أقدم شارع للعرسان في بغداد.. يحتفظ بموقعه المتفرد وذكرياته الجميلة

زاره فنانون كبار بينهم سعاد حسني وعليا التونسية

جانب من شارع النهر  -  عراقيات أمام محل لبيع الذهب في السوق
جانب من شارع النهر - عراقيات أمام محل لبيع الذهب في السوق
TT

أقدم شارع للعرسان في بغداد.. يحتفظ بموقعه المتفرد وذكرياته الجميلة

جانب من شارع النهر  -  عراقيات أمام محل لبيع الذهب في السوق
جانب من شارع النهر - عراقيات أمام محل لبيع الذهب في السوق

اسمه شارع النهر، أو شارع البنات، أو شارع العرسان في بغداد، كما يسميه البعض، ويمثل إحدى أكبر أسواق الجمال والموضة منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان. فيه يمكن قياس جمال المرأة العراقية وأناقتها، كونه مركز الأساس لبيع الملابس خصوصا ملابس العروس بكل لوازمها ومستلزمات حفل الزفاف من حلي وإكسسوارات ومصوغات ذهبية ومفارش زينة، إضافة إلى الأقمشة والماكياج والعطور، ويتفرد بطرازه المعماري المميز. ولم تزل العائلة العراقية تحتفظ بذكرياتها الجميلة عن هذا الشارع على الرغم مما أصابه في السنوات الأخيرة من إهمال وفوضى ودخول مهن طارئة على طبيعة السوق ومحالها.
موقعه المميز في قلب بغداد أضاف له مكانة أكثر أهمية، فساحته تقع في منتصف شارع الرشيد مقابل جسر الأحرار، ويمتد في وسط بغداد، وبمحاذاته تقع مصارف مهمة كالبنك المركزي الواقع في شارع الرشيد، ومصرفي الرافدين والرشيد، وتلتقي معه سوق الصفافير المهمة بالنسبة للزوار العرب والأجانب. ويبدأ بجسر الأحرار وينتهي بجسر الشهداء، ولا يزال يستمد أهميته، فهو من بقايا موروثات الماضي الحافل بالذكريات، حيث يضفي على العاصمة بغداد الفتنة والسحر والخيال.
وقد قصده معظم السياح والفنانين خلال زيارتهم البلاد، ومن أشهرهم الفنانة سعاد حسني أثناء عملها في فيلم «القادسية» في ثمانينات القرن الماضي، إضافة إلى الفنانة عليا التونسية، وآخرين.
وحتى وقت قريب كان شارع النهر يزدهي بجميلات بغداد اللواتي يقصدن السوق لأجل إكمال مستلزمات العرس، وشراء الذهب الخاص بهذه المناسبة، وفي الحقيقة كان التسوق عبارة عن نزهة يقضون فيها نهارا كاملا لا يخلو من ركوب البلم (الزورق) للوصول إلى السوق وارتياد المقاهي والمطاعم المنتشرة في أرجائها بعد رحلة تسوق متعبة وجميلة. وقد اتخذ تسميته بـ«سوق العرائس» كونه يلبي كلَّ احتياجات العروس البغداديَّة. وتأتي تسميته بشارع النهر لأنَّه يغفو على ذراع دجلة سعيدا ببغداد وألقها. وعند الدخول له من جهة جسر الأحرار ستقابلك محال صياغة المجوهرات والحلي الذهبيّة والفضيّة وبعض محال الأنتيكات المجاورة لبناية غرفة تجارة بغداد التي تأسست سنة 1926، وتعدُّ هذه البناية القاسم المشترك بين الشارع ونهر دجلة، إذ تطلُّ واجهتها على الشارع وتطلُّ خلفيتها على النهر.
وكانت محال الصياغة تمتدُّ حتى بداية سوق الورد (لبيع الملابس ومستلزمات الجميلات) قرب بناية الأوقاف سابقا أو قرب بناية البنك المركزي حاليا. وفي أول دخولك للشارع تشدك حتما محال الذهب وما أكثرها بأسمائها الجميلة وبضاعتها التي اختفت عنها العرائس بسبب اختفاء ظاهرة البيع بالمفرد، وتخصصت تلك المحال ببيع الجملة، مثل مجوهرات الزهراء، والمبارك، والملوك، والياقوت، وملاك.. أمَّا الآن فبعد بناية غرفة التجارة يمتدُّ أمامنا ما تبقى من محال الملابس والأحذية والحقائب النسائية والماكياج.
