحضور كما في العام الماضي، كذلك لم يرأسه ممثل سابق أو منتج كبير أو نجم شهير. آل إلي يدي رئيسة أنثى سبق لها وأن أدارت بنجاح «مهرجان السينما العربية في باريس» وتميّزت بالنظرة الواقعية وبمحاولة حل المشكلات قبل وقوعها.
مع هذه الحقائق في الحسبان، يمكن استخراج خمسة دروس مهمّة تبلورت في هذه الدورة ومرشحة لأن تكون ذات أثر مهم في الدورات المقبلة إلا إذا أمكن تفادي سلبياتها.
* الدرس الأول: على المهرجان أن ينعم بإدارة دائمة.
خلال السنوات التالية لوفاة الرئيس الأسبق سعد الدين وهبة، التي تميّزت بالتأسيس والحزم، تناوب على رئاسة المهرجان خمسة أشخاص بعضهم لعام واحد فقط قبل أن يمضي. كل بأسلوب عمل مختلف، وبتطلعات متباينة، وبالتالي نتائج متباعدة. لكل أسلوبه الخاص في العمل ولكل رؤيته وفهمه للكيفية التي يستطيع فيها إدارة هذا المهرجان. صحيح أن بعض الغاية كان رفع راية المهرجان عاليًا، لكن النية غلبت المعرفة ولم ينتج عنها ما يمكن أن يعني تطوّرًا وارتفاعًا بل مجرد تسجيل حضور من عام لعام.
مع كل تغيير كان هناك الكثير من الموظفين الذين يأتون ويذهبون. بالتالي طواقم تتبدل تاركة ما تعلّمته لطواقم جديدة تبدأ من هذه اللحظة. وحسب مصدر من الداخل، كان كل ربّان سفينة وطاقمه يمسح ما تم تدوينه من معلومات لمجرد أنه سيترك المنصب. والذي يليه كان عليه أن يبدأ من جديد. بالتالي، التواصل في المعرفة وربط دورات المهرجان ومكتسباته بعضها مع بعض لم يتم وتفككت أواصره أكثر من مرّة.
الدرس هنا هو أن على المهرجان أن ينعم بإدارة دائمة لا تتغير كل عام أو كل عامين، بل تبقى لتمارس التأسيس الصحيح والخبرة المكتسبة حتى ولو اضطر الأمر للاستغناء عن الرئيس علمًا بأن استقرار المهرجان مرتبط أيضًا باستمرار رئيسه ومنحه ما يكفي من السنوات لكي يستكمل مساعيه.
* إعلام يكرر نفسه
* الدرس الثاني: الميزانية
بلغت ميزانية هذا المهرجان 6 ملايين جنيه مصري. بالكاد تكفي لإنجاز ما يريد. الخطر هنا هو أن ضحالة الميزانية تؤثر على قدرة المهرجان التمتع بالثراء الذي يرغب به. تحد من عدد الضيوف وتحد من عدد السينمائيين البارزين الذين يتصدر حضورهم وكالات الأنباء. يفرض على المهرجان اختصار أيام الدعوات. يجعل المهرجان غير قادر على استئجار سيارات واستبدالها بالحافلات الصغيرة. إلغاء الحفلات الليلية التي عادة ما تجذب النجوم المصريين كما كان الحال في السنوات السابقة. وبجلبهم يزداد حضور الإعلام العربي ويتحوّل المهرجان إلى حدث فني عوض أن يبقى مجرد حفل كبير.
زيادة الميزانية تمنحه، وهذا هو الأهم، القدرة على إثراء العروض بأفلام وتظاهرات محددة. توسيع رقعة المطبوعات والخروج من دائرة جلب الأفلام عبر السفارات غالبًا لصالح القيام بشبكة اتصالات تثمر عن أفلام أفضل. كذلك تتيح الميزانية المطلوبة إذا تأمّنت توفير معدات عرض وصوت أفضل.
* الدرس الثالث: أماكن العرض
يعتمد المهرجان على قاعة كبيرة واحدة وثلاث صالات أصغر. القاعة الكبيرة هي وحدها المؤهلة فعلاً لعرض الأفلام. لكن هذه القاعة، الموجودة في دار الأوبرا، أصغر من أن تستوعب الجمهور الكبير، خصوصًا ذلك الذي يتحمس لمشاهدة فيلم قرأ عنه كثيرًا أو آخر مصري يريد أن يحضره، كما كان الحال هذا العام وفي العام الماضي، مما ينتج عنه إقفال القاعة عن مئات الحضور الذين وصلوا قبل العرض ليجدوا أنها امتلأت وأن تذاكرهم لا تعني شيئًا.
