أنور السادات كان يبدأ نهاره بأغنيات فريد الأطرش وينهيه بفيلم سينمائي

قصة حياة الرئيس المصري المثير للجدل في كتاب لروبير سوليه صدر منذ أيام

صورة تظهر جانبا من حادث المنصة في 6 اكتوبر 1981 وتم خلاله اغتيال الرئيس السادات، غلاف كتاب السادات لروبير سوليه بنسخته العربية
صورة تظهر جانبا من حادث المنصة في 6 اكتوبر 1981 وتم خلاله اغتيال الرئيس السادات، غلاف كتاب السادات لروبير سوليه بنسخته العربية
TT

أنور السادات كان يبدأ نهاره بأغنيات فريد الأطرش وينهيه بفيلم سينمائي

صورة تظهر جانبا من حادث المنصة في 6 اكتوبر 1981 وتم خلاله اغتيال الرئيس السادات، غلاف كتاب السادات لروبير سوليه بنسخته العربية
صورة تظهر جانبا من حادث المنصة في 6 اكتوبر 1981 وتم خلاله اغتيال الرئيس السادات، غلاف كتاب السادات لروبير سوليه بنسخته العربية

يوقع الكاتب الفرنسي المعروف، روبير سوليه، اليوم وغدًا، في «معرض الكتاب الفرنسي» في بيروت، كتابه «السادات» الذي صدرت ترجمته العربية منذ أيام عن «دار هاشيت - أنطوان». كما يلتقي سوليه قراءه لمناقشة إصداره الأخير وبقية مؤلفاته التي خصص جزء كبير منها لوطنه الأم مصر، حيث ولد هناك عام 1946
وكتاب السادات الذي صدر منذ عامين بالفرنسية وأصبح متاحًا لقراء الضاد، أسلوبه سلس وجذاب، وهو يشبه سردًا روائيًا إنسانيًا، شيقًا لقصة حياة الرئيس المصري، الأكثر إثارة للجدل، الذي لا تزال المواقف والقرارات المتناقضة التي اتخذها أثناء فترة حكمة تستدعي ردود فعل متباينة إلى اليوم.
يبدأ الكتاب من طفولة أنور الساداتي (وهو اسم عائلته حتى عام 1952 وبعدها حذف الحرف الأخير من شهرته لتبدو أكثر حداثة) في قريته ميت أبو الكوم، التي لم تكن قد وصلها الماء أو الكهرباء، حيث كان يرتاد أنور مدرسة قرآنية متواضعة، وهو حافي القدمين، مرتديًا جلابية، وبين الدرس والآخر يأكل جبنًا جافًا وقطعًا من الخبز دسها في جيبه.
وكان أنور (ولد عام 1918) أول طفل ينال الشهادة الابتدائية في قريته، مما سمح له بتولي وظيفة إدارية في وحدة طبية للجيش في السودان.
ورث عن أمه نصف المصرية ونصف السودانية، بشرته الداكنة، التي كانت تزعجه باستمرار، بينما كان فخورًا دائمًا كونه فلاحًا. من والد مزواج، أنجب 13 طفلاً، تزوج هو نفسه مرتين. الزوجة الأولى هي إقبال ماضي ابنة عمدة قريته، تكبره بعام واحد، وأنجب منها ثلاث بنات، رقية وراوية وكاميليا. لكنه وبعد نزاعات عائلية وجد نفسه رجلاً حرًا وهو في الثلاثين، مقررًا عدم العودة إلى إقبال لأنه بدأ يدرك أنه معها لن يصبح أكثر من موظف نمطي دون أي حلم. ويقول: «بدأت أدرك أنها تعترض طريقي، وأن علي أن أتصرف قبل فوات الأوان كي أجنب نفسي إحباطا عظيمًا». أشد ما أعجبه في جيهان، زوجته الثانية التي تتحدر من أم إنجليزية وأب مصري، «إنها ناصعة البياض». ويقول الكاتب: «من سوء الحظ، ودون داعٍ حقيقي، إن اللون كان لا يزال عقدة تتملكه. ولكن كيف للسادات أن لا يفتتن بتلك البرجوازية الشابة والجميلة والذكية والمتقدة حياة وشغفًا؟»
