الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

ضمها إلى التراث العالمي سينعشها سياحيًا ويحمي طريقة حياة أهلها

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية
TT

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

الأهوار في العراق.. جزر من القرى العائمة والممرات المائية

عالم من سحر الطبيعة وجمالها الخلاب، وإبداع تصنعه أيادي مواطنين بسطاء يعيشون على بقعة من المياه، وتحديدًا في وسط الأهوار في جنوب العراق.
والأهوار هي مجموعة المسطحات المائية التي تغطي الأراضي المنخفضة الواقعة في جنوب السهل الرسوبي العراقي، وتكون على شكل مثلث تقع مدن العمارة والناصرية والبصرة على رأسه. وتتسع مساحة الأراضي المغطاة بالمياه وقت الفيضان في أواخر الشتاء وخلال الربيع وتتقلص أيام الصيف، وأطلق العرب الأوائل على هذه المناطق اسم «البطائح»، جمع بطيحة، لأن المياه تبطحت فيها، أي سالت واتسعت في الأرض وكان ينبت فيها القصب.
فالناس هنا يبنون بيوتهم عائمةً فوق الماء، لتكون مجموعة البيوت هذه قرى عائمة وسط الأهوار تضم كل قرية من تلك القرى نحو 150 بيتًا عائمًا يسمى «الصريفة»، حيث يقوم الأهالي بعمل «الشجة» وهي جزيرة عائمة. تصنع الشجة من باقات القصب يغرز بعضها حتى تتكون المساحة المطلوبة، وقد تصل إلى أكثر من 100 متر مربع وعلى شكل مستطيل، وتسمى تلك المساحة العائمة بـ«السكفة» يمر الماء من تحتها ثم يوضع فوقها القصب والبردي حتى تصبح مرتفعة ارتفاعا كبيرا ومن ثم إحاطتها بسياج قوي من القصب ويسمى «واشي» للحفاظ عليها من الانجراف. القسم الأمامي يستخدم معلفا للجواميس، والخلفي لسكن العائلة، وأن يكون باتجاه القبلة حتى تصبح بيوت القرية ذات نسق واحد.
وعلى مر السنين ونتيجة الإدامة المستمرة تتحول «الشجة» هذه إلى جزيرة ثابتة وينتقل أهل القرية من بيت إلى آخر بواسطة قارب خشبي يصنعه الأهالي بأنفسهم ويطلقون عليه اسم «المشحوف».
وتبنى منازل سكان الأهوار من القصب بالكامل دون استعمال مسمار أو أي مادة حديدية. وتسمى هذه الحزم «شباب»، مفردها «شبة»، وتربط حزم القصب القوي بحبال من البردي.
أما الأكواخ الأكبر حجمًا، مثل مضايف الشيوخ، فهي بناء عظيم بحق، فالمضيف الجيد يكون أحيانا بحجم فندق صغير. ويعتقد كثير من الآثاريين أن هذه هي أسلاف القوس المعماري.
يقول الخبير في التاريخ العراقي الدكتور هادي والي إن «الأهوار كانت واسعة وكانت موجودة منذ أزمان سحيقة، إذ إنها تقع في سهل رسوب يتعرض للانغمار بالمياه متى ما فاض النهران العظيمان دجلة والفرات. وكانت المناطق المعروفة يومًا بأرض المياه لدى الكلدانيين، مسكونة منذ الحقبة البابلية، ولربما منذ الحقبة السومرية. وترتفع فوق الماء والقصب هنا وهناك تلال قديمة. ويطلق السكان المحليون على هذه التلال اسم (إيشان)».
وأضاف والي: «مع أن القرى شيدت من القصب وشوارعها هي ممرات مائية، فإن غالبية هذه الأماكن متصلة بالبر، وكلما توغل الإنسان عميقًا في الأهوار تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتشكل هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، ويروى كثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجديف وتدفع بـ(المردي)، وهي عصا طويلة من خيزران سميك، وتنفتح أحيانا صفحات عريضة من الماء، حيث تسبب الرياح أمواجًا كأمواج البحار».