القاعات الأخرى ليست أهلاً لعرض مهرجاناتي دولي، واحدة منها لديها باب يفتح مباشرة في وجه الصالة وكلها تحفل بكراسي غير مريحة وبمساحة ضيقة بين الصفوف بحيث لا يستطيع المرء الجلوس براحة.
قاعة جديدة، مثل قاعة المؤتمرات في مصر الجديدة، هي أجدر للمناسبة، كذلك استئجار قاعات تجارية مؤهلة أساسًا للعروض الكبيرة كصالات المولات في أنحاء شتّى من القاهرة. وهذا ما يعيدنا إلى ضرورة رفع الميزانية المقررة.
* الدرس الرابع: الإعلام المصري يكرر نفسه
باستثناء عدد قليل من الصحف المصرية، لم يستفد الإعلام من وجود المهرجان كحدث فني ولم يَفِد أيضًا. الكثير من النقد عاد لعادة نقد المهرجان وليس الاشتراك به. ومع أن نقاد السينما في مصر استغلوا الفرصة للمشاهدة عن كثب، إلا أن مجالات النشر، على كثرتها، كانت محدودة بالنسبة لهم. كذلك، فإن المواضيع المثارة هي ذاتها وتتعلّق بسير حفلة الافتتاح وحفلة الختام وغياب النجوم أو حضور بعضهم.
النقاشات بقيت قليلة. اللقاءات التي كان يمكن أن تثري هذه النقاشات شبه معدومة. المهرجان بقي، بالنسبة للكثير من المصريين، حدثًا جانبيًا صغيرًا لم ينتشر جيّدًا. وبالنسبة لوكالات الأنباء أمر بعيد عن الأهمية مما حد من تغطيته كثيرًا.
كذلك على الإعلام أن يبلور مفهومًا جديدًا يتوقف فيه عن مقارنة المهرجان المصري بالمهرجانات العالمية الكبرى. الواقع والحقيقة هما أنه ليس كذلك. هو بالتأكيد ليس واحدًا من المهرجانات الدولية المنتظرة، وبالتأكيد أكثر ليس من بين المهرجانات «الكبرى في العالم» كما تردد في عدد من الصحف.
الواقع هو أنه حدث محدود في عالم مزدحم بالمهرجانات التي تسبقه في الأهمية محليًا أو إقليميًا أو دوليًا.
* الدرس الخامس: على المنتجين العرب العودة إلى القاهرة
في سنوات سابقة، كان المنتجون والموزعون وأصحاب الصالات العرب يتوافدون على المهرجان بكثافة، يعتبرونه المكان الأفضل لعقد الصفقات، كانوا يبحثون عن الجديد ويشترونه أو يأتون بما لديهم لبيعه، وكان تواصلهم ضروريًا لتنشيط الصناعة السينمائية في مصر والعالم العربي. صحيح أن هذا الشغل بأسره كان تجاريًا، لكن لا مهرجان ناجحًا من دون محيطه التجاري. لا أفلام بديلة أو مستقلة من دون أخرى غالبة من النوع السائد.
اليوم يغيب المنتجون العرب ويغيب السينمائيون المصريون أنفسهم باستثناء من لديه فيلم مشارك، وغيابهم يترك فراغًا لا يمكن للمهرجان أن يسدّه مهما حاول. محطات التلفزيون لا تساهم في شراء أي جديد تعرضه، ولا تمد يد العون للمشاريع الشابة أو تكترث لشراء مجموعة من الأفلام القصيرة فتمنح المخرجين الشبان فرصًا مفقودة.
لا يتبدّى ذلك الاكتراث بما يستطيع المهرجان فعله لإنعاش الحياة السينمائية في مصر. هذه الحياة التي لا تتوقف رغم كل تلك العراقيل والظروف التي تتعرّض البلاد لها بفعل عناصر الإرهاب التي تريد حجب الشمس عن كل مصر.
** جوائز المسابقة الرسمية
* الهرم الذهبي لأحسن فيلم: - «البحر الأبيض المتوسط» (إيطاليا، فرنسا، أميركا، ألمانيا، قطر)
* الهرم الفضي لأحسن فيلم: - «فوسي» (ألمانيا)
* الهرم البرونزي لأحسن فيلم أول أو ثانٍ للمخرج: - «بولينا» (الأرجنتين، البرازيل، فرنسا)
* أفضل ممثل- كودوس صيون عن «البحر الأبيض المتوسط»
* أفضل ممثلة - لويز بورجوان عن «أنا جندية» (فرنسا، بلجيكا)
* جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو - «الكنز» (رومانيا، فرنسا)
* جائزة أحسن إسهام فني - «الشمس الساطعة» (كرواتيا، صربيا، سلوفانيا)