وبسبب الظروف الأمنية الصعبة التي حلت بالبلاد، فقد أغلق معظم أصحاب المحال القديمة مثل محل «أورجينال» الخاص بالملابس الفرنسية، ومحلات «ولدي» الخاصة بملابس الأطفال، وحلت محلها بضعة مصانع صغيرة للحلي الكاذبة وبقايا من محال بيع وصياغة الذهب، إلى جانب محال لبيع الأحذية الرياضية للأولاد.
يقول أبو مها، وهو بائع حقائب وأحذية نسائية بالجملة: «بعد جعل شارع الرشيد بمسار واحد في التسعينات من القرن الماضي أفل نجم شارع النهر، إذ كان في الماضي يغصُّ بالفتيات العراقيات الجميلات.. ومعهن يتوافد الشباب للفرجة مرَّة.. ولمرافقة عرائسهم في مرَّات أخرى.. أمَّا هذه الأيام فقد هجرته أقدام النساء وأصبح شارعا يبدو مقفرا من أي حركة تعيد إليه شبابه وتألقه اللذين كان يعيشهما بترف كبير».
ويواصل حديثه قائلا: «الآن شارع النهر هو شارع تجاري بكلِّ ما تعنيه الكلمة.. كما يضمُّ عددا من الخانات التجارية التي تحوي الكثير من البضائع والمواد التي لها صلة قائمة بالتجارة». هذا الشارع يعرفه جيدا البغداديون بوصفه معلما من معالم العاصمة بغداد، ويشكِّل لوحة معمارية وتاريخية أيضًا. والطريف في هذا الشارع أنَّ هناك محكمة شرعية تتوسَّط خاصرته ويتم بها عقد القران، ولهذا أطلق عليه شارع العرائس.. وهو بحق كذلك.. وقد تحوَّلت معظم المحال إلى البيع بالجملة لأن مردودها المالي أكبر من المفرد، والسبب في ذلك التحوُّل هو قلَّة المتبضِّعين بالمفرد خاصة من النساء.
ويقول أبو شيماء، وهو صاحب محل لبيع الإكسسوارات والعطور: «إنَّ ميزة شارع النهر هي معروضاته من الملابس بكلِّ أنواعها، كما أن الشارع يقع في قلب بغداد، وهو يلبي حاجة المرأة بكلِّ مراحل حياتها بدءا من كونها طفلة حتى تصبح جدَّة، وقد عرف بمعروضاته وبدلات وثياب العرس، وأن مساحته كبيرة تبدأ من ساحة حافظ القاضي حيث يقع منتصف شارع الرشيد مقابل جسر الأحرار امتدادا إلى قلب بغداد».
ويضيف أبو شيماء: «تكمن أهمية شارع النهر في أن هناك أسواقا تراثية وشعبية تحيط به، ومن بينها سوق الصفافير التي تضم بين جنباتها جرار النحاس ولوحات تراثية.. وكذلك الشورجة سوق بغداد والمحافظات.
أما هلال زهرون، وهو صاحب أحد المحال في السوق، فيقول: «لم تعد السوق كما كانت عليه قبل أكثر من عشرين عاما لعدة أسباب، منها الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد وما سبقها من حروب متتالية، والإهمال الذي عانته منذ التسعينات». ويستذكر زهرون الشارع، قائلا: «كان سوقا مزدهرة مشرقة خلال سبعينات القرن الماضي، حتى خلال الثمانينات كان أفضل، فعلى الرغم من وجود الحرب لكن النساء كن كثيرات الشراء للذهب والمجوهرات لأن دخل الفرد كان جيدا». ويضيف زهرون: «ومعروف أن شارع النهر من الشوارع التي ترتادها النساء أكثر من الرجال، حيث كن يرتدن الشارع وهن سافرات بأجمل الأزياء والموديلات الحديثة، وكان الرجال خصوصا الشباب يأتون للتمتع برؤيتهن فيبدو الشارع ضاجا بالحياة».