مما يرويه الكاتب كيف أن السادات زوّج اثنتين من بناته في ليلة واحدة، بينما كان عمر إحداهن 12 عامًا فقط، لتنتهي الزيجتين بالطلاق، بعد عدة أعوام. وهناك مقاطع شيقة عن عشق أنور السادات الشديد ومنذ صغره للتمثيل، وهو ما حاوله عدة مرات، لكن ذلك لم يتعد المحاولات المتكررة، التي أوصلته إلى المسرح الدولي كأحد اللاعبين البارزين. ويقول سوليه في كتابه إن السادات اعترف وهو في عامه السابع والثلاثين أن المسرح جذبه طوال حياته. كما أنه كتب ذات يوم، للمنتجة السينمائية أمينة محمد بعد أن نشرت إعلانا لتوظيف ممثلين، قائلا لها: «أنا شاب ممشوق القوام، متين البنية، جميل الملامح. لست أبيض، لكنني لست أسود كذلك. بل إن لون بشرتي أقرب إلى الخمرة». وكانت خيبة السادات كبيرة أنه لم يختر للتمثيل، فأطلق لحيته، وتقمص دور حاج عاد من مكة، وقرر أن يمثل منفردًا، ليلهو ويستأنس، لكن السادات يكمل بالقول: «لكنني سرعان ما مللت ذلك بعدما لم يكترث بي أحد».
يعطي سوليه، حيزًا مهمًا للحياة الشخصية لأنور السادات، وطبيعته ومزاجه إضافة إلى مواقفه التي اتخذها خلال حكمه ولا تزال تثير جدلاً واسعًا وصولاً إلى لحظة اغتياله وما تبع وفاته.
ويقول الكتاب إن ثلاث شخصيات أثرت في أنور السادات. زهران، البطل المصري الذي أدين باغتيال ضابط إنجليزي في قرية دنشواي، الذي يعلق السادات على فعله هذا بالقول: «كم تمنيت لو كنت زهران، فمنه تعلمت مناهضة الاستعمار، قبل رؤية الإنجليز، وتعلمت أن أكره المعتدين، الذين جلدوا وقتلوا أهلنا». أما الشخصية الثانية فهي مؤسس تركيا الحديثة الذي كتب عنه يقول: «بقي إعجابي بكمال أتاتورك بعدما زال كل شيء آخر». أما الشخصية الثالثة فهي غاندي الذي كان يناضل ضد الإنجليز الذين يمقتهم أنور، مرّ بمصر عام 1932 وعنه يقول السادات: «استولت صورته على وجداني ما كان مني إلا أن قلدته، خلعت ملابسي، وغطيت نصفي الأسفل بإزار، واعتكفت فوق سطح بيتنا، عدة أيام إلى أن تمكن والدي من إقناعي بالعدول عما أنا فيه».
دخل السادات الكلية الحربية والتحق بالضباط الأحرار، إلا أنه يختلف عن كثيرين منهم، بأنه لم ينتم إلى تنظيم الإخوان المسلمين أبدًا، إلا أنه أعجب أشد الإعجاب بحسن البنا الذي التقاه تكرارًا ورأى فيه «مصريًا صميمًا». كان ثمة تعاون بين الرجلين لكنه لم يبلغ حدًا وثيقًا. وبدءًا من بداية الأربعينات، سيدخل السادات مغامرات عدة، حيث سيعتقل في قضية الجاسوسين النازيين، ويودع السجن ثم يهرب منه ويعيش متخفيًا، ثم يعتقل مجددًا ثم يطلق سراحه بعد انتهاء حرب 1948، ويعود إلى الجيش. وعام 1952 يعلن بصوته عبر الراديو خبر الانقلاب العسكري. وهنا يبدأ حكم جمال عبد الناصر، فيما ينتقل أنور السادات من منصب إلى آخر. ثمة تفاصيل كثيرة في الكتاب حول تفاصيل تلك المرحلة، ولعل أهمها هي عن اختيار عبد الناصر للسادات كنائب له، ويقلل هيكل من أهمية هذا الاختيار ويعتبر أنه كان مجرد ترتيب مؤقت من ناصر الذي فارق الحياة، ولم يكن ينتظر أن توافيه المنية بهذه السرعة. ويبقى السؤال الجوهري معلقًا، هل وجد عبد الناصر في السادات خلفًا فعليًا له، أم أنه كان مجرد إجراء إداري شاءت الظروف أن يجعل من أنور السادات رئيسًا على مصر؟
