خفايا «سجن العقرب» وتسريبات خطيرة لقيادات الإخوان

خلافات بين مجموعات الشاطر والحداد و«العائدين من سوريا» في أشد السجون حراسة في مصر

خفايا «سجن العقرب» وتسريبات خطيرة لقيادات  الإخوان
TT

خفايا «سجن العقرب» وتسريبات خطيرة لقيادات الإخوان

خفايا «سجن العقرب» وتسريبات خطيرة لقيادات  الإخوان

تنصبّ الخلافات داخل الإخوان بين مجموعة خيرت الشاطر، نائب مرشد الإخوان، وعصام الحداد، الذي كان مساعدًا للرئيس الأسبق محمد مرسي للشؤون الخارجية والتعاون الدولي. ويقول قيادي من حزب مقرب من جماعة الإخوان، ويدعى أحمد، وخرج من السجن قبل أسابيع، إن «الكثرة في سجن العقرب كانت لعناصر تنظيم القاعدة ثم لحق بهم آخرون ممن ألقي القبض عليهم في سيناء بعد أن لجأوا إليها قادمين من سوريا وليبيا والسودان».
اليوم أصبحت أغلبية رواد السجن، شديد الحراسة، تتكون من نوعين.. النوع الأول قيادات جماعة الإخوان، وعلى رأسهم محمد بديع مرشد الجماعة، الذي يميل إلى الدردشة حين يقابل أحد المسجونين، كما يقول لـ«المجلة» محمد فهمي، مدير مكتب قناة الجزيرة الإنجليزية السابق في القاهرة، الذي حكم عليه بالسجن في قضية «خلية الماريوت» الشهيرة، وأمضى بعض الوقت في «العقرب» قبل أن يصدر عنه عفو من الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ أيام، ضمن قرار رئاسي بالعفو عن مائة من المساجين.
أما النوع الثاني من المحبوسين في هذا السجن فهم بقايا زعامات قديمة ومن سار على دربهم من جيل المتطرفين الجدد الذين عاصروا الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وحاربوا مع «داعش» في بلدان المنطقة. واليوم تقول التسريبات التي جاءت من داخل العقرب إنهم، بعد أن كانوا قبل عام يدافعون عن مرسي، «انقلبوا على الإخوان، وأصبحوا يحملونهم مسؤولية الانتكاسة التي أصابت تجربة حكم التيار الديني القصيرة في مصر».
ووفقًا لمعلومات من سجناء سابقين، فإنه يوجد ضمن مجموعة النوع الأول في سجن العقرب، ذي البوابات المصفحة، الشاطر نفسه الذي يعد أهم الشخصيات المؤثرة في مسيرة جماعة الإخوان خلال العشرين عامًا الأخيرة، لكن الشاطر، كما يقول فهمي وشهود آخرون، موجود في جناح آخر بعيد، ويضيف أنه «من أكثر الشخصيات ذات الوضع الخاص داخل السجن».
فيما يتعلق بالمشكلة الأولى بين الشاطر والحداد، فإنها، وفقًا للروايات التي حصلت عليها «المجلة»، تخص بنود أوراق للمصالحة تسعى إليها الجماعة، منذ شهور، لتقديمها للسلطات المصرية من أجل تسوية أوضاع الجماعة، سواء بالنسبة للقيادات العليا أو القيادات الوسطى ممن يحاكمون في تهم مختلفة داخل السجون.
ويعكف الشاطر على تدوير بنود هذه الورقة بين قادة آخرين في سجن العقرب وفي سجن ملحق مزرعة طرة المجاور. وأصبحت البنود لا تتضمن التمسك بمرسي كرئيس. وهذا ما يعارضه الحداد الذي عمل بالقرب من مرسي في أحلك الظروف.
كان السجين السابق أحمد، بحكم قربه من الإخوان، مطلعًا على جانب من عمليات تمرير بنود الورقة بين دهاليز سجن ملحق مزرعة طرة الذي يوجد فيه رئيس البرلمان السابق الدكتور محمد سعد الكتاتني، حيث استمر التعديل في الورقة كثيرًا من المرات، في محاولة لحل أزمة الجماعة.
وأحمد الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملاً وهو يدلي بشهادته، كان من بين الخطباء الذين ظهروا على منصة الاعتصام الشهير لأنصار الإخوان في ميدان رابعة العدوية عقب عزل مرسي في بداية يوليو (تموز) 2013.