وتلي سوق الصاغة سوق الحقائب والأحذية الجلدية مع وجود معامل وورش لصنع هذه المنتوجات. ويقول أبو وسام، صاحب أحد هذه المحال، إن «أكثر بيعنا من الحقائب والجلود هو للمحافظات الجنوبية ومحافظات الوسط، وبيعنا بالجملة لأن في تلك المحافظات طلبا أكثر من المستورد، وأن المتبضعين يطالبوننا بمواصفات معينة لصناعة هذه المنتوجات، ونقوم نحن بتصنيعها على وفق ما هو مطلوب».
وفي شارع النهر مساجد عديدة على طول الشارع أبرزها جامع «الباجه جي» الذي بني في ثلاثينات القرن الماضي، وقد كتب على بابه «الجامع مغلق لأنه آيل للسقوط»، وجامع «التكية الخالدية»، وجامع «العادلية الكبير» المجاور للبنك المركزي العراقي، حيث تعد بناية البنك المركزي أعلى بناية في بغداد، وجامع «الخفافين»، وهو من أقدم الجوامع في بغداد حيث يعود تاريخه إلى نهايات العصر العباسي.
يقول السيد أبو حيدر، بائع عباءات في سوق الخفافين «سمي الجامع بهذا الاسم نسبة إلى سوق الخفافين التي يقع فيها الجامع، وهو مكان صناعة الخفاف ومفردها خف وتعني الحذاء».
وفي وسط شارع النهر يقع البنك المركزي العراقي، إضافة إلى فروع مصرفي «الرافدين» و«الرشيد»، ومحال صيرفة، وبورصة العملات التي تشكلت مطلع التسعينات، وهي تجمعات للمتعاملين بالدولار في وسط السوق. وتضم السوق مجموعة من الخانات القديمة، ومفردها خان (وهي أماكن مبيت المسافرين قبل ظهور الفنادق)، وأغلبها يعود إلى العصر العثماني، ومنها «خان دلة» و«خان الباجه جي» و«خان الخضيري» و«خان النملة» و«خان النبكة»، وقد تحولت جميعها إلى محال تجارية لبيع الملابس.
وبعد سوق الملابس تأتي سوق دانيال، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى أول من باع بها وهو يهودي عراقي يدعى دانيال، وهذه السوق متخصصة ببيع لوازم الخياطة كافة، وإلى جانبها سوق لبيع الأقمشة النسائية والرجالية.
وعن تسمية شارع النهر بـ«النهر» اتفق أكثر التجار القدامى في الشارع على أن تسميته جاءت من محاذاته لنهر دجلة، إلا أن السيد مراد توماز، وهو تاجر ملابس قديم، قال «الكرخيون هم الذين أطلقوا هذه التسمية عليه لأنهم كانوا يأتون عبر الزوارق المسماة بـ(الدوب)، وعندما يسألونهم إلى أين هم ذاهبون يقولون إلى شارع النهر. وهكذا اكتسب هذا الشارع تسميته».
وبين سوق دانيال وسوق القبلانية توجد محال صغيرة جدا لرفي الملابس والعباءات المتشققة، ومع هذه المحال محال أخرى لبيع العباءات الرجالية العربية. وينتهي شارع النهر قبل أن ينفتح على مقترب جسر الشهداء من ناحية الشمال بالمدرسة المستنصرية التي بناها الخليفة العباسي المستنصر بالله في سنة 625 هجرية (1227 ميلادية).
حكايات كثيرة يحكيها شارع النهر، حيث قامت السيدة أم كلثوم بزيارة العراق للمرة الثانية عام 1953 بدعوة من البلاط الملكي عند تتويج الملك فيصل الثاني في مايو (أيار) عام 1953، حتى إن أهالي بغداد ظلوا لساعات متأخرة من الليل يستمعون على الهواء إلى أجهزة الراديو التي نقلت الحفل بواسطة سيارة نقل خارجي. وتبارى أهالي بغداد في تكريم السيدة أم كلثوم حتى إن أحد وجهاء بغداد أقام وليمة غداء لأم كلثوم والوفد المرافق لها على أكلة شلغم مشوي، حيث تم شي كمية منه في «طمة» حمام حيدر في شارع النهر.. وقد أعجبت به.
