باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر» في القاهرة

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان
TT

باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان

التذكير بأصالة الغناء العربي وارتباطه بالقصائد المغناة وشعر الفصحى، كان هو هدف المحور الأول من محاور مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر»، المقام ضمن فعاليات مهرجان الموسيقية العربية بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة في دورته الرابعة والعشرين، في الفترة من 1 إلى 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بمشاركة 8 دول، الذي أهديت دورته تكريما لـ«الخال»، شاعر العامية المصري الشهير عبد الرحمن الأبنودي، الذي رحل عن عالمنا أبريل (نيسان) الماضي، عن عمر يناهز 77 عامًا.
في الجلسة الأولى حول الموسيقى وشعر الفصحى التي أدارها د. كفاح فاخوري من لبنان، اعتبر د. حسين الأعظمي من العراق، أن الموسيقى هي المعبر الأصدق عن المعاني اللغوية للقصيدة، وذلك في بحثه المعنون «التوافق التعبيري بين الموسيقى العربية والشعر المغنى.. غناء المقام العراقي أنموذجًا»، مؤكدا أنه على الفنان الموسيقي أن يراعي المعاني اللغوية ويتذوقها قبيل وضع الجمل اللحنية.
وأوضح أن موسيقى وغناء المقام العراقي يمكن أن يطولهما بعض الانحسار في فترة ما، لكنهما لن يندثرا، ولن يحتضرا أو يموتا، مشيرا إلى أن التراث والموروث وبكل ظواهره لا ينشأ ولا يموت، لأن التراث وليد الجماعة والمجتمع والبيئة، فهو ملك لهم. وتطرق إلى تجارب المؤدين العراقيين خلال القرن العشرين: محمد القبانجي، وناظم الغزالي، مؤكدا أن الواقع الفني العراقي تشوبه بعض السلبيات الفنية في الأداء والتعبير بشكل عام، لأن المقام العراقي يحتاج إلى أهم عرض يمتاز بالجمالية، وأن تتوافق تعبيراته الأدبية في الشعر المغنى مع مساراته اللحنية التاريخية العريقة.
وقال: «السلالم الموسيقية تلحن من خزائن الأفراد الإبداعية، التي تتعلق بمحيطه الخارجي، وموسيقى الشعوب والأجيال التي عاصرها»، مشددا على أهمية تنمية إحساس الفنان، وأن يستجمع أحاسيسه بالكلمات لتخرج في إطار إبداعي متكامل.
بينما أفاد الباحث السعودي الشاب أحمد الواصل، بأن فرق «الأندرغراوند»، تحت الأرض، والموسيقى الشبابية كسرت قوالب الموسيقى والأغنية العربية الأصيلة، وما نسمعه حاليا ما هو إلا شذرات لا قيمة فنية لها مقارنة بتراث الأغنية العربية، مضيفًا: «علينا أن نعلم أن القادم أسوأ». واستعرض الواصل من خلال ورقته البحثية «القصيدة العربية من فن الصوت إلى الأغنية: المدينة والخليج والعروبة»، توارث قالب أداء القصيدة العربية لمئات السنين من تاريخ الغناء العربي، عبر عرض تقديمي يوضح تلك المراحل التي مرت بها الأغنية العربية في مختبر الغناء العربي في القرن العشرين، وقيام الغناء العربي على ركائز فنون أدائية أخرى: كالقصيدة والموال والزجل والموشح وغيرها، مع منح النص الشعري تشكيلات إيقاعية ونغمية أتاحت للملحن الإيحاء بالنغم والجملة الغنائية وتنوع موازين الإيقاع.
