«السفاري» ثقافة سياحية تجتاح صحراء البادية الجنوبية في العراق

تنتشر في البحيرة وبصية والواحات الجنوبية على الحدود السعودية ـ الكويتية

تلقى السياحة الصحراوية رواجا بين الأشخاص الذين لم يألفوا أجواءها سواء كان من داخل العراق أو خارجه
تلقى السياحة الصحراوية رواجا بين الأشخاص الذين لم يألفوا أجواءها سواء كان من داخل العراق أو خارجه
TT

«السفاري» ثقافة سياحية تجتاح صحراء البادية الجنوبية في العراق

تلقى السياحة الصحراوية رواجا بين الأشخاص الذين لم يألفوا أجواءها سواء كان من داخل العراق أو خارجه
تلقى السياحة الصحراوية رواجا بين الأشخاص الذين لم يألفوا أجواءها سواء كان من داخل العراق أو خارجه

لم يكن يعلم فيصل علي، الشاب ذو الثلاثين سنة، أن هناك بقلب البادية الجنوبية في العراق بحيرة من المياه، حيث يكثر بقربها الطيور والغزلان والأرانب البرية، إلا بعد أن قام بأول رحلة لمنطقة بصية والمثلث الحدودي بين العراق والكويت والمملكة العربية السعودية ليسجل لنفسه أول رحلة سفاري في حياته.
حال فيصل يشابه الكثير من الشباب والعائلات العراقية التي بدأت أخيرا ومع اعتدال درجات الحرارة الخروج برحلات سفاري، حيث الثقافة السياحية الجديدة التي بدأت تجتاح صحراء البادية الجنوبية في العراق. وقال فيصل، وهو مهندس يعمل في إحدى المؤسسات الحكومية بمحافظة ذي قار، لـ«الشرق الأوسط»، إن: «حياة البداوة والرجوع إلى الصحراء حيث الموطن الأصلي للآباء والأجداد، ففي الصحراء تعلم أهلنا الصبر والشجاعة وكل القيم الجميلة». وأضاف أن «في الصحراء حيث الرجوع للأصول متعة كبيرة، وهذا ما كان ينقصنا سابقا وتحقق اليوم هنا في منطقة بصية. فمدينتي (الناصرية) لا توجد بها صحراء». وتابع أن «الفكرة تبلورت بعد أن شاهدنا عددا كبيرا من الصور لأصدقاء لنا على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) لهذه البادية، وأتينا نحن وأطفالنا إلى هذه المنطقة، وحقا كانت متعة لا توصف».
منطقة بصية كبرى مناطق البادية الجنوبية في العراق، حيث تشكل ستة في المائة من مساحة العراق الكلية، ونحو 48 في المائة من مساحة المثنى ثاني كبرى محافظات العراق مساحة بعد الأنبار، وتقع بالقرب من الحدود مع المملكة العربية السعودية، وتمتاز بطبيعة متنوعة ومنحوتات صخرية وبقايا أثرية مهمة وكثرة (الغزلان).
تلقى السياحة الصحراوية رواجا بين الأشخاص الذين لم يألفوا أجواءها سواء كان من داخل العراق أو خارجه، وصحراء بصية تتوافر فيها بشكل كبير أنواع كثيرة من الرياضات الصحراوية مثل الصيد باستخدام الصقر الحر الأبيض والأشقر وهو معروف لدى الصقارين بأنه النموذج الحقيقي والمثالي للصقر الحر، وتعد الموطن الأصلي لقبيلة الجشعم البدوية، حيث يعرف أفراد هذه القبيلة خبايا المنطقة وطرقها غير المرئية، حيث كثبان الرمال التي يتيه بها السائح أو المرتاد إن قدم دون دليل يرشده.
وقال عبد العزيز الجشعمي، من أهل المنطقة ويعمل دليلا ومرشدا سياحيا، إن: «منطقة بصية تعد من كبرى المناطق في العراق، وهي موطن للصقور النادرة التي أصبحت اليوم مكانا مفضلا لأغلب الباحثين عن المتعة في الصحراء، حيث الطبيعة هي من تتحكم في سائر الأمور».
أضاف أن «المنطقة تتمتع بموسمين للسياحة أو ما يسمونه رحلات السفاري، الأول في بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) التي تخص صيد الصقور في المنطقة، وهنا يأتي السياح من دول الخليج غالبا، والموسم الآخر هو في شهر فبراير (شباط)، حيث يعتدل الجو ويأتي أغلب الوافدين من المحافظات القريبة للمنطقة».
وتابع أن «شتاء العام الحالي شهد توافد الكثير من الباحثين عن متعته الطبيعة إلى المنطقة، وهم من المحافظات العراقية القريبة (البصرة وذي قار)، وخاصة في أيام نهاية الأسبوع».
رحلات السفاري في العراق، وخاصة لدى سكان محافظة البصرة، لم تكن ظاهرة جديدة عليهم، حيث كانوا يرتادون مناطق صحراوية أو شبه صحراوية بالقرب من مدينة الزبير حيث الخضرة والواحات، لكنها تلاشت تدريجيا لعدة أسباب؛ أهما الوضع الأمني وفعاليات النشاطات الصناعية في المنطقة التي هي بالقرب من كبرى الآبار النفطية العراقية كحقلي (الزبير والرميلة) العملاقين.
وقال مجيد السعدون، صياد من أهالي البصرة، إن: «أغلب أبناء مدينة البصرة اعتادوا السفرات (سفاري)، وخاصة بمنطقة (الأثل) حيث الأشجار العملاقة والجو اللطيف التي تشابه عادات أهل الخليج عند الذهاب إلى الصحراء كل خميس أو جمعة (الكشته)».
وأضاف: «لكن بعد أن بدأت الأعمال الصناعية في المنشآت النفطية قرب مناطق (الأثل والبرجسية)، وأيضا عدم استتباب الأمن، بدأت تلك الرحلات بالتلاشي تدريجيا». وتابع أن «أن الباحثين عن متعة الصيد والسفاري بدأوا بالذهاب إلى العمق في صحراء البادية الجنوبية، وخاصة مناطق بصية ومغيري، ورغم أن الرحلة تتمتع بطول الطريق فإنها ممتعة جدا وتستحق العناء».
يشار إلى أن المسافر إلى بصية يضطر إلى اتخاذ أحد ثلاثة طرق للوصول إليها لا تخلو من خطورة التعرض لويلات رمال الصحراء وذئابها، لكن لأهالي بصية عاداتهم وتقاليدهم المختلفة عن غيرهم من سكان المحافظات العراقية الأخرى بسبب تقاليدهم البدوية، منذ اللحظة الأولى لدخولك بصية ستكتشف أنك أمام عالم بدوي يملك طعما ساحرا لا يضاهيه طعم آخر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)