بوتين.. «الورقة القومية» في مواجهة المعارضة الروسية

استغل ارتباط بعضها بالغرب.. واستوعب مشاعر الرأي العام

بوتين.. «الورقة القومية» في مواجهة المعارضة الروسية
TT

بوتين.. «الورقة القومية» في مواجهة المعارضة الروسية

بوتين.. «الورقة القومية» في مواجهة المعارضة الروسية

سلط تدخل موسكو في سوريا، في أعقاب ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم ورعايته الانتفاضة المؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا، الأضواء على تصاعد ثقة القيادة الروسية بنفسها وبقدراتها، واقتناعها بأن الغرب، بقيادة الرئيس الأميركي باراك أوباما، ليس في وارد التصدي لتنامي لطموحها. وفي سياق «الثأر» من الغرب على دور في إنهاك الاتحاد السوفياتي السابق وتقسيمه، راهن بوتين على «الورقة القومية» في وجه خصومه من اليمين الليبرالي المدعوم من الغرب والقوى الشيوعية المناوئة للغرب، وبالنتيجة نجح أولاً في تهميش اليمين، وثانيًا كسب الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين في صفه تحت سقف مواجهة العدو الغربي القديم - الجديد. وهو الآن يخطط للذهاب أبعد في مشروعه «القومي» عبر دعوته لتشكيل تكتل جديد تحت عنوان «الجبهة الشعبية لعموم روسيا».

ما شهدته الساحة السوفياتية، وتحديدًا الروسية، من زخم وحركة عارمة في أعقاب إعلان ثورة «البيريسترويكا والغلاسنوست» في منتصف ثمانينات القرن الماضي صار في ذمة التاريخ. لكن ما كان يعتمل آنذاك في نفوس الملايين من مشاعر سخط وغضب واحتجاج مكتومة، لم يكن ليمضي دون تبعات سرعان ما فرضت نفسها على واقع ذلك الزمان وهو ما كشفت عنه القوى السياسية «الكامنة» القادمة من الجمهوريات والأقاليم في «مؤتمر نواب الشعب» الذي افتتح أولى دوراته في مايو (أيار) 1989.
ولعل ما شهدته جلسات ذلك المؤتمر من نقاشات حادة جرت في مثل تلك الأجواء من الصراحة والانفتاح لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي وروسيا كان عمليًا نقطة الانطلاق نحو عالم أكثر رحابة وتحركات أشد فعالية سرعان ما أسفرت عن ظهور الحركات المعارضة التي تلفحت بتسميات على غرار «روخ» الأوكرانية و«سايوديس» الليتوانية ورفعت شعارات دعم «البيريسترويكا» في محاولة لإخفاء أهدافها الحقيقية التي كانت تستهدف الانفصال عن الدولة السوفياتية.

