«كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة»، التي ستصدر ترجمتها للعربية قريبًا، رواية مغايرة تمامًا لكل مقاييس الرواية، لأسباب متعددة منها أن الكاتب يستخدم ضمير المخاطب «أنت» ليجعل منها الشخصية المحورية دون أن تحمل اسمًا معينًا.
لم تصدر للروائي الباكستاني محسن حامد، الذي يكتب بالإنجليزية، سوى رواية يتيمة باللغة العربية هي «الأصولي المتردد» التي صدرت ترجمتها العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت 2007، بينما ظلت روايته الأولى «عث الدخان» في عام 2000 غير مترجمة حتى الآن. رواياته الثلاث تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة، واعتبرت من أفضل المبيعات في العالم، لكنه لا يزال عندنا شبه مجهول شأنه شأن كثير من الروائيين.
نشر محسن حامد معظم قصصه القصيرة في مجلات: «نيويوركر» و«غرانتا» و«باريس ريفيو»، أما مقالاته فيواصل نشرها في صحف: «داون» و«غارديان» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«فاينانشال تايمز».
نتعرف على سيرته التي تؤكد على أنه ولد في 1971 في لاهور. وقد أمضى سنوات طفولته الأولى في كاليفورنيا، حيث هاجر إليها والداه من باكستان، ودرس في كل في جامعتي برنستون وهارفرد، وكتب روايته الأولى والثانية أيام كان على مقاعد الدراسة. وبعد تخرجه، عمل مستشارًا إداريًا في نيويورك ولندن. فازت روايته الأولى بعدد من الجوائز، وكذلك روايته الثانية «الأصولي المتردد»، ورُشحت لجائزة «بوكر مان» للرواية، وأصبحت ضمن الروايات الأكثر مبيعًا في العالم.
روايته الثالثة التي نحن بصددها وقدمنا ترجمة لها «كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة» مغايرة تمامًا لكل مقاييس الرواية، لأسباب متعددة منها أن الكاتب يستخدم ضمير المخاطب «أنت» ليجعل منها الشخصية المحورية دون أن تحمل اسمًا معينًا. والرواية بأكملها عبارة عن رحلة شاب من الأوساط الريفية الفقيرة ينتقل إلى المدينة، ليجرّب حظه في الثراء، فيعتمد على كتب دليل التعلم الذاتي التي ينكب على قراءتها الشباب من أرجاء العالم من أجل تحقيق طموحاتهم في الحصول على وظيفة مرموقة أو تأسيس شركة تجارية، وخصوصا في آسيا الصاعدة التي تنبت فيها الشركات كما ينبت الفطر في البراري.
يعتمد الكاتب على هذا النوع من الكتب في التعّلم الذاتي، ولكنه يطلق عنان خياله في اثنا عشر فصلاً مبتكرًا، إذ يمكن قراءة الرواية على مستويين مختلفين: الأول على أنها رواية عميقة ومؤثرة لحكاية حب وطموح، والثاني على أنها كتاب استعاري ومجازي في نظرته إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة في آسيا الصاعدة. يختزل الكاتب في روايته ما يريد تحقيقه الشباب الطموح في العصر الحاضر.
تدور أحداث الرواية في بلد لا يحمل اسمًا لكنه قريب الشبه ببلده باكستان. يحلم هذا الشاب الريفي، المنحدر من أصول فقيرة بالثروة والحب، فينتقل إلى المدينة ويؤسس بمدخراته شركة تعبئة المياه المعدنية لكنه يلاقي الفشل، ثم يلتقي بالفتاة التي يعرفها منذ أيام المراهقة، ويطلق عليها في الرواية الفتاة الفاتنة أو الجميلة دون أن تحمل اسمًا أيضًا. لكنها أكثر تحررًا من البطل، وهو ينظر إليها بوصفها امرأة مثالية، رغم أنها تمضي الليلة السابقة مع رجل آخر قطع لها وعدًا بالعثور لها على وظيفة عارضة أزياء. يتميز الروائي بفطنة وذكاء متميزين في استخدام جميع مفردات العصر وأساطيره اليومية في تجسيد حالة ضياع الشباب وطموحاتهم في اعتلاء عرش المال، إنها أسطورة العالم الجديد الذي تنعدم فيه القيم الإنسانية ويصبح المال هو السيد المطلق والإله الموحد لبني البشر. استطاع الكاتب الباكستاني بمهارة كبيرة أن يجعلنا في جو روائي مفعم ببرودة العصر والتشيؤ الذي يضرب في أجزاء جسده. نحن أمام غول المال الذي يسحق جميع القيم ويجعلنا نتوحد في هذه الرؤية بل نشترك فيها. لغة الروائي كثيفة، وكلماته محيّرة، وكل كلمة لها مدلولات متعددة، لكنها لغة شباب العصر، التي قد لا يفهما الجيل السابق لأنها عبارة عن أيقونات جديدة في عصرنا.
