شبكة مترو موسكو تحمل التاريخ وتعرض الفن

شاهدة على الحقبة السوفياتية وجاذبة للفنانين المعاصرين

بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»
بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»
TT

شبكة مترو موسكو تحمل التاريخ وتعرض الفن

بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»
بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»

مترو الأنفاق في العاصمة الروسية موسكو يشكل ظاهرة فريدة بحد ذاتها، وفرادة مترو موسكو تنبع من كونه أقرب ما يكون بالنسبة للعاصمة الروسية الضخمة بمثابة مكانة الدورة الدموية والجملة العصبية لجسد الإنسان. فمع ساعات الفجر الأول تبدأ بوادر النشاط في تلك الشبكة المعقدة من الممرات الكثيرة تحت الأرض. وفي السادسة صباحا تفتح محطات المترو أبوابها، فترى الناس أفواجا يتدفقون داخلاً نحو الأسفل بسرعة. إلا أن المرء وهو يستخدم وسيلة النقل في عصر السرعة كثيرًا ما يفوته التوقف لتأمل الجمال من حوله في صالات المحطات. بعضها يبدو مثل صالات القصور، والبعض الآخر وكأنه متحف، وهناك منها ما يتعلق بعالم الكيمياء مثل محطة مترو «مندلييفسكايا»، التي أطلق عليها هذا الاسم تخليدا لذكرى الكيميائي الروسي الشهير ديمتري مندلييف واضع النسخة الأولى من الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. في تلك المحطة تشعر كأنك تمر عبر تاريخ الكيمياء، تحت إضاءة ثريات تم تصميمها على شكل بنية الكريستال.
ومن عالم الكيمياء إلى صالة تكاد تكون أحد أفخم المعارض الفنية في العالم، هي بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»، وتجسد إحدى اللوحات «صداقة فلاحة أوكرانية وفلاحة روسية»، فضلا عن لوحات فسيفسائية أخرى تصور حياة الفلاحين الأوكرانيين، ذلك أن اللوحات الفسيفسائية في المحطة مكرسة لمناسبة 300 عام على الصداقة الأوكرانية - الروسية. وبغض النظر عن موضوعاتها فهي لوحات عظيمة من الناحية الفنية الجمالية، جعلت من محطة المترو معرضا فنيا تاريخيا يجذب اهتمام الجميع.
ولادة هذا الصرح الحضاري كانت عسيرة، حيث لم يلق اقتراح المهندس الروسي تيتوف عام 1875 بشق نفق سكك حديدية تحت الأرض قبول سلطات المدينة في روسيا القيصرية حينها، وكذلك كان الرفض مصير مشروع آخر تم عرضه عام 1902، وعندما تم إقرار مشروع المترو عام 1913، أتت الحرب العالمية الأولى وحالت دون ولادته. أخيرًا وفي عام 1933 تم اعتماد مخططات الخطوط الأولى من شبكة مترو موسكو، وبدأت أعمال بناء شبكة مترو الأنفاق في موسكو، ليتم افتتاح المحطة الأولى منتصف مايو (أيار) عام 1935، وهو اليوم الذي يشكل تاريخ ميلاد مترو موسكو.
بعد خمس سنوات على افتتاحه نشبت الحرب العالمية الثانية، وكانت السلطات السوفياتية على وشك أن تغرقه بالمياه كي لا يستفيد منه النازيون إن احتلوا العاصمة موسكو، وكان يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1941 الوحيد الذي يتم فيه إغلاق المترو منذ ولادته وحتى يومنا الحالي، وفي مساء اليوم ذاته تم إلغاء قرار إغراق المترو. بعد ذلك لعب المترو دور الملاذ الآمن للموسكوفيين الذين وجدوا فيه خير ملجأ هربا من قصف الطائرات النازية. كذلك استفادت منه القيادات السوفياتية في إقامة احتفالاتها الحزبية، وتحديدًا في المحطة التي أطلق عليها اسم الشاعر العظيم مايكوفسكي. كما تحولت محطة مترو «كورسكايا» سنوات الحرب العالمية الثانية إلى مكتبة.
معايشة المترو لكل هذه الأحداث، فضلا عن ولادته في حقبة الاتحاد السوفياتي تركت أثرًا واضحا على معالمه، وتم تصميم محطاته الأولى بأسلوب يعكس روح المرحلة سياسيًا، ويجمع بين أرقى مستويات الفن الرفيع. مثالا على ذلك محطة مترو «بلوشاد ريفالوتسيا» أي «ساحة الثورة»، التي تنتشر على جانبي صالتها أقواس من الرخام بكل أنواعه الفاخرة، وعلى جانبي كل قوس تقف منحوتات فنية تصور شخصيات رئيسية في المجتمع السوفياتي مثل «الثوري العامل» و«الثوري الجندي»، و«الفلاحة التي حملت السلاح» و«المظلية ذات الجدائل» وغيرها، ويبلغ عدد هذه المنحوتات في محطة «بلوشاد ريفالوتسيا» 76 منحوتة كلها من البرونز.
عمليات بناء وتوسيع مترو موسكو لم تتوقف يومًا، باستثناء بعض الجمود في التسعينات. وفي أيامنا هذه يولي محافظ موسكو سيرغي سوباينين اهتماما خاصًا بتوسيع شبكة مترو الأنفاق في موسكو. بينما يواصل المترو تأدية وظيفته الرئيسية كوسيلة نقل لا بديل عنها في موسكو، دون أن يتخلى عن دوره الثقافي كمعرض متجدد، ومشاركته لاهتمامات المجتمع. وفي هذا السياق قام فنانون بتحويل قاطرات المترو إلى معارض متنقلة، حين استغلوا سطح الهيكل الخارجي للقاطرة ورسموا عليه لوحات فنية منحت القاطرة الزرقاء روحا جديدة، ومن الداخل تحولت جدران القاطرة إلى معرض للوحات فنية شهيرة. كما انضم المترو إلى حملة حماية أنواع مهددة بالانقراض من نمور وفهود مناطق شرق روسيا. وقام الفنانون برسم مناظر طبيعية من تلك المنطقة على الجدران الداخلية الخارجية لعربات المترو، تظهر فيها تلك الأنواع من الحيوانات المهددة بالانقراض. ضمن هذه الأجواء يتحول التنقل في مترو موسكو إلى نزهة ترفيهية تثقيفية فنية تاريخية.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».