حقبة يلتسين
ولئن كانت تلك الحركات والتحركات كشفت لاحقا عن نياتها وراحت تتلمس السبل المناسبة والمقدمات التي سرعان ما أطاحت بالدولة وأركانها مع نهاية تسعينات القرن الماضي وحتى الإعلان رسميًا عن أفول شمسها في ديسمبر (كانون الأول) 1991، فإن ما شهدته روسيا الاتحادية إبان حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين كان أشد وطأة وأكثر حمية بما حملته من فوضى عارمة أصابت مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية وكذلك المجالات الاقتصادية والثقافية، وبلغت حد تهديد روسيا الاتحادية بمصير مشابه كانت واشنطن أعدته لها حسبما كشفت مصادر الإدارة الأميركية مؤخرًا في معرض كشفها عن مخطط كان يستهدف تقسيم روسيا إلى ما يزيد عن تسعين ولاية وإقليمًا في مطلع تسعينات القرن الماضي.
وهنا نذكر أن «الحركة الديمقراطية» التي تزعمها بوريس يلتسين - ودعمها الغرب - في مطلع تسعينات القرن الماضي لم تستطع الصمود طويلاً أمام عودة الشيوعيين إلى صدارة الساحة السياسية بعد إعادتهم تنظيم صفوفهم وإعلان قيام حزبهم الجديد بزعامة غينادي زيوغانوف مستفيدين من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها يلتسين وفريقه. ولذا كان من الطبيعي أن يعود هؤلاء إلى صدارة الساحة ويفوزوا بغالبية مقاعد مجلس «الدوما» (البرلمان) في انتخابات 1995. بل، وكاد زعيمهم زيوغانوف يفوز برئاسة الدولة في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة في عام 1996 على يلتسين لو لم يقدم الأخير على كل صنوف التزوير، فضلا عن الترهيب والوعيد واللجوء إلى كل صنوف البلطجة الانتخابية والجنائية.
آنذاك كان مجلس «الدوما»، رغم كل الفوضى والانهيار الذي أصاب كل مناحي الحياة، في توقيت مواكب لاندلاع الحرب الشيشانية الأولى وتفشّي ظاهرة الحركات الاستقلالية أو الانفصالية، ساحة للمبارزات الكلامية ولمحاولات تصفية حسابات الماضي، وهو ما كان يقابل بكل الحسم والحزم من جانب الكرملين دفاعًا عن الرئيس الذي كان غير مرة قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة به دستوريًا بعد دوران عجلة «الإمبيتشمينت» (أو سحب الثقة) منه في البرلمان. كانت القوى السياسية آنذاك قد تبعثرت بين يمين الوسط، الممثل في تنظيمات حزبية فوقية حملت تباعًا أسماء «روسيا بيتنا» بزعامة ييغور غايدار ثم «خيار روسيا» بزعامة فيكتور تشيرنوميردين رئيس الحكومة الروسية الأسبق، وحتى حزب «الوطن - الوحدة الروسية»، وبين الأحزاب اليمينية مثل حزب «يابلوكو» بزعامة غريغوري يافلينسكي وحزب «اتحاد القوى اليمينية» بزعامة بوريس نيمتسوف وعدد من نجوم «الحركة الديمقراطية» وغيرهما من الأحزاب الصغيرة التي طالما ارتمت في أحضان الحزب الحاكم بحثًا عن دفء الامتيازات مقابل ما تقدم من دعم معنوي وفكري و«تنازلات» حسمًا من رصيد الوطن والمواطن.
ولم يكن بعيدًا عن تلك الأحزاب وتوجهاتها حزب فلاديمير جيرينوفسكي الشعبوي المسمى بـ«الحزب الليبرالي الديمقراطي» الذي يمثل يسار الوسط، وكان فاز بالأغلبية في انتخابات أول دورة لمجلس «الدوما» عام 1994 في مواجهة المعارضة اليسارية، التي كان يمثلها بكل القوة الحزب الشيوعي الروسي بزعامة زيوغانوف زعيم الأغلبية في المجلس، ومعه الحزب الزراعي وتنظيمات أخرى لم يستطع مرشحوها الفوز بأية مقاعد نيابية.