أشاد معظم النقاد والكتّاب بهذه الرواية، بل اعتبروها في مصاف الروايات المتميزة في العالم. الناقد ميشيكو كاكوتاني من «نيويورك تايمز» يشبّه محسن حامد بالروائي الأميركي هوراشيو ألجر الابن (1832 - 1899)، الذي اشتهر بكونه مؤلفًا لقصص الأطفال، حيث لاقت رواياته رواجًا كبيرًا في زمانه، تدور أحداثها حول قصص أطفال فقراء تمكنوا من الخروج من ربقة الفقر والبؤس، وسعوا إلى تحسين أوضاعهم المعيشية عبر المثابرة والعمل الجاد مع الحفاظ على الفضيلة والحظ، محققين ما بات يُعرف اليوم باسم الحلم الأميركي. تمثل رواية محسن حامد رغبات ومكبوتات ملايين الشباب في آسيا الصاعدة، هؤلاء الضائعون بين عجلات الاقتصاد الرأسمالي الذي لا يرحم. وعلى الرغم من أن البطل لا يحمل اسمًا فإن القراء سرعان ما يجدون روحه النابضة، وقوته العاطفية، وأفقه المفتوح. يقول الناقد ألن شوس، إن «بطل محسن حامد ينقل إلى الأذهان نسخة معولمة لرواية سكوت فيتزجرالد (غاتسبي العظيم)». ويؤكد الناقد رون شارلس من «واشنطن بوست» أن محسن حامد يتخذ الشكل الأكثر أميركية في الأدب، وهي كتب دليل التعّلم الذاتي، وله قدرة فائقة في تحويلها إلى مادة للحكي في قصة مؤثرة. ويرى الناقد بارول سيهغال أن الكاتب الباكستاني يزاوج بين نمطين من الصعب مقارنتهما، وهما الرواية الملحمية القديمة وكتب دليل التعّلم الذاتي. ويرى الناقد ماريون وينيك أن سرد هذه الرواية يجمع بين الزمن اللانهائي وبين الأحداث المعاصرة، وهو يؤرخ لمرحلة ما بعد الحداثة في حكي شهرزاد. وذهب بعض النقاد إلى مقارنته بالكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي. وآخرون قالوا إن «أهم ما يميّز رواية محسن حامد روح الفكاهة التي يروي بها الأحداث»، ففي مائتي صفحة استطاع أن يعبّر عما أنجزه جيمس جويس في روايته الضخمة «يوليسيس» التي قاربت الألف.
يبقى أن نقول: رواية «كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة» هي رواية رومانسية دون أن تكون عاطفية، وسياسية دون أن تكون مباشرة، وروحية دون أن تكون دينية. جسّدها المؤلف بلغة إنجليزية متمردة، معقدة في فصاحتها وبلاغتها، ومدلولاتها اللغوية والمعرفية، ما جعل ترجمتها تستغرق وقتًا طويلاً رغم قصرها؛ لأنها حققت المعادلة التي ناشد فيها الكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا «الحذف والتكثيف». يكفي أنها رواية إنسانية، تعالج الواقع الصاخب الذي تتحكم فيه رؤوس الأموال والشركات العملاقة. وفي نهاية المطاف، يؤكد الكاتب الباكستاني محسن حامد من خلال روايته الثالثة، مكانته كونه واحدا من أبناء جيله الأكثر إبداعًا وابتكارًا في عالم الرواية.
* مقطع من الفصل الأول من الرواية: الانتقال إلى المدينة
* انظر، إذا لم تكن أنت مؤلف كتاب، فإن كتب التعّلم الذاتي تحتوي على شيئين متناقضين. أنت تقرأ كتابًا في التعلم الذاتي، حيث لا تستطيع أن تساعد نفسك، لكنّ هناك شخصا قادرا على ذلك هو مؤلف هذا الكتاب. هذه الحقيقة تنطبق على جميع أنماط كُتب التعّلم الذاتي. وينطبق على كتب التعلم على سبيل المثال وعلى كتب تحسين الأداء الذاتي، وقد يقول البعض: تنطبق على كتب الدين. ولكن قد يقول قائل: من يصرحون بذلك يستحقون أن يطرحوا أرضا ويتركوا لينزفوا حتى ينفد دمهم بوضع سكين على رقابهم وذبحهم ببطء. من الحكمة وببساطة أن نلاحظ اختلافات وجهات النظر بشأن تلك الفئة الفرعية ثم ننتقل بعد ذلك بسرعة.
لا شيء مما ذُكر آنفا يعني أن كتب التعلم الذاتي لا فائدة منها. بل على العكس، قد تكون مفيدة للغاية. لكن يعني ذلك أن فكرة الذات مراوغة في مجال التعّلم الذاتي. قد تكون المراوغة جيدة، وقد تكون مبهجة، وقد تزودك بمنفذ إلى ما يمكن أن يثير الغضب إذا داهمك بجفاف.