ولعل من المؤسف أن يفقد الشارع ملامحه التاريخية وحيويته التي عرف بها منذ عشرات السنين، فالحروب والحصارات منذ الثمانيات بدأت تأخذ من طراوة ومخملية هذا الشارع شيئا فشيئا، حتى بدا شبه مهجور لا تدل على صورته الماضية سوى بعض الأماكن التي تحفظ للشارع هيبته، لكنها لا تسعفه لاستعادة ماضيه، بعد أن تقاسمت إرثه مجموعة شوارع وأسواق في جانبي بغداد (الكرخ والرصافة) من دون أن تباريه بصورته السابقة أو مكانته. ويبقى ماضي شارع النهر الجميل عالقا بذكرياتنا إلى الأبد.
يقول دانيال، وهو أحد المتعاملين في صياغة الفضة والنقش عليها في شارع النهر: «إن مهنة الصياغة تقريبا مهنة شبه متوارثة عن أب وجد، وتقسم إلى قسمين، فضيات ومصوغات ذهبية.. والمصوغات الذهبية تشمل حلي النساء وحلي الزينة للرجال كالأساور والمحابس والحلق إلى نفائس ثمينة أخرى. وأحيانا يتم عمل تحفيات ذهبية حسب الطلب. وهناك الحلي النسائية كالتراجي والقلائد وغيرها، وهناك محابس فضية للرجال مركبة بالمينا السوداء ومحابس شذر خاصة متنوعة كالعقيق والفيروز والدر والياقوت، والتحفيات منها السيوف والخناجر، وهي لا يستطيع عملها أي شخص كان، وإنما المتقن فقط وذلك لدقتها، وهي متوارثة أيضا عن الأجداد».
وبشأن قدم شارع النهر فهو بقدم سوق الصفافير، وكان يسمى بشارع المستنصر لكونه اسما عربيا، والزبائن في الثمانينات والسبعينات من القرن الماضي كانوا من داخل العراق وخارجه خصوصا من الخارج، لأن الصياغة العراقية في فن التطعيم تتميز بحلاوتها وفنها خصوصا الفضة المطعمة بالمينا والمركب عليها ذهب. وأغلب الزبائن كانوا من الإنجليز، فهم كانوا يعتبرونه فنا يدويا (أكثر التحفيات)، والعمل النهائي له يصنع باليد وليس بالآلة ولذلك يكون مرغوبا فيه، ففي فترة الحصار الظالم بدأ شارع النهر يفقد الكثير من معانيه في أساتذة الصنعة (الأسطوات) المبدعين في الفن والإبداع خاصة في زمن النظام السابق، حيث هاجر أغلبية الصاغة إلى خارج الوطن.
الصائغ سلمان فائق، الكائن محله في شارع النهر، قال: «شارع النهر قديم منذ زمن العباسيين، فهو يطل على نهر قديم جدا منذ زمن العباسيين، كونه يطل على نهر دجلة ويبدأ امتداده من منطقة القشلة حتى نهاية جسر مود سابقا (الشهداء حاليا). هذا الشارع يأخذ أثرا تاريخيا من معالم حمام زبيدة (الست زبيدة) زوجة هارون الرشيد، ويسمى الآن بالطمة، والمعالم الموجودة فيه هي المدرسة المستنصرية وعدة جوامع قديمة أخرى، وهذه الجوامع وخان مرجان منذ زمن الدولة الجلائرية سنة 800 للميلاد تقريبا».
شارع النهر مهم لأنه يطل على نهر دجلة، ولهذا سمي بهذا الاسم، وله عصر ذهبي سنة 1930 وسنة 1932 في زمن الملك غازي، حيث كانت التجارة بين البلدان المجاورة مفتوحة، وكانت أكثر الشركات المهمة موجودة فيه، ويعتبر المركز الرئيسي لمدن العراق في التجارة حينها حتى سنة 1980 حيث بدأت الحرب العراقية الإيرانية وأصبح في هذا الوقت من بعد ذلك في تطوير من قبل النظام السابق، وأصبح نقمة وليس نعمة، وسبب هذا انقطاع الشارع من السيارات وتبليطه، ووضع الموانع في التسعينات حتى لا تصبح فيه عمليات تفجير، وكمثل نهر يجري على مزارع وانقطع فجأة هذا النهر مما أدى إلى موت الزرع. وقد أثر ذلك تأثيرا كاملا على هذه المحلات الضخمة التي تعتبر مصدر وقود لتجارة العراق.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)