ويتداول أهالي الأهوار قصة حدثت في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، بعدما لجأ أكثر من ثلاثين عائلة من الفلاحين من قرية العدل التابعة لقضاء المجر الكبير في مدينة العمارة إلى عمق الأهوار تخلصا من بطش الإقطاع واضطهاده، فاختاروا مكانا لتأسيس قريتهم في وسط بحيرة كبيرة تسمى «بركة الصيكل» وبنوا قريتهم بطريقة الأكلاك والشجات وبنوا فوقها بيوتا لهم واعتمدوا في حياتهم على تربية الجاموس وصيد الأسماك والطيور وصناعة الحصران، وأطلقوا على هذه القرية الجديدة «الحصنى» لأنها بعيدة عن سلطة الإقطاع. وفي عام 1940 وبينما كانت القرية طافية على سطح مياه البحيرة هبت عليها عاصفة شمالية هوجاء ومن سرعة الريح وجريان الماء وتلاطم الأمواج انجرفت بيوت القرية تماما وسارت القرية بأهلها وحيواناتهم معا وأصبحت بيوتهم وكأنها سفن في لجاج البحر، فدب الهلع والخوف بأهلها فسارعوا لإنقاذ الأطفال والمرضى وكبار السن والأثاث والأمتعة وحملوها بالمشاحيف الكبيرة (القوارب). وبعد أن هدأت العاصفة استقرت القرية في الضفة الجنوبية للبحيرة وبمسافة أكثر من كيلومترين بعد أن تحطمت جميع البيوت وتطايرت الحصران وغرقت المشاحيف الصغيرة، وبعد أن استقروا قاموا بترميم شجاتهم وبيوتهم فأطلقوا عليها اسم قرية الجدي، ثم اتسعت وأصبحت تضم أكثر من 150 عائلة، وتبعتها بعد ذلك عشرات القرى في وسط الأهوار.
ويفضل بعض أثرياء الشيوخ بناء مضايف من الطابوق، وهو تغيير يرثى له بحق. وتؤثث هذه عادة بأثاث أوروبي: كراسي ومناضد رديئة النوعية. أما في مضايف القصب فيجلس الضيوف على مفروشات على الأرض، ويسندون ظهورهم إلى وسائد محشوة بعناية.
وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بوارٍ فوق هيكل لكنه أصغر حجمًا وأقل ترتيبًا. وقد يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالبًا ما تجد صفوفًا من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم.
تبنى قرى القصب على الأرض، وأحيانا على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول إلى قلب الأهوار نجد بيوتًا يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكوّن منصة كبيرة وقوية كافية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي.
ويمكن رفع مستوى هذه المنصة عند الفيضان بإضافة مواد أخرى وتراب يجلب بالقارب. وفي قرى مثل الجبايش (جمع جبشة، اسم الجزر الصناعية هذه) تتوزع البيوت كل على جزيرته الصغيرة. والطريقة الوحيدة لزيارة جارك هي التجديف بالقرب أو على حزمة قصب، أو السباحة.
يقول أبو علي، 47 عاما، من سكان قرية فوار جنوب العراق في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن «أهم شيء نفعله هو تعليم أطفال الأهوار السباحة لأن الماء هو وطننا، وفي نفس الوقت نعلمهم كيفية السير بالمشحوف (القارب)، وأغلب الأطفال يمسكون بالمجداف كما لو أنه أحد أطرافهم».
وأضاف أبو علي: «رغم التطور في الصناعات والتكنولوجيا فإننا لم نستغنِ عن أثاث بيوتنا المصنوع من الطين والقصب. والسرير من قصب، أما سرير الطفل المنسوج من صوف الخروف فهو معلق بحزم القصب. وما زالت الجواميس تعيش معنا، فهي تخوض وتعوم بتراخٍ إلى أماكن رعيها المفضلة خلال النهار، وتعود في أوقات الحلب أو تقاد من قبل طفل صغير يركب على ظهر إحداها ويقتادها إلى المكان».