تغييرات في الخارطة
على أن هذه الخارطة الحزبية الروسية سرعان ما طرأت عليها التغييرات التي نجمت عن تغير القيادة السياسية في نهاية عام 1999 ورحيل بوريس يلتسين وتولي فلاديمير بوتين لمقاليد السلطة في الكرملين في مايو 2000. وكان بوتين قد اضطر إلى موائمة أوضاعه وتوجهاته مع البرلمان، الذي تركه له سلفه يلتسين مع بقايا أركان حكمه في إدارة الكرملين والحكومة، حتى استطاع الإمساك بزمام الأمور مع نهاية فترة ولايته الأولى.
ويذكر المراقبون أن ما جرى تباعًا ولاحقًا من أحداث خلال سنوات الولاية الأولى للرئيس بوتين كان ينبئ بتغييرات جذرية عاصفة نجمت عما أحرزه من نجاح في حسم المواجهة مع الإرهاب وضربه الحركات الاستقلالية والانفصالية والانتهاء من الحرب الشيشانية الثانية، فضلا عن حسمه لمصلحته معركته مع المحافظين ممن كانوا صدّقوا الرئيس الأسبق «وأخذوا من الاستقلال ما استطاعوا أن يبتلعوه» - حسبما دعاهم على سبيل الغزل في مدينة قازان (عاصمة جمهورية تتارستان الروسية ذات الحكم الذاتي) في محاولة لاستمالتهم إلى جواره بعيدا عن خصمه التاريخي ميخائيل غورباتشوف. ولم تكن أحزاب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد غادرت الساحة بعد رغم كل ما لقيته غالبيتها من الضربات والإخفاقات.
في الحقيقة، الأحزاب المعارضة كانت تفقد مع كل ولاية جديدة لفلاديمير بوتين الكثير من مواقعها وجماهيريتها في الشارع الروسي الذي انصرف عنها، وفي الوقت نفسه كانت هذه الفصائل تتناحر فيما بينها، وكان منها من راح يجنح صوب السقوط طواعية في شرك التمويل الأجنبي تحت ستار ما يسمى بـ«منظمات المجتمع المدني». ويذكر كثيرون من المراقبين المحليين منهم والأجانب، تدافع عدد كبير من شباب وممثلي الأحزاب اليمينية نحو التعاون مع المنظمات الأجنبية بدعوى الحصول على منح تدريبية في الخارج، ومنها ما يتعلق بالتدريب على حشد الأنصار وتنظيم المظاهرات وكيفية رفع حدة ودرجة سخونة الأوضاع السياسية في الساحة الداخلية. وحسب راصدين مطلعين في موسكو، ما كان ذلك ليجري من دون مساهمات السفارات والصناديق الغربية وفي مقدمتها الأميركية، وهو ما كانت السلطات و«الأجهزة البوتينية» رصدته في حينه بما استطاعت معه أن تشهره في الوقت المناسب لها مبرّرًا طبيعيًا لاتخاذ السلطات التشريعية الروسية ما يتناسب من مراسيم وقرارات لمواجهة مثل هذه الأوضاع.
وحين كانت تشتد وطأة المداهمات والاعتقالات بتهمة التعاون مع الخارج ومحاولات نشر التوتر وتأليب الرأي العام ضد السلطة الرسمية، كانت قيادات الأحزاب اليمينية تجأر بأعلى الصوت احتجاجًا على ما تقول إنه اعتداء على حقوق الإنسان، وتطالب بالتصدي لما كانت ولا تزال تصفه بتكميم الأفواه، ووقف الإجراءات التي تصفها بـ«الديكتاتورية».
وفي هذا الصدد نذكر ما شهدته موسكو من حشد للجماهير التي خرجت إلى ساحة «بولوتنويه» غير بعيد عن الكرملين في نهاية عام 2011 تحت سمع وبصر الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، وكذلك في مايو 2012 احتجاجًا على عودة بوتين إلى السلطة في الكرملين. وكانت هذه المظاهرات، ولا سيما التي نظمت في نهاية عام 2011، الأكبر في تاريخ المعارضة منذ تولي بوتين للسلطة في عام 2000، وهي مع ذلك لم تلق آذانًا صاغية كما يقال، لكنها أكدت بما لا يدع مجالا للشك مدى هشاشة مواقع المعارضة الروسية التي انفرط عقدها وتبعثرت وتحوّلت إلى ما يشبه «الدكاكين» التي تبيع الوهم. ومن ثم، عاد عدد من أقطاب رجال الأعمال السابقين ومنهم ميخائيل خودوركوفسكي، الملياردير الذي كان أفرج عنه بوتين بعد قضائه ما يزيد عن العشر سنوات في سجون روسيا في اتهامات جنائية واقتصادية ثمة من حاول التشكيك فيها، وإن كانت تتسم في بعض جوانبها بطابع سياسي. وكان خودوركوفسكي قد قال في تصريحات نشرتها جريدة «لوموند» الفرنسية إنه على استعداد لترشيح نفسه منافسًا لبوتين في الانتخابات الرئاسية المرتقبة، رغم يقينه من عبثية مثل هذا الطرح وانعدام جدواه، في توقيت تبدو فيه المعارضة اليمينية عاجزة حتى عن المنافسة على مستوى الانتخابات المحلية.

