في مساء هادئ، يشبه صمته خشوع المصلين في الكنيسة التي استضافته، أحيت نخبة من الموسيقيين المبدعين، بينهم الموسيقار السوري الأصل، مالك جندلي، وسارة كونيللي (ميتزو سوبرانو)، والفرنسي نيقولا نيبو الذي قاد الأوركسترا، وآخرين، حفلا موسيقيا، كان مناسبة لبعض أبناء الجالية السورية للاستماع ما قرب من الساعتين إلى عدد من المؤلفات الكلاسيكية العالمية المميزة. لكنه كان أيضا، مناسبة لهم ولجمهور إنجليزي، للقاء جندلي، الموسيقار الشاب الذي يأخذ معه في كل جولاته، أطفال سوريا، ويوزع على العالم رسائل هادئة، لكنها حارقة ومؤلمة حد الفجيعة عن مأساة بلده الأصلي، وما خلفته الحرب من دمار وخراب ومآس يتعامل معها هو في إطار فني رائع.
أقيم الحفل، الأسبوع الماضي، في كنيسة سانت جيمس في وسط لندن، كحفل خيري لمساعدة أطفال سوريا. وحظي بدعم «اليونيسكو» (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في لندن. وتضمن معرضا للصور توزع على جدران الكنيسة وأعمدتها الداخلية، نظم بدعم من مؤسسة «اصفري» الخيرية في بريطانيا.
بدأ الحفل بمالك جندلي، الذي قدم لجمهور ملأ قاعة الكنيسة، رائعته «فونيكس» أو طائر العنقاء (الفينيق)، وهي آخر أعماله، وسبق تسجيلها بمصاحبة الأوركسترا الملكية البريطانية، ووزعت في ألبوم ضم أيضا، منوعات للبيانو والكمان، و«السيمفونية السورية» التي سجلها مالك بمصاحبة الأوركسترا الروسية، وبدعم من مؤسسة «أصفري» الخيرية أيضا.
وجندلي معروف كموسيقي، لكنه كعازف يعد عالميا، ومن بين الشخصيات العالمية البارزة. وتحظى تسجيلاته الموسيقية المتميزة بترحيب وافر. وقد أشادت به هيئة الإذاعة البريطانية ووصفته بـ«عازف البيانو الشهير». بينما وصف بوب ستيفنسن، من «ناشيونال بيزنيس ريفيو»، موسيقاه بـ«المتدفقة والمحفزة على التفكير». وقال عنها موقع «هافنغتون بوست»، بأنها أعمال «ملهمة».
بدأ جندلي كعازف بيانو سنة 1988، بعد فوزه في مسابقة «الفنانين العالمين الصغار»، تبعها بـ«جائزة الأداء الموسيقي» في الولايات المتحدة. وسجل مع الأوركسترا الروسية مقطوعته «أصداء من أوغاريت» التي أطلقت عام 2008، وقد وضعها استنادا إلى أقدم تدوين موسيقي في العالم، اكتشف على قطعة من الفخار في مدينة أوغاريت السورية القديمة. ولم يتوقف جندلي منذ بداياته عن حصد الجوائز التقديرية.
في موسيقاه يمزج جندلي بين اللون الشرق أوسطي والصيغ الموسيقية الغربية الكلاسيكية وتوليفاتها، وهي تمتد من «موسيقى الغرفة» إلى العمل الأوركسترالي الكبير، مرورا بكونشرتو الكمان والبيانو. وقد أدت مؤلفاته الموسيقية أوركسترات عالمية عدة، مثل الأوركسترا الملكية البريطانية، وستوكهولم سوليستر، والأوركسترا الروسية.
يعتز مالك كثيرا بعمله الأخير «فونيكس»، ربما لأنه يخلق عالما حسيا متدفقا بالأمل الصاعد من وسط الخراب. إذ تقوم سيمفونيته على أسطورة طائر الفينيق، الذي يموت في كل مرة محترقا لكي ينهض من الرماد. تقول الأسطورة إن الطائر يموت محترقا في عرض مشهدي. ويشير بعض المصادر، إلى أن الفينيق يموت ويتحلل قبل أن يولد مرة أخرى. وتقول نصوص أخرى، إن الطائر يعيش أكثر من 1400 سنة، قبل أن يموت ويولد من جديد.