وعدد الواصل مدارس الغناء العربي، التي أشار إلى تنوعها عبر تنوع الحواضر العربية، كمدارس القراءات القرآنية، معرجا على اشتباك الكلمة والنغمة عبر الفنون السبعة: الشعر القريض، والموشح، والدوبيت (المروبع)، والزجل، والكان وكان (المويلي)، والقوما (المويلي)، وأخيرًا: المواليا.
وأكد على أن الكتابة الشعرية لها منطق التعدد الذي تحكمه الحالة الإبداعية عند الشاعر في مقابل أن حياة وموات القوالب الغنائية، تفرضه حاجة المجتمع وقدرة المنتج على استيعاب تلك الاحتياجات في التعبير والتفاعل، والتداول والتواصل.
وذهب الواصل إلى أن القصيدة تتمزق بين الفنون الأدائية والأغنية، قائلا: «القصيدة كأحد الأشكال الشعرية تحولت إلى أكثر من قالب غنائي انتهت إلى أن تكون مادة من مواد قالب الأغنية، وهو ما يؤكد ميزة التشاركية في المجتمعات العربية، والجذر الخصب في فنون الأداء والقول والحركة، والعنصر الأدبي الأدائي في مدارس الغناء العربي، والأساس الثقافي الاجتماعي في الهوية الحضارية العربية. ولفت الواصل إلى أن القصيدة استطاعت التكيف، إلا أن التطورات المتلاحقة للتقنيات وطرق التعبير، ووسائل التسجيل والتداول، هي التي تتحكم في دورها عبر الصوت البشري».
يذكر أن المؤتمر يتضمن 5 محاور مقسمة على عدة حلقات نقاشية بمشاركة 35 باحثا، تتناول أبرز القضايا في عالم الفن والموسيقى والأغنية العربية، إذ سيناقش تحت عنوان «عبد الرحمن الأبنودي والأغنية المصرية»، قضايا محورية، هي: «الموسيقى وشعر الفصحى وشعر العامية»، و«الموسيقى والشعر في أغنية الطفل العربي»، و«المأثورات الشعبية والأغنية في البلاد العربية»، و«المسرح الغنائي العربي».
وعن المقامات الخماسية في السودان وانتقالها بين دول العالم وامتزاجها مع الموسيقى العربية لفت الباحث السوداني د. كمال يوسف، في بحثه «شعر الفصحى والموسيقى والغناء في السودان» إلى أن اختلاف وتعدد الأعراق واللغات في السودان كان له أعظم الأثر في صياغة الأغنية السودانية على نصوص من العربية الفصحى التي تغنى بها أعلام الأغنية السودانية الحديثة لتشكل واحدا من مصادر التعامل مع هذه اللغة على نحو واسع.
ولمح إلى أن أغنيات الشعر الفصيح صار يرددها بعض المطربين الأفارقة ويترجمونها إلى لغاتهم، ضاربا مثالا بأغنية المطرب السوداني سيد خليفة «غيرة» التي وضع كلماتها الشاعر إدريس جماع وتغنى بها مطرب إثيوبي أيضا، تلك الكلمات التي أثارت حفيظة عباس العقاد قائلا: «من المجنون الذي كتب تلك الكلمات؟!».
وعرج يوسف على ألوان الشعر العربي الفصيح في الأغنية السودانية الحديثة، قائلا: «الموسيقار والملحن السوداني طافت ذائقته على مختلف عصور الشعر العربي وألوانه، مما أشبع رغبته في خلق وإيجاد نص موسيقي موازٍ لما ارتسم في مضامين هذه النصوص من قيم وصور، وضرب مثلا بقصيدة (أعبدة ما ينسى مودتك القلب) للشاعر العربي عمرو بن أبي ربيعة، التي تناولها الشاعر والموسيقى السوداني خليل فرح عام 1932، وقام بتسجيلها في مصر لشركة (ميشان)، كما تغنى المطرب عبد الكريم الكابلي بقصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني، أحد أمراء العصر العباسي، عام 1967». وجد الباحث أن تناول الموسيقيين لنصوص من الشعر الفصيح قد أسهم في فتح آفاق نوعية اختبرت قرائح المبدعين الموسيقيين في مجال يضاف إلى ما ألفوه من لغة عامية دارجة، وهم لم يجانبوا خصائصهم السودانية من حيث الإيقاع والنغم وأساليب التصويت والأداء، كذلك أسهم شعر الفصحى في تطوير القوالب الموسيقية، فعملوا على ترجمتها بلغة التنغيم والتوقيع، وإعادة عرضها بوسيط مختلف غير لغة الكلام الفصيح.