ويعتمد سكان الأهوار عليها في طعامهم، لأنها تزودهم بالقيمر الفاخر واللبن الرائب والزبد والأجبان، ويصنع سكان الأهوار الخبز من طحين الأرز بدلاً من طحين الحنطة».
ومن أهم الأهوار الموجودة في جنوب العراق هور الحمار وهور الجبايش وهور السناف وهور العدل وهور أبو زرك، وجميعها تقع شرق مدينة الناصرية وتتغذى من نهر دجلة والفرات، وتوجد فيها أنواع كثيرة من الطيور المستوطنة والمهاجرة، وكذلك يوجد فيها كثير من النباتات المائية حيث تعتبر هذه النباتات أكثر النباتات انتشارا، وكذلك يوجد كثير من الأسماك. أما السكان القاطنون في تلك الأهوار فيعتمدون بالدرجة الأساسية في معيشتهم على صيد الأسماك وتربية الأبقار والجاموس وصيد الطيور. لذا تعد الأهوار مناطق بيئية طبيعة مثيرة، وهي يمكن أن تكون من أجمل المنتجعات السياحية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى استثمارها من ناحية الثروة السمكية وغيرها لما تمتاز به من ازدهار هائل في الثروات.
وفي الأهوار أيضًا هناك مواقع أثرية تؤكد العمق التاريخي لهذه المسطحات المائية، ففي هور الحمار الذي تقدر مساحته بمليون وثمانية وأربعين ألف دونم تمكنت دائرة الآثار والتراث في وزارة الثقافة العراقية من تثبيت 122 موقعا أثريا، وتاريخ بعض المواقع يعود إلى عصر فجر السلالات السومرية، أي بحدود 2800 - 2350 ق. م. وتتوزع هذه المواقع على مناطق، الجبايش، الإصلاح، العكيكة، السديناوية، كرمة بني سعيد، وهذه المواقع كانت مغمورة بالمياه».
أما في محافظة ميسان فهناك 48 موقعا أثريا مكشوفا يعود تاريخ أغلبها إلى العصور الفرثية والساسانية، وبعضها أقدم يعود إلى الألف الأول ق. م. وتنتشر هذه المواقع في هور الحويزة، والوادية، والصحين، وبريدة.
وأعلن أسعد سيف، الخبير الثقافي ورئيس وفد منظمة اليونيسكو لمتابعة ملف ضم مناطق الأهوار وآثار أور وأريدو على لائحة التراث العالمي، إن الوفد سيرفع تقريره الختامي في نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بعد الكشف عن جميع المواقع ومناقشة خطة إدارتها.
وقال سيف إن «الوفد سيتأكد من إكمال جميع المعايير المطلوبة، حسب ضوابط منظمة اليونيسكو، من أجل تعزيز التقرير بهذا الإنجاز»، مشيرا إلى أن «هنالك متطلبات سيتم إتمامها إلى جانب التقرير مطلع شهر يناير (كانون الثاني)، على أن يوضع على طاولة المنظمة للتصويت عليه في شهر مايو (أيار) من العام المقبل خلال اجتماع المنظمة الذي من المقرر عقده في تركيا».
وأضاف سيف: «إن ضم هذه المناطق على لائحة التراث العالمي سيوفر لها الحماية والدعم الكافي من أجل النهوض بالواقع السياحي والخدمي وتأمين الواقع البيئي والاجتماعي للسكان المحليين فيها»، منوها بحاجة الملف خلال هذه المراحل إلى «دعم سياسي مركزي لتحفيز أعضاء المنظمة للتصويت عليه من خلال إقامة مؤتمرات وندوات وطباعة البوسترات، بالإضافة إلى تحشيد الخارجية العراقية بهذا الجانب».
وكان مدير دائرة بيئة محافظة ذي قار محسن عزيز، أعلن مطلع الشهر الحالي عن قرب وصول فريق من خبراء منظمة اليونيسكو لإجراء التقييم النهائي وإعداد التقرير ختامي للواقع البيئي والتراثي لمناطق الأهوار وزقورة أور تمهيدا لضمها إلى لائحة التراث العالمي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)