سجناء من الفريق الرئاسي لمرسي
من بين قادة الإخوان في «العقرب» هناك أيضًا أعضاء من الفريق الرئاسي لمرسي. ويذكر هذا القيادي الحزبي أن الشاطر لم يكن يختلط بالآخرين كثيرًا داخل محبسه، ويقول إنه «كان خلال شهر يوليو الماضي، كما علمنا من المرشد نفسه، يعكف على مراجعة أورق تتضمن مقترحات للخروج من المشكلة غير المسبوقة التي تمر بها الجماعة.. هذه الورقة الذي سبق تداولها مرارًا وتعديل بنودها أكثر من مرة، جاءت أولاً من قيادات إخوانية، من حزب الوسط ومن حزب الحرية والعدالة، من المسجونين في سجن ملحق المزرعة».
ويضيف أن «الحداد حين علم بالموضوع، منذ البداية، سأل عما إذا كان مرسي مطلعًا على الأمر. فكانت الإجابة بالنفي من جانب مجموعة الشاطر». ويوجد مرسي قيد الحبس في سجن برج العرب الذي يقع على بعد نحو 230 كيلومترًا شمال غربي القاهرة.
وهنا بدأ الحداد يرد بالرفض على بنود الورقة رغم عمليات «القص واللصق» التي جرت عليها، وذلك بسبب خلوها من تمسك الجماعة بمرسي كرئيس للدولة. وحين أصر على موقفه، بحسب المصادر، رد الشاطر باتهام مساعد الرئيس الأسبق بأنه هو السبب في تسريب معلومات تخص الرئيس مرسي للجيش، عن الزيارة الخاصة التي أوفده فيها إلى الولايات المتحدة الأميركية.

المواجهة بين الشاطر والحداد
ويتذكر القيادي الحزبي بداية ظهور نذر المشكلة والمواجهة بين الشاطر والحداد، داخل «العقرب» قائلاً إنها حدثت بعد نشر حوار أجرته صحيفة «المصري اليوم» الخاصة، في مايو (أيار) الماضي، مع مذيع الجزيرة فهمي، حين خرج من السجن بكفالة في ذلك الوقت. وتطرق فهمي في حواره مع «المصري اليوم» بشكل عابر، حينها، لما قال إنه اعتراف من الحداد بأنه فوجئ بعِلم الجيش المصري بما دار في لقائه الخاص مع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تطبيق الديمقراطية على القوات المسلحة المصرية.
ويقول أحمد إن انتقاد الشاطر للحداد على هذه الواقعة، وتلميحه إلى تحميل مساعد مرسي مسؤولية خروج هذا التسريب إلى قيادات وزارة الدفاع المصرية، لم يبدأ بالفعل إلا بعد اعتراض الحداد على تجاهل وضع مرسي في بنود المصالحة المزعومة التي لم تر النور حتى الآن. حدث هذا لأول مرة في عدد من المنتديات والتجمعات المحسوبة على الشاطر خارج السجن، التي أخذت تتحدث عن أن الحداد لم يكن على قدر المسؤولية، لأنه سمح بخروج المعلومات من مكتب مرسي.
لكن المجموعة الموالية لمرسي ولمساعده الحداد، ردت بعنف على تلميحات أتباع الشاطر، كما هاجمت محمد فهمي أيضًا. لكن التفاصيل كان من شأنها أن تزيد الأمور تعقيدًا، لأن قيادات إخوانية في السجن أصبحت تتشكك في وجود اختراق داخل المستويات العليا من الشخصيات الإخوانية التي كانت حول مرسي.
ومن بين من دافعوا عن الحداد موقع «نافذة مصر» على الإنترنت، الذي قال وقتها إنه مرر سؤالاً للحداد حول صحة تطرقه للجيش في لقائه مع أوباما، وذلك عن طريق أحد أقاربه أثناء زيارته له في سجن العقرب، وأنه تلقى ردًا من الحداد ينفي فيه «الحديث عن الجيش المصري أو طلب نصيحة الولايات المتحدة، بشأن كيفية التحكم في القوات المسلحة»، وأنه؛ أي الحداد، قال أيضًا إنه «لم يلتقِ فهمي خلال فترة وجود الأخير بسجن العقرب كما زعم».
اضغط بالأسفل على الرابط وشاهد التفاصيل في موقع مجلة (المجلة)



فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
TT

فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)

إذا كان هناك حدث فارق في التاريخ الإسرائيلي، فإنه يكمن في واقعتين مفجعتين في قاعة المحكمة المركزية في القدس، خلال الربع الأول من الألفية الثالثة؛ الأولى في عام 2009 والأخرى في 2024. «البطل» فيهما اثنان: الرئيس الأسبق إيهود أولمرت، والآخر هو الرئيس الحالي للحكومة بنيامين نتنياهو.

الرجلان يمثلان الجيل الثالث الصاعد من قادة «الحركة الصهيونية»، ويعكسان ما جرى لإسرائيل منذ أن انطلق كل منهما في سنوات التسعينات شابين «متألقين وموهوبين». كلاهما من «الليكود» اليميني، الذي هزم حزب الآباء والأجداد المؤسسين «العمل» في عام 1977، ومنذ ذلك الوقت يتوالى على الحكم.

برز أولمرت قائداً متمرداً، بنى مجده على محاربة الفساد. انتُخب للكنيست ثم لرئاسة بلدية القدس، ونفذ عشرات المشاريع لتهويدها وتعزيز الاستيطان فيها. ثم قاد في ظل أرئيل شارون الدولة العبرية، منذ عام 2001، إلى عصر جديد، لتتحول إسرائيل «امبراطورية» في التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث في الكنيست إلى الصحافيين مايو 2023 (رويترز)

بين أولمرت ونتنياهو

على الساحة السياسية، حصل تطور بالغ لدى أولمرت نحو الدبلوماسية الواقعية؛ إذ اعترف بأخطاء الاحتلال وانسحب مع شارون من الليكود وقاد مشروع الانفصال عن قطاع غزة، وعندما مرض شارون وحل محله في رئاسة الحكومة عام 2005، أحدث انعطافاً حاداً في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين. وتعامل باحترام كبير مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واستقبله في مقرّه في القدس الغربية رافعاً علم فلسطين إلى جانب العلم الإسرائيلي. وعرض عليه مشروع حل حقيقياً للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس حل الدولتين.

أما نتنياهو، فقد نشأ قائداً سياسياً يتفوق في العمل الدبلوماسي ويتقن الخطابة باللغة الإنجليزية، لكنه اعتمد أساليب الخداع والاحتيال، فلم يلتقِ رئيساً أو ملكاً إلا وخرج بانطباع عنه أنه شخص غير صادق.

عام 2009، وعندما كان حل الدولتين مطلباً عالمياً، ألقى نتنياهو خطاباً وُصف يومها بـ«التاريخي» أعلن فيه تأييده هذا الحل. وكان أبلغ رد عليه، ما قاله عنه والده، المؤرخ بنتسيون نتنياهو: «إنه ليس أهبل. هو لا يوافق على حل الدولتين». بالفعل، عمل كل ما في وسعه ولا يزال ليمنع ذلك. وعلى الطريق، تمكن من الدخول في صدامات واحتكاكات مع معظم قادة العالم، بمن في ذلك رؤساء الولايات المتحدة الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.

وما بين أولمرت ونتنياهو إدانات ومحاكم. الأول، أدين في قاعة المحكمة المركزية في القدس بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، وأمضى في السجن 16 شهراً. وحال تقديم لائحة اتهام ضده استقال من منصبه، ليتعاون مع جهاز القضاء فانتهت محاكمته بعد سنة فقط. أما الآخر، فقد بدأت محاكمته قبل أربع سنوات ولا يبدو أنها ستنتهي قبل أربع سنوات أخرى وأكثر. وبسببها، يخوض حرباً ضد أجهزة القضاء.

