انتعاش ثقافة «للنساء فقط» في الهند بعد حادثة الاغتصاب الجماعي

سيارات تاكسي وحافلات ومنتجعات ومصارف خاصة بالسيدات

انتعاش ثقافة «للنساء فقط» في الهند بعد حادثة الاغتصاب الجماعي
TT

انتعاش ثقافة «للنساء فقط» في الهند بعد حادثة الاغتصاب الجماعي

انتعاش ثقافة «للنساء فقط» في الهند بعد حادثة الاغتصاب الجماعي

شهدت الفترة التي أعقبت واقعة الاغتصاب الجماعي البشعة التي هزت الهند، عودة ثقافة «للنساء فقط» مجددا، حيث سعت شريحة واسعة من الهنديات إلى البحث عن الحافلات وسيارات الأجرة والمجموعات السياحية وأدوار الفنادق الخاصة بالنساء فقط، فيما تستعد إحدى المدن الهندية إلى افتتاح متنزه خاص بالنساء، وسيشهد نوفمبر (تشرين الثاني) أيضا تدشين مصرف خاص بالنساء تأمل الحكومة من خلاله تمكين النساء ماليا.
يرى الكثيرون أن المناطق الخاصة بالنساء، في بلد ترتفع فيه البلاغات الخاصة بالانتهاكات الجنسية، ستكون ملاذا آمنا من النظرات السيئة والاحتكاك واهتمام الرجال غير المرغوب به. تجتذب الفكرة النساء من مختلف الأطياف في المجتمع الهندي، بما في ذلك ساريتا البالغة من العمر 60 عاما والتي سافرت أخيرا إلى نيودلهي من قرية في ولاية ماهارشترا بالقطار وقالت إنها لا تزال تضطر إلى الشجار مع المسافرين من الرجال الذين يحاولون الجلوس إلى جوارها في عربة السيدات. وتقول: «هذه وسائل الرجال، إنهم سيئون. كيف نمكن أن نتعايش معهم؟»
لكن منتقدي الفكرة يؤكدون على أن التوجه الفصل بين الجنسين يهدد المكاسب التي نالتها المرأة في التعليم والوصول إلى مجالات عمل جديدة خلال العقدين الماضيين، نتيجة لما شهده الاقتصاد من تحديث. وأكدوا على أن الرجال فقط هم الذين يحتاجون إلى تغيير سلوكهم، لا النساء.
وتقول غاياتي غوش، أستاذة الاقتصاد في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي: إنها «مروعة، إنها وسيلة المجتمع السلطوي للإعلان بأنه لن يحمي النساء. إنه سيعزلهن ويحد من حريتهن، بدلا من تأمينهن»، فيما تساءلت افتتاحية صحيفة هندية: «هل ينبغي أن تخصص بنوك للنساء أيضا؟»
كانت المساحات الخاصة بالنساء فقط - في القطارات ومترو دلهي - موجودة قبل حادثة ديسمبر (كانون الأول) التي تعرضت فيها طالبة الطب التي تبلغ من العمر 23 عاما للاغتصاب وإصابة شديدة ثم توفيت على إثرها. لكن ثقافة المجتمع الذكوري تضرب بجذورها في العادات الدينية والأعراف الاجتماعية الهندية التي تعود إلى قرون، حيث كان الفصل يمارس لفترة طويلة في المدارس والمعابد.
وقد وجهت حادثة الاغتصاب التي وقعت في 16 ديسمبر (كانون الأول) والحكم بإعدام أربعة من الجناة اهتماما كبيرا للعنف الجنسي ضد النساء في الهند، التي شهدت تزايد أعداد التقارير الواردة بشأن حالات الاغتصاب بنسبة 25 في المائة خلال السنوات الأخيرة، بحسب ما تشير إليه الإحصاءات.
وتعتقد بعض النساء أن الأحكام القاسية لن تكون ذات تأثير كبير، وأشارت إلى أن مشكلة التحرش تزداد سوءا وهو ما يجبرهن على التراجع.