صراع بوتين مع اليمين
مع هذا، بدت المعارضة اليمينية وكأنها حسمت موقفها المناهض للرئيس فلاديمير بوتين، الذي ظهرت واضحة توجّهاته القومية المتشددة، ومناهضته السافرة للغرب وسياساته وإصراره على استعادة مواقع روسيا في الساحتين الإقليمية والدولية، ورفضه الصريح هيمنة عالم القطب الواحد على مدى كل سنوات ولايته الثانية التي كان اختتمها بخطابه الناري الشهير في مدينة ميونيخ الألمانية في «مؤتمر الأمن الأوروبي» في فبراير (شباط) 2007، الذي كشف فيه عن استراتيجية العمل وتوجهاته نحو مقارعة عالم القطب الواحد والاهتمام بإعادة بلاده إلى صدارة الساحة الدولية.
وهنا راحت رموز الأحزاب اليمينية من أمثال الزعيم الراحل بوريس نيمتسوف تتجرّأ في إظهار خصومتها للنظام وتتعمد الظهور مع أركان خصومه في الفضاء السوفياتي السابق، كما فعل نيمتسوف لدى انضمامه إلى «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا وقبوله العمل مستشارًا للرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يوشينكو في عام 2004 وهو ما يرى المراقبون الروس أنه كان في صدارة أسباب تراجع مواقعه وحزبه في الساحة السياسية الروسية.
وثمّة ما يشير إلى أن ما فعله نيمتسوف - اغتيل في فبراير الماضي في موسكو - وصحبه من أمثال ميخائيل كاسيانوف، آخر رؤساء الحكومات الروسية في عهد يلتسين، وغاري كاسباروف بطل العالم الأسبق في الشطرنج والكسي نافالني ممّن كانوا يجاهرون في عدائهم لفلاديمير بوتين ويتعمدون انتقاده في المحافل الدولية والإقليمية، لم يعد يلقى قبول من بقي من أنصار وأعضاء حركاتهم وتنظيماتهم السياسية. وهذا ما يفسّر تحول بعض ممثلي الأحزاب اليمينية إلى تأييد قرار الرئيس الروسي حول ضم شبه جزيرة القرم واعتبار ذلك «مسألة» لا مراء فيها، فضلا عن أنه صار أمرًا واقعًا لا مجال لتغييره. ومن هؤلاء نشير إلى ممثلي ما يسمى اليوم بـ«المعارضة اليمينية غير الممنهجة» ومنهم خودوركوفسكي ونافالني، وإن كان ذلك عند البعض لا يمكن إلا أن يندرج تحت بند المداهنات والمناورات السياسية. في أي حال، لا يمكن أن يعني تراجع ممثلي «المعارضة غير الممنهجة» عن آمالهم في الإطاحة ببوتين، وهو الهدف الذي أعلنته صراحة الإدارة الأميركية مع بداية اندلاع الأزمة الأوكرانية. ولذا تشير مصادر في موسكو إلى «الاتصالات التي تتوالى بين ممثلي واشنطن والصناديق الغربية مع من بقي من أنصار اليمين الليبرالي في روسيا».
وكان بوتين، شخصيًا، حريصًا على «كشف» الكثير من خفايا وأسرار هذه الاتصالات فيما أوعز إلى مجلس «الدوما» باستصدار القرارات «المناسبة» لاعتبار «منظمات المجتمع المدني» التي يجرى تمويلها من الخارج، «هيئات أجنبية» وإطلاق تسمية «عميل أجنبي» على كل أعضاء هذه المنظمات والعاملين فيها، وهو ما أثار في حينه موجة احتجاجات واسعة شارك فيها الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف بوصفه رئيسًا لمؤسسة الأبحاث والدراسات الاستراتيجية التي تحمل اسمه في موسكو.
ورغم نزول الرئيس الروسي عن إصراره على هذا الموضوع، فإنه عاد أخيرًا في محاولة لمصالحة ممثلي منظمات حقوق الإنسان في روسيا، ليقول بإمكانية إعادة النظر في التسميات، وهو ما لا يمكن أن يكون في تناقض مع إصراره على التمسك بالجوهر.