وتناول د. أحمد يوسف الطويل، قصيدة «ليت للبراق عينا» بين القصبجي وأحمد صدقي، حيث لحنها محمد القصبجي في فيلم «ليلى بنت الصحراء» عام 1937، بينما لحنها صدقي عام 1985، موضحا أوجه التشابه والاختلاف بينهما في الحفاظ على نظم أبيات القصيدة، قائلا «إنهما اتفقا في بداية تلحين الأبيات بعد ضغط المازورة الموسيقية، وأن القصبجي استخدم تيمة واحدة في التمهيد لغناء كل كوبليه، عبر مقام الراست، والوار والبياتي، كما اتفق الملحنان في استخدام فرقة موسيقية شرقية مكونة من التخت، مضافا إليها الآلات الوترية ذات القوس، وكذلك في التعامل مع الشعر بإبدال شكل تلحين بعض المقاطع وتغييرها بأشكال أخرى للتوافق وتتواءم مع خصائص الحروف اللغوية العربية، واستخدما خاصية (التحايل)، وهو ما يعكس ثقافتهما واطلاعهما على الكثير من القصائد العربية حيث تعاملا مع العروض الشعري بالطريقة نفسها، واستخدما القيم الزمنية الإيقاعية ذاتها في التعامل مع التفعيلات الشعرية، وأعاد كل منهما غناء البيت الأول من القصيدة».
وذهب د. عبد الجليل خالد، من ليبيا، في بحثه المعنون «الموسيقى وشعر الفصحى» للتأكيد على ارتباطهما الأزلي، فالشعر العربي هو شعر غنائي، فالقصيدة العربية في الجاهلية كانت بمثابة أغنية شعبية. أما في العصر الحديث فقد ثبت أن للموسيقى دورًا كبيرًا في نشر شعر الفصحى بين عامة الناس، كما ساهمت في انتشار الموشحات والمدائح والقصائد الدينية. وشدد على أهمية ثقافة الملحن والمغني ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية حتى لا يتغير المعنى اللفظي بسبب الجمل اللحنية.
وأكد الباحث الأردني د. محمد الطشلي، في بحثه «مدى تأثير الصياغة الشعرية (الفصحى) على الصياغة الموسيقية في الغناء الأردني (القصيدة)، أن القصيدة الفصحى كان لها دور كبير في تطور الأغنية الأردنية»، مبينًا فضلها في إدخال علم الهارموني في التوزيع الموسيقي، كذلك كانت سببًا في تنوع الموازين والضروب الإيقاعية في الأغنية الواحدة لكي تناسب تفعيلات الإيقاع الشعري، ودلل على ذلك بتناوله قصيدة «أنا الأردن» أنموذجًا.
واتفق معهم الباحث الفلسطيني خليفة جاد الله، في بحثه «التأثير المتبادل بين الصياغة الشعرية والصياغة الموسيقية في الأغنية العربية الفلسطينية عند الشاعرة فدوى طوقان أنموذجا»، قائلا: «انفتح الشعر العربي الحديث على العديد من الفنون، بما في ذلك الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما وغيرها، فالشعر هو منبع كل الإنجازات الموسيقية والمشرحية والغنائية»، مشيرا إلى أن كل قصائد فدوى طوقان التي تم تلحينها ظهرت بها علاقة قوية بين الشعر والموسيقى والدلالات المضيئة والمعتمة عند الشاعرة، ومنها قصائد: «يا قلعة الصمود»، و«قصيدة الريح»، و«يا حر ما أضرما»، وقصيدة «تحية الكتاب»، وقصيدة «نشيد العيد»، مؤكدا أن استخدام الملحنين لمقامات متنوعة أكد المعنى الذي أرادته الشاعرة، حيث ظهر التناغم بين الكلمات والنسق الموسيقي.



