باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر» في القاهرة

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان
TT

باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان

التذكير بأصالة الغناء العربي وارتباطه بالقصائد المغناة وشعر الفصحى، كان هو هدف المحور الأول من محاور مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر»، المقام ضمن فعاليات مهرجان الموسيقية العربية بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة في دورته الرابعة والعشرين، في الفترة من 1 إلى 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بمشاركة 8 دول، الذي أهديت دورته تكريما لـ«الخال»، شاعر العامية المصري الشهير عبد الرحمن الأبنودي، الذي رحل عن عالمنا أبريل (نيسان) الماضي، عن عمر يناهز 77 عامًا.
في الجلسة الأولى حول الموسيقى وشعر الفصحى التي أدارها د. كفاح فاخوري من لبنان، اعتبر د. حسين الأعظمي من العراق، أن الموسيقى هي المعبر الأصدق عن المعاني اللغوية للقصيدة، وذلك في بحثه المعنون «التوافق التعبيري بين الموسيقى العربية والشعر المغنى.. غناء المقام العراقي أنموذجًا»، مؤكدا أنه على الفنان الموسيقي أن يراعي المعاني اللغوية ويتذوقها قبيل وضع الجمل اللحنية.
وأوضح أن موسيقى وغناء المقام العراقي يمكن أن يطولهما بعض الانحسار في فترة ما، لكنهما لن يندثرا، ولن يحتضرا أو يموتا، مشيرا إلى أن التراث والموروث وبكل ظواهره لا ينشأ ولا يموت، لأن التراث وليد الجماعة والمجتمع والبيئة، فهو ملك لهم. وتطرق إلى تجارب المؤدين العراقيين خلال القرن العشرين: محمد القبانجي، وناظم الغزالي، مؤكدا أن الواقع الفني العراقي تشوبه بعض السلبيات الفنية في الأداء والتعبير بشكل عام، لأن المقام العراقي يحتاج إلى أهم عرض يمتاز بالجمالية، وأن تتوافق تعبيراته الأدبية في الشعر المغنى مع مساراته اللحنية التاريخية العريقة.
وقال: «السلالم الموسيقية تلحن من خزائن الأفراد الإبداعية، التي تتعلق بمحيطه الخارجي، وموسيقى الشعوب والأجيال التي عاصرها»، مشددا على أهمية تنمية إحساس الفنان، وأن يستجمع أحاسيسه بالكلمات لتخرج في إطار إبداعي متكامل.
بينما أفاد الباحث السعودي الشاب أحمد الواصل، بأن فرق «الأندرغراوند»، تحت الأرض، والموسيقى الشبابية كسرت قوالب الموسيقى والأغنية العربية الأصيلة، وما نسمعه حاليا ما هو إلا شذرات لا قيمة فنية لها مقارنة بتراث الأغنية العربية، مضيفًا: «علينا أن نعلم أن القادم أسوأ». واستعرض الواصل من خلال ورقته البحثية «القصيدة العربية من فن الصوت إلى الأغنية: المدينة والخليج والعروبة»، توارث قالب أداء القصيدة العربية لمئات السنين من تاريخ الغناء العربي، عبر عرض تقديمي يوضح تلك المراحل التي مرت بها الأغنية العربية في مختبر الغناء العربي في القرن العشرين، وقيام الغناء العربي على ركائز فنون أدائية أخرى: كالقصيدة والموال والزجل والموشح وغيرها، مع منح النص الشعري تشكيلات إيقاعية ونغمية أتاحت للملحن الإيحاء بالنغم والجملة الغنائية وتنوع موازين الإيقاع.
وعدد الواصل مدارس الغناء العربي، التي أشار إلى تنوعها عبر تنوع الحواضر العربية، كمدارس القراءات القرآنية، معرجا على اشتباك الكلمة والنغمة عبر الفنون السبعة: الشعر القريض، والموشح، والدوبيت (المروبع)، والزجل، والكان وكان (المويلي)، والقوما (المويلي)، وأخيرًا: المواليا.