«المعارضة المُستأنسة»
واتصالا بما سبق، واستئنافًا لاستعراض خارطة المعارضة في الساحة السياسية الروسية نتوقف لنشير إلى أن هناك ما يمكن تسميته بـ«المعارضة المُستأنسة» التي يحرص بوتين على أن تظل «رفيق طريق»، لا يمكن الاستغناء عنه في مواجهة «المعارضة اليمينية غير الممنهجة»، التي تضم بين صفوفها كل ما سبقت الإشارة إليها من أحزاب وقوى وتنظيمات يمينية ليبرالية مثل الأحزاب السياسية القديمة التي كانت ظهرت في تسعينات القرن الماضي مثل «اتحاد القوى اليمينية» الذي طالما ضم نجوم «الحركة الديمقراطية»، وغيره من الأحزاب التي راحت تظهر تباعًا خلال السنوات القليلة الماضية في شكل حركات وتنظيمات شبابية ونقابية وطلابية.
هذا، وكان حزب «اتحاد القوى اليمينية» الذي أسس في نهاية تسعينات القرن الماضي يضم كلا من «خيار روسيا الديمقراطي» برئاسة غايدار، و«القوى الجديدة» وهي الحركة المحافظة برئاسة سيرغي كيرينكو رئيس الحكومة الأسبق الذي انضم اليوم إلى فريق الرئيس بوتين كرئيس لمؤسسة الطاقة النووية، و«روسيا الفتية» بزعامة الراحل نيمتسوف، و«صوت روسيا» برئاسة قسطنطين تيتوف، و«القضية العامة» برئاسة إيرينا خاكامادا وغيرها من القوى السياسية المتناهية الصغر.
ومن الأحزاب اليمينية التي تحرص على المشاركة في كل الانتخابات التشريعية والنيابية من دون نتيجة تذكر حزب «بارناس» الذي يضم كلا من «الحزب الجمهوري» الذي يتزعمه كاسيانوف رئيس الحكومة الروسية الأسبق، وحزب «الإرادة الشعبية» الذي كان يترأسه نيمتسوف. ومن الأحزاب اليمينية أيضًا نشير إلى «حزب يابلوكو» الذي تخلى زعماؤه التاريخيون عن رئاسته ومنهم يافلينسكي ويوري بولدريف وفلاديمير لوكين، وحركة «التضامن» الديمقراطية التي تضم أيضًا ممثلي الأحزاب الأخرى بما فيها المشار إليها عاليه، وغيرها من الأحزاب التي لا يتجاوز عدد أعضائها بضع مئات وهو ما صار يسمح به القانون الروسي الجديد حول تنظيم الأحزاب والحركات السياسية.
أما قائمة الأحزاب المعارضة الأخرى الموالية للكرملين في غالبية توجهاته فيقف على رأسها وبطبيعة الحال «الحزب الشيوعي الروسي» (اليسار) بزعامة زيوغانوف، وحزب «روسيا العادلة» (يسار الوسط) بزعامة سيرغي ميرونوف، وحزب جيرينوفسكي (الليبرالي الديمقراطي)، وهي الأحزاب الثلاثة الوحيدة الممثلة في مجلس «الدوما»، والمحسوبة شكلاً على المعارضة في مواجهة الحزب الحاكم «الوحدة الروسية» بزعامة ديمتري ميدفيديف رئيس الحكومة الروسية الحالي. وبهذه المناسبة نشير إلى ما أعلن عنه بوتين في عام 2011 حول فكرة تشكيل «الجبهة الشعبية لعموم روسيا»، بديلا عن حزب «الوحدة الحاكم» الذي كان تعثر في الانتخابات البرلمانية الماضي وخشية مفاجآت قد تصادفه على طريق عودته للكرملين لولاية ثالثة. وآنذاك قال بوتين إن فكرته تقوم على أساس تجميع القوى السياسية المؤمنة بضرورة التنمية في إطار جبهة فوق حزبية. وتوجه بوتين إلى نشطاء حزب «الوحدة الروسية» باقتراح تشكيل هذه الجبهة على أساس الحزب الحاكم، شريطة أن تضم بين صفوفها غير الحزبيين من ممثلي القوى السياسية المختلفة. وإذ أكد بوتين ضرورة استناد التحالف المرتقب إلى مبادئ التكافؤ والمساواة قال إنه تعمد اختيار «الجبهة الشعبية لعموم روسيا» اسمًا للتحالف لإعلانه قبيل الاحتفال بـ«يوم النصر على الفاشية» من مدينة فولغاغراد - الاسم القديم لستالينغراد - التي سجلت نقطة التحول إلى تحقيق النصر على النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية. ولقد أثار تعمد بوتين لاختيار الزمان والمكان المرتبطين في وجدان شعبه مع أقوى لذكريات وأنصع صفحات التاريخ الكثير من الإيحاءات التي تقول إن تأسيس «الجبهة الشعبية» يعكس رغبته في تعويض قصور سياسات حزب الوحدة الروسية سعيًا نحو المزيد من الأنصار تأهبًا للانتخابات المرتقبة. وهو ما نجح «القيصر» في تحقيقه لتكون «الجبهة الشعبية لعموم روسيا» حصنًا قوميًا ووطنيًا جديدًا في مواجهة المعارضة اليمينية التي لا تزال تعاني حالة الشرذمة والتناحر.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.