«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار
TT

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

«مؤتمر قصيدة النثر المصرية» يحتفي بالرموز ويحرر القصيدة من الرتابة والتكرار

دورة ناجحة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية تنوعت فيها الرؤى والدراسات النقدية، والقراءات الشعرية لكوكبة من الشاعرات والشعراء من شتى الأقاليم المصرية، كما احتفت بتجربة شاعرين من الرموز المؤثرة والمؤسسة لهذه الكتابة الشعرية الجديدة.

على مدار ثلاثة أيام استضافت مؤسسة «الدستور» الصحافية وقائع الدورة الثامنة من «مؤتمر قصيدة النثر المصرية»، التي شهدت مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد يوم، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لكوكبة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

ألقى الناقد والأكاديمي د. محمود الضبع كلمة لافتة في الجلسة البحثية الأولى بعنوان «ما بعد العولمة وتبعاتها في الشعر المعاصر»، مشيراً إلى أن ما بعد العولمة ليست مجرد تطور اقتصادي أو حتى فكري، بل هى في الأساس سلطة سياسية جديدة تتخذ تجليات عدة، مما يجعل الأدب عموماً، والشعر في القلب منه، منوطاً به معرفة دوره الخطير إزاءها باعتباره الوعاء الرئيسي للتعبير عن العادات والتقاليد والثقافة العامة في عصر ما. وأشار إلى أن الشعر ليس نغماً أو جمالاً معزولاً أو حالة جمالية منبتة الصلة عن الواقع، فقد أثبتت الثورات التي شهدتها المنطقة العربية في حقبة ما بعد الألفية الثالثة أن الشعر استعاد أدواره القديمة فعلاً تحريضياً وأداة حماسية.

وتحت عنوان «قليل من المحبة»، خصص المؤتمر جلستين للاحتفاء باثنين من رموز قصيدة النثر هما الشاعران محمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص. تحدث القصاص عن أبو سعدة، رفيق الدرب، متمنياً له الشفاء، مؤكداً أن أبو سعدة ينظر إلى الشعر في كليته، وبراءته الحميمة، ليتباهى كصوفي عاشق يدرك أن الوجود هو حلقة متصلة للروح، تسبق الصورة والفكرة، والنغمة والموسيقى والإيقاع، وأن هزة السطر والحرف والكلمة ليست شرخاً ناتئاً في المرآة، وإنما ضرورة للإمساك بأزمنة وملامح، وحدس إنساني هارب في ظلالها وبياض عتمتها ونصوعها الشائك المراوغ.

ولفت إلى أن أبو سعدة في دواوينه المتنوعة مثل «معلقة بشص»، «جليس لمحتضر»، «سماء على الطاولة»، «أنا صرت غيري»، يصل إلى سؤاله الشعري، ويخلص له عبر تدفقات الذهن والحس معاً، وبراح فضاء قصيدة النثر، كأنه يوقظ أعماقاً مغايرةً في داخلنا، فعلى السطح وفي العمق تبني الصورة عالمها بشفافية لافتة، بينما يتخلى الماضي عن فكرة الترجيع، أو أنه صدى لأشياء بائدة، هو صدى للنص نفسه، وما يرشح عنه، ما يعلق في وعينا ولا وعينا معاً، من انكشاف النص نفسه لذاته أولاً، قبل أي شيء آخر.