وأكد على أن الكتابة الشعرية لها منطق التعدد الذي تحكمه الحالة الإبداعية عند الشاعر في مقابل أن حياة وموات القوالب الغنائية، تفرضه حاجة المجتمع وقدرة المنتج على استيعاب تلك الاحتياجات في التعبير والتفاعل، والتداول والتواصل.
وذهب الواصل إلى أن القصيدة تتمزق بين الفنون الأدائية والأغنية، قائلا: «القصيدة كأحد الأشكال الشعرية تحولت إلى أكثر من قالب غنائي انتهت إلى أن تكون مادة من مواد قالب الأغنية، وهو ما يؤكد ميزة التشاركية في المجتمعات العربية، والجذر الخصب في فنون الأداء والقول والحركة، والعنصر الأدبي الأدائي في مدارس الغناء العربي، والأساس الثقافي الاجتماعي في الهوية الحضارية العربية. ولفت الواصل إلى أن القصيدة استطاعت التكيف، إلا أن التطورات المتلاحقة للتقنيات وطرق التعبير، ووسائل التسجيل والتداول، هي التي تتحكم في دورها عبر الصوت البشري».
يذكر أن المؤتمر يتضمن 5 محاور مقسمة على عدة حلقات نقاشية بمشاركة 35 باحثا، تتناول أبرز القضايا في عالم الفن والموسيقى والأغنية العربية، إذ سيناقش تحت عنوان «عبد الرحمن الأبنودي والأغنية المصرية»، قضايا محورية، هي: «الموسيقى وشعر الفصحى وشعر العامية»، و«الموسيقى والشعر في أغنية الطفل العربي»، و«المأثورات الشعبية والأغنية في البلاد العربية»، و«المسرح الغنائي العربي».
وعن المقامات الخماسية في السودان وانتقالها بين دول العالم وامتزاجها مع الموسيقى العربية لفت الباحث السوداني د. كمال يوسف، في بحثه «شعر الفصحى والموسيقى والغناء في السودان» إلى أن اختلاف وتعدد الأعراق واللغات في السودان كان له أعظم الأثر في صياغة الأغنية السودانية على نصوص من العربية الفصحى التي تغنى بها أعلام الأغنية السودانية الحديثة لتشكل واحدا من مصادر التعامل مع هذه اللغة على نحو واسع.
ولمح إلى أن أغنيات الشعر الفصيح صار يرددها بعض المطربين الأفارقة ويترجمونها إلى لغاتهم، ضاربا مثالا بأغنية المطرب السوداني سيد خليفة «غيرة» التي وضع كلماتها الشاعر إدريس جماع وتغنى بها مطرب إثيوبي أيضا، تلك الكلمات التي أثارت حفيظة عباس العقاد قائلا: «من المجنون الذي كتب تلك الكلمات؟!».
وعرج يوسف على ألوان الشعر العربي الفصيح في الأغنية السودانية الحديثة، قائلا: «الموسيقار والملحن السوداني طافت ذائقته على مختلف عصور الشعر العربي وألوانه، مما أشبع رغبته في خلق وإيجاد نص موسيقي موازٍ لما ارتسم في مضامين هذه النصوص من قيم وصور، وضرب مثلا بقصيدة (أعبدة ما ينسى مودتك القلب) للشاعر العربي عمرو بن أبي ربيعة، التي تناولها الشاعر والموسيقى السوداني خليل فرح عام 1932، وقام بتسجيلها في مصر لشركة (ميشان)، كما تغنى المطرب عبد الكريم الكابلي بقصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني، أحد أمراء العصر العباسي، عام 1967». وجد الباحث أن تناول الموسيقيين لنصوص من الشعر الفصيح قد أسهم في فتح آفاق نوعية اختبرت قرائح المبدعين الموسيقيين في مجال يضاف إلى ما ألفوه من لغة عامية دارجة، وهم لم يجانبوا خصائصهم السودانية من حيث الإيقاع والنغم وأساليب التصويت والأداء، كذلك أسهم شعر الفصحى في تطوير القوالب الموسيقية، فعملوا على ترجمتها بلغة التنغيم والتوقيع، وإعادة عرضها بوسيط مختلف غير لغة الكلام الفصيح.