هذا كتاب من كتب التعّلم الذاتي هدفه، كما يشير غلافه الأخير، أن يريك كيف تكون ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة. ولكي تفعل ذلك يجب أن يجد هذا الكتاب طريقه إليك، أن تتداوله، وتقرأه، وأنت ترتعش تحت غطاء أمك ذات صباح بارد وندي على الأرض المرصوصة. عذابك يشبه عذاب طفل رُميت قطعته من الشوكولاته جانبًا، أو نفدت بطارية «ريموت» لعبته، أو انكسرت دراجته، أو سرق منه حذاؤه الرياضي الجديد. وهي أكثر الأشياء تميّزًا، طالما لم ترها في حياتك أبدًا.
بياض عينيك أصبح أصفر، نتيجة ارتفاع نسبة المادة الصفراء في دمك. الفيروس الذي أصابك يُدعى مرض الكبد الوبائي «إي». طريقته النموذجية في العدوى تتم عن طريق الفم أو البراز. يا سلام! يقتل بمعدل واحد في كل خمسين شخصًا، لذلك ربما ستشفى من هذا المرض. لكنك الآن تشعر كمن يوشك على الموت.
على أية حال، واجهت أمك هذا الظرف مرات كثيرة، أو مثل هذه الظروف. لذا فهي قد لا تفكر بأنك ستموت. ومرة أخرى، قد تفكر بموتك. مصير كل شخص الموت، وعندما تكون أم من طراز أمك، ترى وليدها الثالث الألم الذي يجعلك تئن تحت غطاء أمك، بالطريقة التي تفعلها، قد تشعر بموتك يتأجل إلى عقود قليلة، تنزع غطاء رأسها المغبّر، والحالك اللون، وتجلس بألفة منفوشة الشعر، وتبتسم ابتسامة مثيرة لهذا المشهد، وهي تشارك السكن مع أولادها الأحياء في غرفة منفردة، ذات جدران طينية. وتقول: لا تتركنا هنا.
سمع أباك هذا الطلب منها من قبل. على أية حال، لا يجعل ذلك الطلب منه متبّلد الأحاسيس إزاء ذلك تمامًا. إنه رجل ذو شهية جنسية نهمة، وغالبًا ما يفكر بصدرها الثقيل والصلب، وفخذيها الواسعتين، عندما يكون بعيدًا عن أمك، ولا يزال يتشوّق إلى إقحام نفسه في أحضانها ليلاً وليس ثلاث أو أربع زيارات في السنة. وهو يتمتع بحس الفكاهة الفظ وغير المألوف أيضًا لديها، ويحب برفقتها أحيانا. ورغم عدم إظهاره لأحاسيسه تجاه صغاره، فهو يرغب في مراقبتك أثناء نموك وأخوتك. كان أبوه يجد متعة كبيرة في رؤية المحاصيل وهي تكبر في الحقول يوميًا، وفي هذا، يتشابه الرجلان قدر تعلق الأمر بتشابه نمو المحاصيل مع الأطفال.
إنه يقول:
- لا أستطيع أن أستقدمكم إلى المدينة.
- يمكننا البقاء معكم في الأحياء. ترد أمك.
- نستطيع أن نبقى معك في الأحياء.
- يشاركني السكن في غرفتي سائق سيارة.
- أنت تكسب عشرة آلاف الآن. لست برجل فقير.
- عشرة آلاف في المدينة تجعل منك رجلاً فقيرًا.
ينهض ويذهب للتجول في الخارج. عيناك تتابعانه، ونعله الجلدي يُخلع من قائمتيه الخلفيتين، وسيره يصطفق بتراخٍ، وكعباه المتصدعان متصلبان وغليظان، كأنهما مكسوتان بقشرة يابسة. يخطو من البوابة إلى الباحة المفتوحة على السماء التي تقع وسط المجمّع السكني لعائلتك الكبيرة. ومن غير المحتمل، أن يتريث هناك في تأمل الشجرة الفريدة، الوارفة الظلال، ويجد السلوى والعزاء في فصل الصيف، ولكن الآن، في الربيع، لا يزال كل شيء وعر وخشن. من الممكن، أن يخرج من المجمّع السكني، شاقًا طريقه إلى التلة الخلفية، حيث يقضي حاجته، وهو يجلس القرفصاء متخفيا عن الأنظار، ويعصر نفسه بقوة ليفرغ فضلات قولونه. قد يكون وحيدًا أو لا يكون.
يوجد بجوار التلة أخدود لحمي اللون، عميق بطول قامة رجل، وفي قعره يتقطّر الماء بضآلة. في هذا الموسم الاثنان متناقضان، سجين نحيل في معسكر الاعتقال، يلبس رداء طباخ معجنات بدين. ولفترة وجيزة، أثناء الرياح الموسمية، يمتلئ الأخدود بطاقته القصوى، ويكون ذلك حادثة أقل انتظامًا مما كان عليه الحال في الماضي، وذلك اعتمادا على التقلبات المتزايدة في تيارات الهواء والمناخ.