كلاهما يتهم الجهاز القضائي بتدبير مؤامرة للإطاحة به؛ أولمرت يعتقد أن التهم ضده نُسجت لأنه كان قد انطلق في مسار سياسي يفضي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. وأصدر كتاباً يشرح فيه بالتفصيل كيف عملت ماكينة التحريض عليه. وما زال حتى اليوم متمسكاً بطريقه ويؤكد أن من يريد الخير للأجيال القادمة في إسرائيل يسعى لتسوية للصراع مع الفلسطينيين مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون.

ويتهم نتنياهو الجهاز القضائي بالتآمر عليه من الدولة العميقة اليسارية لغرض إسقاط حكم اليمين؛ لأنه يعمل بشكل حثيث ومثابر على منع إقامة دولة فلسطينية.

أولمرت متواضع ونتنياهو متكبر. غالبية الذين عملوا مع أولمرت يعتقدون أنه كان من أفضل رؤساء الحكومات عبر التاريخ الإسرائيلي ويمتدحون سماته. ويعتبرون فساده خطأً إنسانياً نادراً لم يكن يستحق محاكمته وسجنه. بينما يقول غالبية الذين عملوا مع نتنياهو إنه «لا صاحب له»، وينتقدون تصرفاته الفظة ويؤكدون أنه بلا مشاعر. زوجة الأول بقيت في الظل. وزوجة الآخر توصف بأنها «شريرة وتدير حروباً ضد كل الخصوم بطريقة تذكّر بأساليب المافيا».

يخوض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حرباً مع الجهاز القضائي الإسرائيلي (إ.ب.أ)

قصة محكمة

بالعودة إلى أروقة المحكمة، حرص الكثير من الوزراء والنواب على حضور جلساتها التي تنظر في قضية نتنياهو، للتضامن «التظاهري» معه. وزير التربية والتعليم في حكومة إسرائيل، يوآف كيش، الرجل المكلف تربية الأجيال الطالعة، حضر متأخراً. فراح يشق طريقه بمرفقيه إلى قاعة المحكمة المزدحمة ويلوح بيده مرّة، ثم مرّة ثانية وثالثة في محاولة يائسة لجذب انتباه نتنياهو المتهم، ولو بطرف عينه. ظل يلوّح حتى لاحظ نتنياهو ذلك. وعندها فقط بدا عليه الارتياح.

هذه الصورة ينقلها الصحافي بن كسبيت، ويقول: «لم أكن لأتطرق إلى هذا النفاق لولا أنه اتضح لنا، قبل يومين، وضع التعليم في إسرائيل تحت قيادة كيش. نتائج اختبارات TIMMS (مسابقة للعلوم والرياضيات)، واختبارات PISA (تهدف إلى معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية) وضعت أمامنا صورة مرعبة. ليس أقل من ذلك. نوعية الطلاب الإسرائيليين آخذة في الانخفاض. طبقة المتميزين، التي كانت دائماً غنية وسميكة، أصبحت تتقلص».

يعتقد بن كسبيت أن «إسرائيل فقدت ميزات التفوق على الأعداء». لأنه «من دون العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، لن تكون هناك الوحدة 8200 (شعبة الاستخبارات العسكرية). ومن دون التفوق العلمي، لن نحقق تفوقاً استخبارياً كما في تفجير أجهزة (البيجر) في لبنان (التي فجَّرتها إسرائيل بألوف عناصر (حزب الله) خلال الحرب)، ولن يكون لدينا تطبيق ويز (تابع لشركة متخصصة في الأمن السيبراني)، ولا قبة حديدية، ولا صواريخ السهم، ولا الطائرات من دون طيار، ولا الليزر، ولا القدرات التي أظهرتها أجهزتنا الأمنية في الـ14 شهراً الأخيرة (بعد الفشل الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول)».