يلاحظ القصاص في شعرية أبو سعدة كيف يتسع المشهد على نحو خاص ليشمل حضور الأنثى وعناصر الطبيعة ونثريات الواقع والأشياء العابرة المهمّشة المنسية، وتصبح الحسية أداة للمعرفة والسؤال، وفي الوقت نفسه، يخلع النص قناع الآخر، ويتوحد بقناع الشاعر الذي يعرف كيف ومتى يخلعه ويلقيه خلفه، وكيف يلجأ إليه، كنوع من التمويه والتخفي والانعتاق من فوضى العالم، كما في ديوانه «سماء على الطاولة»: «ذهبوا/ وظل وحده/ على صدره جبل/ وتحت جلده مناقير تنهش في القلب/ قضى عمراً ليصل إلى الباب/ عيناه جوهرتان/ ويداه تمسكان بالفراغ».

وقدم الشاعر والناقد عمر شهريار ورقة بحثية بعنوان «قصيدة النثر والاغتراب: جدل القطيعة والتواصل»، رفض فيها عدداً من «الاتهامات الجاهزة» الموجهة لقصيدة النثر، من أشهرها أنها في قطيعة دائمة وأبدية مع التراث، كما أنها تمثل خطراً على الهوية العربية وتجسد حالة من الانسلاخ من الماضي. وعدَّ شهريار أن قصيدة النثر مثلها مثل الأشكال الشعرية الأخرى كقصيدة التفعيلة وقصيدة العمود، هي في حالة جدل دائم مع التراث، فتارة تتمرد عليه وتارة أخرى تستلهمه وتارة ثالثة تنطلق منه أو ترفضه و... هكذا. وشدد شهريار على أن شاعر قصيدة النثر مثله مثل بقية نظرائه على خريطة الإبداع الأدبي لا يستطيع الهروب من اللغة كأداة أساسية بما تمثله من حامل أو وعاء للعادات والتقاليد والثقافة بمفهومها الواسع، بالتالي تجد قصيدة النثر نفسها في حوار جدلي مع التراث، على الأقل من خلال الاشتغال الذي لا بد منه على اللغة.

وفي الجلسة النقدية باليوم الثالث للمؤتمر، التي أدارتها بحيوية الكاتبة الروائية والإعلامية دكتورة صفاء النجار قدمت الباحثة هبة رجب شرف الدين بحثاً بعنوان «سرديات الماهية في قصيدة النثر المعاصرة بين المرجعية والتخييل الذهني»، ارتكزت فيه على نماذج لكوكبة الشعراء والشاعرات، وتوقفت بالتحليل أمام قصيدة للشاعر إبراهيم المصري بعنوان «ما هو الشعر»؛ حيث يعرّف الشاعر ماهية الشيء/الشعر بقوله: الشعرُ/ حضورٌ كونىٌّ للبذخِ/ وجسورٌ معلقةٌ/ نعبرُ عليها من غيمةٍ إلى غيمة». وتنبع أفكار الشاعر في تصوير حقيقة الشعر من البيئة، لافتة إلى أن الأفكار الشعرية لديه تماثل الغيمة؛ وهذا النعت لها من الطبيعي أن يبرز موقع الشاعر موقعاً علوياً حتى يحدث الإشراق الذهني منفرطاً، وهذا المعنى هو ما استهل به الشاعر الوحدة الشعرية.

وتنتقل الباحثة إلى تجربة شعرية أخرى للشاعر أحمد إمام، حيث يتأثر في قصيدة النثر بالتقنيات القصصية من الحوار والوصف ومنظور الرؤية؛ وهو يقدم مفهوماً أو تعريفاً لماهية صورة الشاعر في «قصائد بحجم راحة اليد»؛ إذ يقول في قصيدة بعنوان «الشاعر»: نظَّفَ حَنجرتَه من بقايا غناءٍ قديم/ وذاكرتَه من غبارِ القوافلِ/ ومشى وحيداً إلى الليلِ/ وحيداً كذئب/ لا كطريدة/ حدَّقَ في المرآة طويلاً/ كأنه يشربُ صورتَه على ظمأ»، مشيرة إلى أنه يصف الذات الشاعرة بمجموعة من السمات القابعة في تصوره؛ فتتضح هذه السمات عبر الإخبار بشكل قصصي عن الحالة التي تسبق الكتابة، وهي حالة جوهرية تخص الشعراء؛ من هذه السمات أن الشاعر لديه فنان في المقام الأول، مسافر رحَّال في المقام الثاني ترحالاً معنوياً أكثر منه مادياً؛ لذا فهو منفرد دائماً بذاته التي دائماً ما تتشكل في صور كثيرة بعدد صوره الشعرية.