وجاء في مقدمة الكتاب أن «السنوات الإحدى عشر التي قضاها أنور السادات في الحكم كانت أهم بكثير من السنوات التسع والعشرين لخلفه حسني مبارك التي كانت إدارة إرث السادات طابعها الأساسي».
يشرح الكتاب كيف أحدث بطل العبور الذي تم عام 1973 مفاجأة عجز عن استيعابها كثير من العرب حين زار إسرائيل عام 1977، وما بين الحدثين، من مفاوضات، ولقاءات، واحتجاجات وإجراءات.
لكن اللافت في كل مرة هي شخصية السادات نفسه الذي يقول عنه الكاتب بأنه لم يكن رجلاً نشيطًا أو مهمومًا بل كان حريصًا على راحته الشخصية بعد نوبتين قلبيتين. لا بل يصف سوليه السادات بالكسل، وبأنه لم يكن يرى في مكتبه يعمل أبدًا، وإذا ما سلمه أحدهم رسالة فهو نادرًا ما يقرأها. وجاء في الكتاب: «كان يبدأ يومه مصغيًا إلى آيات من القرآن، قبل أن يصلي ثم يستمع إلى كاسيتات أغاني أسمهان أو فريد الأطرش، أو محمد عبد الوهاب، فيما يغتسل ويحلق ذقنه. وفي النهار ومهما كانت الظروف يجد وقتًا لرياضة المشي اليومية، حتى لو اضطر أن يستكملها على دراجة التمارين المنزلية. ولم يكن مدلكه الشخصي زينهم، وهو صاحب حزام أسود في الجودو، يبتعد عنه قط، حتى لم يكن مستغربًا رؤيته جالسًا إلى مائدة سفير مصري من خلال زيارة يقوم بها الرئيس إلى الخارج. وينتهي النهار بصالة السينما الخاصة. فكل الأفلام المصرية أو الأجنبية كانت تصل إلى الرئيس قبل مرورها بالرقابة».
ويشرح الكتاب كيف أن السادات، كان يعرف كيف يفوض الآخرين ممارسة العمل دون أن يقوم بنفسه به، على عكس عبد الناصر تمامًا.
تفاصيل الأحداث السياسية يرويها الكتاب بإسهاب أيضًا، ويقول الكاتب «إن أنور السادات بوسعه أن يفاخر، بأنه كان يحقق في كل سنة حكمها حدثًا دراماتيكيًا». لكن الحدث الأبرز بالتأكيد كان التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد في 26 مارس (آذار) 1979، والنزاعات التي جرها مع كثير من البلدان العربية والصراع الداخلي، بحيث إن أنور السادات، دفع ثمن جرأته هذه حياته في الاغتيال الاستعراضي الذي أودى بحياته.
يروي الكتاب: «أحيطت أجهزة المخابرات المصرية أو الأجنبية علمًا بأكثر من ثلاثين محاولة تآمر ضد السادات، أو للاعتداء عليه، سعت إليها أربع عشرة مجموعة أو دولة مختلفة، ومن بينها ليبيا وسوريا وإيران». وهو ما جعل السادات عصبيًا إلى حد كبير، اتخذ إجراءات أمنية غير مقبولة أحيانًا، وصلت الاعتقالات أن ألقت الشرطة القبض على 1536 شخصًا معظمهم من الجمعيات الإسلامية. هذا غير حظر الصحف وإحالة أساتذة جامعيين إلى وظائف إدارية.
ويقول سوليه: «خطأ السادات الأكبر كان اللعب بالنار، فاعتماده على الإسلاميين لمحاربة اليسار والناصريين، لم يجعله يخطئ فقط في تحديد الخصم، بل أطلق عملية ضارة كلفته حياته».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)