وتناول د. أحمد يوسف الطويل، قصيدة «ليت للبراق عينا» بين القصبجي وأحمد صدقي، حيث لحنها محمد القصبجي في فيلم «ليلى بنت الصحراء» عام 1937، بينما لحنها صدقي عام 1985، موضحا أوجه التشابه والاختلاف بينهما في الحفاظ على نظم أبيات القصيدة، قائلا «إنهما اتفقا في بداية تلحين الأبيات بعد ضغط المازورة الموسيقية، وأن القصبجي استخدم تيمة واحدة في التمهيد لغناء كل كوبليه، عبر مقام الراست، والوار والبياتي، كما اتفق الملحنان في استخدام فرقة موسيقية شرقية مكونة من التخت، مضافا إليها الآلات الوترية ذات القوس، وكذلك في التعامل مع الشعر بإبدال شكل تلحين بعض المقاطع وتغييرها بأشكال أخرى للتوافق وتتواءم مع خصائص الحروف اللغوية العربية، واستخدما خاصية (التحايل)، وهو ما يعكس ثقافتهما واطلاعهما على الكثير من القصائد العربية حيث تعاملا مع العروض الشعري بالطريقة نفسها، واستخدما القيم الزمنية الإيقاعية ذاتها في التعامل مع التفعيلات الشعرية، وأعاد كل منهما غناء البيت الأول من القصيدة».
وذهب د. عبد الجليل خالد، من ليبيا، في بحثه المعنون «الموسيقى وشعر الفصحى» للتأكيد على ارتباطهما الأزلي، فالشعر العربي هو شعر غنائي، فالقصيدة العربية في الجاهلية كانت بمثابة أغنية شعبية. أما في العصر الحديث فقد ثبت أن للموسيقى دورًا كبيرًا في نشر شعر الفصحى بين عامة الناس، كما ساهمت في انتشار الموشحات والمدائح والقصائد الدينية. وشدد على أهمية ثقافة الملحن والمغني ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية حتى لا يتغير المعنى اللفظي بسبب الجمل اللحنية.
وأكد الباحث الأردني د. محمد الطشلي، في بحثه «مدى تأثير الصياغة الشعرية (الفصحى) على الصياغة الموسيقية في الغناء الأردني (القصيدة)، أن القصيدة الفصحى كان لها دور كبير في تطور الأغنية الأردنية»، مبينًا فضلها في إدخال علم الهارموني في التوزيع الموسيقي، كذلك كانت سببًا في تنوع الموازين والضروب الإيقاعية في الأغنية الواحدة لكي تناسب تفعيلات الإيقاع الشعري، ودلل على ذلك بتناوله قصيدة «أنا الأردن» أنموذجًا.
واتفق معهم الباحث الفلسطيني خليفة جاد الله، في بحثه «التأثير المتبادل بين الصياغة الشعرية والصياغة الموسيقية في الأغنية العربية الفلسطينية عند الشاعرة فدوى طوقان أنموذجا»، قائلا: «انفتح الشعر العربي الحديث على العديد من الفنون، بما في ذلك الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما وغيرها، فالشعر هو منبع كل الإنجازات الموسيقية والمشرحية والغنائية»، مشيرا إلى أن كل قصائد فدوى طوقان التي تم تلحينها ظهرت بها علاقة قوية بين الشعر والموسيقى والدلالات المضيئة والمعتمة عند الشاعرة، ومنها قصائد: «يا قلعة الصمود»، و«قصيدة الريح»، و«يا حر ما أضرما»، وقصيدة «تحية الكتاب»، وقصيدة «نشيد العيد»، مؤكدا أن استخدام الملحنين لمقامات متنوعة أكد المعنى الذي أرادته الشاعرة، حيث ظهر التناغم بين الكلمات والنسق الموسيقي.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.