ويتخذ الباحث إبراهيم أحمد أردش من ديوان «ما أنا فيه» للشاعر أحمد الشهاوي نموذجاً لدراسة بعنوان «البحث عن راحة الذات المتعبة من الأفكار في قصيدة النثر»، حيث يرصد حيرة الشاعر مع الأفكار وتداعياتها عليه، عن اقترابها وابتعادها؛ ليصبح ما فيه الشاعر هو البحث عن الأفكار أحياناً والهروب منها أحياناً أخرى، حتى يزهد الشاعر في الاستيقاظ، باعتباره معادلاً للتفكير: «مُستغنٍ عن الصَّحوِ/ أخبَّئُ جرَسَ البابِ/ في الجَيْبِ/ أخفي جرَسَ الهاتف/ في سُترةِ الصَّمتِ/ أقايضُ إغفاءةً/ بقيراطين من ماس».

وفي جلسة احتفاء بتجربة الشاعر جمال القصاص تحدث الشاعر أسامة حداد عن علاقته بالقصاص والمرتكزات الجمالية والفلسفية التي تشكل رؤيته للشعر والحياة، وتنعكس على تشكيله الجمالي للقصيدة ومغامرته في البحث عن الجديد دائماً. وتناول الشاعر والباحث د. خالد حسان جماليات قصيدة الشاعر جمال القصاص، لا سيما في دواوين «السحابة التي في المرأة» و«ما من غيمة تشعل البئر» و«جدار أزرق»، مشيراً إلى أن القصيدة تبدو لديه مفعمة بعذابات شخص شديد الحزن، بالغ الرقة والرهافة، شخص بسيط ليست لدية أي قناعات أو آيديولوجيات، أو أفكار جاهزة، شخص شديد الالتصاق بذاته، بهواجسه، بأحلامه الصغيرة، وطموحاته التافهة والمريضة، ها هو يقول: «ليس لدي اعترافات/ ولا سلطة مطلقة/ لكنني حين أجهش في الليل/ أحس أن هذا الخراب مجرد شيء سقط مني».

ويعدُّ حسان أن أهم ما يميز إنتاج جمال القصاص قدرته على تفجير الشعر طوال الوقت في كل جملة وكل تركيب وكل كلمة، بحيث تتابع الانفجارات الشعرية على طول القصيدة، ومن ثم الديوان، فقصيدته لا تعتمد المباشرة أو المفارقة أو غيرها من جماليات قصيدة النثر في نسختها الأخيرة، وهي أيضا لا تقوم على إثارة القضايا الكبرى من خلال السعي وراء عوالم ميتافيزيقية، كما اقترحت النسخة الأولى من القصيدة على أيدي روادها، فالتركيبة السحرية التي جاء بها القصاص يمكن أن نصفها بالقدرة على الالتصاق بالذات الشعرية الصغيرة والهشة في محاولة لسبر أغوارها، وإظهار عذاباتها، لكن من خلال آليات جديدة، أو فلنقل آليات خاصة تحمل بصمة الشاعر التي يصعب تكرارها في قصائد غيره.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، يشير رئيس المؤتمر ومنسقه الشاعر عادل جلال إلى أن الأهداف لم تختلف عن الدورات السابقة، حيث لا يزال كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر، هدفاً رئيسياً لم يتغير. ويضيف جلال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن من أهداف المؤتمر كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن نفسها دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة. ويشير عادل جلال إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.