تونس تنظم ملتقى حول التراث المعماري المتوسطي بمشاركة 12 دولة

تحتل المرتبة الثانية بعد إيطاليا بنحو 40 ألف موقع ومعلم أثري

تونس تنظم ملتقى حول التراث المعماري المتوسطي بمشاركة 12 دولة
TT

تونس تنظم ملتقى حول التراث المعماري المتوسطي بمشاركة 12 دولة

تونس تنظم ملتقى حول التراث المعماري المتوسطي بمشاركة 12 دولة

يختتم اليوم الملتقى الدولي السادس حول التراث المعماري المتوسطي الذي تنظمه تونس لأول مرة. وقد اشتمل على خمسة محاور رئيسية شارك فيها مائتا خبير متوسطي. وتناقش نحو 120 مداخلة علمية اهتمامات تتراوح بين تصنيف التراث والتراث العمراني والمعماري المتوسطي، وتقنيات التحليل، وترابط وتفاعل التراث المبني والتراث الأخضر، إلى جانب الاستراتيجيات المحلية والإقليمية وقائمة المتدخلين في مجال التراث.
وينظم هذا الملتقى الذي يحتضنه قصر العلوم بمدينة المنستير (وسط شرقي تونس) تحت شعار «التفاعلات حول التراث بين ضفاف المتوسط: نحو اندماج أفضل». وقد افتتح في 5 نوفمبر (تشرين الثاني). وشهد الملتقى مشاركة خبراء من بلدان متوسطية وأخرى بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط وضمت قائمة الدول المشاركة المغرب والجزائر ومصر وفلسطين وتركيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيران ورومانيا، إضافة إلى تونس البلد المنظم.
وبشأن الملتقى الدولي حول التراث المعماري المتوسطي، قال توفيق بالحارث، رئيس الدورة السادسة، لـ«الشرق الأوسط»، إن الدورة تركز على دعم التعاون الثقافي بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وهدفها من ذلك تعزيز تبادل المعارف والمهارات والخبرات المتعلقة بالتراث المعماري والمحيط الحضري. وأضاف أن حضور عدة خبراء لهم صيت كبير على المستوى الدولي يجعل الملتقى ورشة حقيقية لحماية التراث وتثمين المراكز الحضرية والأحياء التاريخية وتشريك السكان في الحفاظ على المواقع التراثية.
وعبر نبيل قلالة، المدير العام للمعهد التونسي للتراث، عن انشغاله العميق تجاه وضعية المعلم الأثرية التونسية. وقال أمام مجموعة من الخبراء المتوسطيين «إنها غير مريحة»، وهي تتطلب المزيد من الحماية والحد من التخلف البشري والاعتداء عن طريق الهدم أو البناء في مواقع أثرية. وأضاف أن تونس تحتوي على ترابها ما لا يقل عن 40 ألف موقع ومعلم أثري وهي تحتل في هذا الأمر المرتبة الثانية مباشرة بعد إيطاليا من حيث أهمية المواقع الأثرية.
وأشار إلى أن حماية التراث المعماري المتوسطي تقتضي تفعيل مجموعة من الاتفاقيات والشراكات بين الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط حتى تساهم تلك المواقع الأثرية في التنمية.
وحتى لا يبقى الملتقى ضمن الإطار النظري البحت، نظمت هيئة الملتقى التي واصلت تحضيرات البرنامج منذ نحو أربع سنوات خلت، مجموعة من الرحلات الميدانية اطلع خلالها الخبراء على عدة مدن تونسية. وقال منذر الزيدي، رئيس جمعية صيانة مدينة المنستير، في تصريح إعلامي، إن الزيارات شملت مدن القيروان وتوزر وقبلي ومطماطة والمهدية والجم وصفاقس، إضافة إلى مدينة تونس العتيقة. وأضاف أن الخبراء تحمسوا كثيرا لزيارة المدن التونسية والاطلاع على خصوصياتها المختلفة بين مدينة تونسية وأخرى، ناهيك باختلافها عن التراث المعماري في بقية بلدان المتوسط.
بقي أن نشير إلى أن الملتقى الدولي حول التراث المعماري المتوسطي ينتظم مرة كل سنتين في إحدى مدن المتوسط، وقد انطلقت دورته الأولى في المغرب سنة 2005، أما الدورة الخامسة فقد احتضنتها مدينة مرسيليا الفرنسية وكانت سنة 2013.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)