بعد الاغتصاب الجماعي، قررت حكومات الولايات التحرك بصورة ما - أي شيء - لتهدئة الغضب الشعبي المتزايد بشأن العنف الجنسي، فجرى إنشاء خط مساعدة لضحايا الجرائم، وتركيب مصابيح في الشوارع، وكاميرات مراقبة أفضل.
لكنها فكرة إنشاء أماكن أكثر أمنا بالنسبة للنساء كانت الأكثر جذبا للمسؤولين. فقد أعلنت مدينة كوميباتور، جنوب الهند عن إنشاء موقف للسيارات خاص بالنساء، ولديهن القدرة على الوصول إلى مدربة لياقة بدنية خاصة بالنساء. وبدأت وزارة السياحة الهندية حملة لدفع الفنادق الصغيرة إلى تخصيص أدوار كاملة للنساء فقط..
كما أعلنت الحكومة عن خطط لإنشاء نظام مصرفي بقيمة 161 مليون دولار للنساء، باسم بهارتيا ماهيلا بنك، تهيمن النساء فيه على القوة العاملة، وسيضم البنك 25 فرعا في جميع أنحاء الهند، وسيتم تدشينه في الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني)، الذي يوافق مولد رئيسة الوزراء السابقة، وأبرز الشخصيات النسائية في الهند، إنديرا غاندي.
وقال المتحدث باسم وزارة المالية الهندية، دي إس مالك إن البنك الجديد يعد خطوة رئيسة نحو تصحيح عدم المساواة بين الجنسين في عملية الائتمان والصيرفة في الهند، حيث تشكل النساء اللاتي يملكن حسابات مصرفية نحو 26 في المائة من عدد عملاء البنوك.
لكن بعض نشطاء حقوق المرأة لا يعتقدن أن الفصل بين الجنسين سيساعد في تمكين المرأة قائلين، إن ذلك يمكن أن يكون له أثر سلبي على المدى البعيد.
فتقول راجانا كوماري، مدير مركز البحث الاجتماعي في نيودلهي: «هذه المحاولة ستقلص حركة النساء لتقصرها على مساحات محددة. فلا تزال النساء يخرجن ويرتدن الشوارع ذاتها ويعملن في نفس المكاتب والمتاجر والأسواق كما هو الحال بالنسبة للرجال. وقصرهن على أماكن بعينها بدافع الخوف على سلامة النساء ليس رسالة جيدة على الإطلاق. إنه سيشجع على الفصل وسيحض على مزيد من العنف».
في أحد الأمسيات القريبة، أرادت إيشواريا كابور، التي تبلغ من العمر 20 عاما، والتي أوشكت على نيل شهادتها الجامعية في تخصص العلوم الاجتماعية حضور حفل عيد ميلاد في ناد قريب من مركز تجاري في وسط مدينة دلهي، وكما حدث كان نفس المركز التجاري الذي شاهدت فيه ضحية الاغتصاب فيلم «حياة باي» مع صديقها قبل أن تتوجه إلى منزلها في حافلة، حيث وقع الهجوم.
كانت والدة كابور مصممة على ألا تذهب ابنتها إلى الحفل إما أن تذهب في سيارة أجرة تقودها سيدة.
وقال الشابة: «لأننا في الهند، على الرغم من أننا في القرن الـ21، إلا أن المرأة لا تشعر بالأمن في وجود سائق التاكسي».
تأسست شركة «ساخا كابس» للنساء، التي استعانت بها كابور في عام 2010 في دلهي وبها الآن 12 سائقة للسيارات وتخضع 62 سائقة أخرى للتدريب. وبعد واقعة الاغتصاب الجماعي قال مؤسسو الشركة، إنهم سيوسعون من حجم نشاطهم ما بين 50 إلى 60 في المائة، وعادة ما يتطلب الحجز بضعة أيام.
من بين سائقات التاكسي الشابات، غيتا، ابنة الواحدة والعشرين التي قالت إنها تعتقد أن عميلاتها من النساء يشعر بأمان أكثر عند السفر معها أكثر من السفر مع الرجال.

* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بالـ«الشرق الأوسط»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)