وفي كلمة قصيرة أمام الحضور، لخص مالك ذلك كله بجملة واحدة، حين قال إن سوريا المدمرة، سوريا الخراب، ستنهض من جديد، وتولد كما يولد طائر الفينيق بعد موت.
جاء في تحليل شيق، أشبه ببحث عن تفاصيل الحكاية الإغريقية القديمة، في التأثير الحسي للألحان التي تنقلها الآلات الموسيقية المختلفة: «ما إن تدخل آلة الأبوا (نفخ) باللحن الرئيسي، حتى نسمع نواح الطائر (الفينيق) الباحث عن حريته في صيحته الحزينة. فقد جرى إبعاده عن وطنه الحبيب، ويبحث عن ملجأ آمن. تقطع الوتريات صيحة الطائر لتنقل لنا عويل الرياح، وتشعرنا بمسار الغيوم التي تعبر السماء فجأة. وما إن يرتفع الطائر ويمضي بعيدا، حتى تنهض طيور من مختلف الأشكال والأحجام، وتصعد محلقة خلفه وهي تغني بصوت واحد كجوقة. وتطلق كمان تلعب «سولو منفرد» صرخة الطائر الذي يواصل رحلته وحيدا إلى مصيره، لكي ينهض من جديد، كما في الأسطورة.
السوريون سوف ينهضون كالعنقاء، ويعيدون بناء وطنهم بطريقة حتى أفضل بكثير مما كان عليه.
عبر التاريخ، لم يعش طائر الفينيق عمره كله، لكنه لم يفشل أبدا في النهوض من رماده ليغني قصة الشعب الحي.
سُجلت سيمفونية «فونيكس»، في 21 مايو (أيار) 2014 مع الأوركسترا الملكية في لندن. وسط الاحتفال، شغلته سارة كونيللي، التي قدمت ثلاثة ألحان، صاحبتها الأوركسترا بقيادة الموسيقي الفرنسي الشاب، نيقولا نيبو، وكان العرض تقليديا يميزه أداء سارة. لكن الأداء الذي أثار الجميع، جاء في الفقرة الأخيرة، حين قاد نيقولا الأوركسترا في عزف السيمفونية الخامسة للودويغ فان بيتهوفن، حيث كان التفاعل بين «المايسترو» الذي قدم بحركات لوحات فنية، تفاعلت تماما والإيقاعات اللحنية، والعازفين المنفعلين بحماس بما يؤدونه، والجمهور الصامت حد الموت، وفي داخله ثورة مشاعر جميلة أيقظتها اللحظات الأولى للافتتاحية التي تعد واحدة من بين الافتتاحيات الأكثر شهرة في عالم الموسيقى كله. فهي «مثل قدر يدق الباب»، رغم أن آخرين قد يرون الأمر مختلفا. شخصيا أستمع إليها من حين لآخر، حين أستيقظ من النوم. تبدأ كمنبه قاس ينبئ بمجهول، ويواصل تحذيره بصخب. لكن بعد نحو أربعين دقيقة، تدخل النحاسيات، ثم الوتريات (الكمان خصوصا)، ثم الفلوت، في لحن قصير راقص، فتهدأ أعصاب الجميع، قبل أن تتهيأ لما هو آت. ينتهي كل شيء مثل حلم، ويستيقظ الجميع على حقيقة أنهم لم يأتوا للاستماع إلى الموسيقى وحسب، بل ومدفوعين أيضا، بالرغبة التي تشبه الواجب في دعم أطفال سوريا، كما فعلت نخبة الموسيقيين الذين قدموا للمناسبة كل ما يملكون.. أصواتهم وموسيقاهم.
{جندلي} قدم «فونيكس» لبث الأمل بنهوض سوريا من الخراب
في حفل موسيقي خيري أقيم في كنيسة «سانت جيمس» دعمًا للأطفال
{جندلي} قدم «فونيكس» لبث الأمل بنهوض سوريا من الخراب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة