موسكو تصنع محمية {علوية} غرب سوريا

مستغلّة فراغ ما قبل مجيء إدارة أميركية جديدة

صورة من موقع وزارة الدفاع الروسية لقاذفة من طراز سوخوي 34 عقب هبوطها في مطار قاعدة حميميم السورية عقب الانتهاء من ضرباتها في الداخل السوري ضد مواقع المعارضة (أ.ب)
صورة من موقع وزارة الدفاع الروسية لقاذفة من طراز سوخوي 34 عقب هبوطها في مطار قاعدة حميميم السورية عقب الانتهاء من ضرباتها في الداخل السوري ضد مواقع المعارضة (أ.ب)
TT

موسكو تصنع محمية {علوية} غرب سوريا

صورة من موقع وزارة الدفاع الروسية لقاذفة من طراز سوخوي 34 عقب هبوطها في مطار قاعدة حميميم السورية عقب الانتهاء من ضرباتها في الداخل السوري ضد مواقع المعارضة (أ.ب)
صورة من موقع وزارة الدفاع الروسية لقاذفة من طراز سوخوي 34 عقب هبوطها في مطار قاعدة حميميم السورية عقب الانتهاء من ضرباتها في الداخل السوري ضد مواقع المعارضة (أ.ب)

مع التدخل الروسي في سوريا، اتخذت الحرب الدائرة بُعدا طائفيًا متزايدًا بحيث بات المشهد الطاغي على الصراع اليوم يضع النظام العلوي للرئيس بشار الأسد المدعوم من قبل الميليشيات الشيعية وإيران في مواجهة الحراك الشعبي السنّي. وسرعان ما شرعت القيادات المتطرّفة تناشد المسلمين واصفة الصراع بأنه «حرب مقدسة» أخرى تُخاض هذه المرة ضد «العدو الشرقي»، في الوقت الذي ليس من الخفي على أحد أن مصالح روسيا في سوريا تبعد كل البعد عن الأسباب الدينية، لا بل تتخذ طابعًا استراتيجيًا بحتًا.
إبان الضربات الروسية على مناطق شمال سوريا وشرقها وغربها، دعا قادة كل من «داعش» وجبهة النصرة إلى الجهاد ضد «الغزو الروسي». وفي تسجيل نشر على الإنترنت، قال أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش المتطرف «سنهزم روسيا»، داعيا المسلمين في العالم كله إلى إطلاق الجهاد ضد «الروس والأميركان» بحجة أنهم يشنون «حربًا صليبية ضد المسلمين».
من جانبه، هدّد أبو محمد الجولاني زعيم جماعة جبهة النصرة موسكو أيضًا، متوعدًا بأن الحرب الجوية الروسية ستكون لها عواقب كبيرة، ومناشدا جميع الجماعات المسلحة تنحية خلافاتها جانبًا والوقوف متحدين ضد التدخل الغربي. كذلك حث الجولاني - في كلمة له بثت على شبكة الإنترنت - على تصعيد الهجمات على معاقل الأقلية العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد، في شمال غربي سوريا، ردًا على ما وصفه بإقدام «الغزاة» الروس على قتل السنّة. ورأى الجولاني أن الهجمات الروسية الأخيرة على الأراضي السورية هي إعلان للفشل الإيراني وحزب الله والميليشيات التي ساعدت نظام الأسد. وقال الجولاني في تهديده إن الحرب على سوريا جعلت الروس ينسون الرعب الذي شهدوه في أفغانستان، في إشارة إلى المحاولات السوفياتية في إخضاع أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي.
وفي الجانب المقابل، أوردت وكالة «تسنيم» الإيرانية للأنباء أن ضابطين كبيرين من «الحرس الثوري» الإيراني، هما الجنرال فرشاد حسوني زاده والعميد حميد مختار بند قتلا في المعارك الدائرة على جبهات سوريا، بينما كانا يقاتلان مسلحي تنظيم داعش، وذلك قبل الهجوم المزمع لقوات النظام وداعميه على مدينة حلب بدعم من طهران وروسيا. وكان قيادي كبير آخر من الحرس الثوري الإيراني هو الجنرال حسين همداني، قد قتل من قبل في معارك داخل سوريا، ويعد همداني من مؤسسي قوات الدفاع الوطني الموالية للنظام، ولقد شارك في 80 عملية في سوريا قبل أن يقتل فيها.
ويضاف إلى ما سبق أن مسؤولين إقليميين كبيرين صرّحا لوكالة «رويترز» بأن إيران أرسلت آلاف الجنود إلى سوريا خلال الأيام القليلة الماضية لتعزيز الهجوم البرّي المرتقب لقوات النظام في حلب ومن المقرّر أن تدعمه غارات جوية روسية. وعليه، بات من شبه المؤكد أن يؤجج انتشار هذه القوات الحرب الأهلية في سوريا التي أودت حتى الآن بحياة أكثر بكثير من 250 ألف شخص وتشريد نصف سكان البلاد. ويذكر أن روسيا أعلنت بدء عملياتها العسكرية في سوريا منذ 30 سبتمبر (أيلول) الماضي زاعمة تنفيذها غارات جوية على مواقع لتنظيم داعش وكذلك «الحركات الإرهابية» الأخرى – كما تدّعي – داخل الأراضي السورية، في وقت تقول المعارضة السورية، إن الغارات الجوية إنما استهدفت قوات مناوئة لنظام الأسد وليس الجماعات الإرهابية.
وعليه اعتبر الشيخ حسن دغيم، الخبير في الحركات المتشددة خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» من مدينة الريحانية التركية الحدودية أن الضربات الروسية لا شك ستؤجج التطرف على الساحة السورية، وستزيد تجنيد الشباب من الخارج ضمن الفصائل المتطرّفة، ولا سيما أن هذه الضربات الروسية تستهدف المدنيين والجيش السوري الحر والمؤسسات المدنية وليس «النصرة» و«داعش».
ومن جهته، قال فابريس بلانش، الخبير في الأمور السورية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إن «الروس يعدون للبقاء في سوريا بطريقة دائمة. إنهم يريدون توسيع قاعدتهم البحرية في طرطوس واستعادة قاعدة الغواصات في جبلة (30 كم جنوب اللاذقية). وليس من المستبعد أن يتوسّعوا في محيط مطار اللاذقية لأغراض عسكرية». وأردف بلانش «الهدف الأول لموسكو هو تحويل المنطقة العلوية بحكم الأمر الواقع إلى منطقة خاضعة للنفوذ الروسي، وفي حال خسر بشار الأسد السلطة في دمشق، لا شك ستصبح هذه المنطقة (محمية روسية) مثل أبخازيا أو أوسيتيا الجنوبية، لأنه من غير المعقول أن يقبل العلويون بالعيش تحت حكم السنّة. وأما الهدف الثاني، للرئيس فلاديمير بوتين فهو إنقاذ الجندي بشار، والسماح له بالبقاء في السلطة، والسيطرة على الأقل على الجزء الغربي من سوريا، بما في ذلك حلب».
واستطرد الباحث في معهد واشنطن موضحا... لذلك يعمل الروس على مساعدة بشار الأسد للحفاظ على سيطرته على المدن الكبرى في الغرب (مثل درعا ودمشق وحمص وحماه وحلب). ولهذا السبب لم تستهدف الضربات الروسية الأولى «داعش» بل الجماعات الأخرى، بما فيها جبهة النصرة التي تعتبر الفرع السوري لتنظيم القاعدة والتي تتمركز على مقربة من هذه المدن الاستراتيجية. كذلك اغتنمت كل من روسيا وإيران الضعف الهيكلي الذي تمر به الولايات المتحدة بسبب حملة الانتخابات الرئاسية لتتقدم على الساحة السورية قبل ظهور إدارة أميركية جديدة.
في هذه الأثناء، كما سبقت الإشارة، يعد جيش الأسد وحليفه الإيراني وقوات حزب الله لشن هجوم برّي كبير ضد المعارضة السورية في منطقة حلب مدعومين بقصف الطيران الحربي الروسي، ويتوقّع أن يكمل هذا الهجوم الواسع الهجوم البرّي الذي أطلقته هذه القوات نفسها الأسبوع الماضي ضد مناطق المعارضة في ريف محافظة حماه الغربي. وهذا، مع العلم، أن السيطرة على مدينة حلب – ثاني كبرى البلاد – وريف المحافظة المحيط بها تنقسم بين الحكومة السورية ومجموعة من قوات المعارضة التي تقاتل الأسد، وجماعة «داعش» التي تسيطر على بعض المناطق الريفية القريبة من المدينة.
ثم، من خلال تأمين حضور دائم في سوريا، تعمل روسيا على تطويق تركيا، وبالتالي شل حركتها. وحسب بلانش فإن «هدف (الرئيس التركي رجب طيب) إردوغان في تحويل تركيا إلى محور قوة تحده من الشمال جمهورية جورجيا ومن الجنوب جمهورية سوريا يخضع أولاً وأساسًا إلى رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لقد فرضت روسيا نفسها شريكًا أساسيًا في الشرق الأوسط، بينما كان نفوذ الولايات المتحدة قد أخذ يخبو. وإذا بروسيا الآن شريك إلزامي للإيرانيين، وهذه الشراكة هي التي بدأت تثير ريبة الغرب بالنسبة إلى الاتفاق النووي. فحتى إسرائيل ستجد نفسها مُجبَرة على التقرّب من موسكو بما أن أسلحة حزب الله تمرّ عبر المحمية الروسية على السواحل السورية».
ويختتم بلانش كلامه مستخلصًا «هكذا تمكّن فلاديمير بوتين من تنصيب نفسه في قلب المعادلة الشرق أوسطية على حساب الولايات المتحدة»..



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.