«لا يوجد نصر كامل ولا نصراً جزئياً... كل ما هنالك مجرد استيعاب الضحالة والتطرف والجهل والسطحية. إذا استمر هذا، وهو مستمر ويتكثف في ظل هذه الحكومة، فلن نتمتع في الحرب المقبلة بكل المزايا التي تمتعنا بها في الحرب الحالية. هذه ليست نبوءة غضب. بل إنها بداية التدهور نحو العالم الثالث يمكن أن نراها بالعين المجردة»، يقول بن كسبيت.

أسير الكرسي

هذا بيت القصيد. فإسرائيل في عهد نتنياهو الطويل، الذي أصبح رئيس حكومة لمدة أطول من أي رئيس سبقه، لم تعد إسرائيل ناجحة وهي تواجه خطر الانزلاق إلى الهاوية. ليس لأنه لا يعرف كيف يدير دولة، ففي بداية عهده حقق إنجازات كبيرة في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بل لأنه أصبح أسيراً لكرسيه. وليس فقط لأنه يحب هذا الكرسي ويعتقد بأن الله حبا شعب إسرائيل به، بل لأنه يدرك أيضاً أن نزوله عن الكرسي، سيقوده إلى السجن. ولأن السبيل الوحيد للنجاة هو في البقاء رئيساً للحكومة بفضل قوى اليمين المتطرف يقود سياسة تخدم أجندة سياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية التي تحارب ضد أي إمكانية للسلام مع الفلسطينيين.

هكذا، فإن الدولة الحديثة، التي كانت في عام 2000 في مسيرة صعود، تغدو في مسيرة هبوط. ليست «بيت عنكبوت»، لكن مكامن قوتها تضعف. الدولة التي حظيت في عام 2002 بعرض عربي بالغ السخاء، بمبادرة سلام مع جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية مقابل تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين، تخوض حروباً جنونية تجعلها مكروهة ومنبوذة بلا أفق سياسي. وقيادتها تبشرها بالعيش على الحراب عقوداً طويلة، تورِث الأجيال القادمة مزيداً من الصراعات والأحقاد.

فلسطينيون ينظرون إلى موقع غارة إسرائيلية على منزل في دير البلح وسط قطاع غزة الأحد (رويترز)

نكبة بعد نكبات

في مقابل ذلك، هناك الفلسطينيون؛ شعب ذو طموحات عالية وجهود كبيرة للتقدم والتطور، هو أيضاً منكوب بالصراعات والأزمات ويعيش نكبة ثانية، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل أيضاً بسبب تصرفات غير مسؤولة وغير محسوبة بشكل مهني سليم من بعض قادته.

مطلع التسعينات، كان حلم التحرر من الاحتلال قد اقترب كثيراً، عندما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، اتفاقيات أوسلو، في عام 1993، مع القائد الإسرائيلي الجاد إسحق رابين. لقد أحدث عرفات ورابين انقلاباً في العلاقات بين الشعبين، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف قتل رابين وأحدث بذلك انقلاباً ثانياً. ونفذ مذبحة الخليل، التي فتحت الباب أمام يمين متطرف فلسطيني نفذ عمليات مسلحة خطيرة ضد المدنيين في إسرائيل.

كانت كل عملية كهذه تحقق للمتطرفين الإسرائيليين مكاسب جماهيرية ضخمة، فالمتطرفون يغذون بعضهم بعضاً ويؤججون العداء والكراهية ويعتاشون منها.

نحن اليوم في عصر غزة. الانقلاب الثالث، خلال ربع قرن. انقلاب قاد إسرائيل إلى حروب جنونية، وذهب بالفلسطينيين إلى نكبة ثانية، دفع ثمنها معهم أيضاً لبنانيون وسوريون ويمنيون. نكبة، تحمل في طياتها كل أسباب البؤس واليأس والإحباط. الشعبان يحتاجان إلى قيادات تعرف كيف تبني الأمل ولا تخضع للمأساة، وكيف تعثر على طاقات النور في حلكة الظلام. ومسارات التاريخ حبلى بالنماذج التي يولد فيها قادة يعرفون كيف يحدثون الانعطاف في حياة شعوبهم، لعلها تكون بشرى الربع المقبل من الألفية الثالثة.