هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

إتيان كلان ومؤلفه «غاليليو والهنود»

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟
TT

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

هل يجب أن نحمِّل العلم مآسي البشرية كلها؟

في إحدى ليالي شتاء 2005، قامت إحدى طالبات الاثنولوجيا بدعوة الباحث الفيزيائي إتيان كلان «Etienne Klein» إلى سهرة يحضرها خمسة من زعماء شعب من الهنود من الأمازون يدعى: «الكايابو LES KAYAPO»، حضروا إلى أوروبا للقيام بجولة دفاعا عن أراضيهم وما لحق بهم من ضياع، جراء زحف الحضارة الغربية التي تهاجم نمط عيشهم وتهدد نظامهم البيئي. يحكي إتيان كلان، بعضا من تفاصيل ذلك اللقاء، الذي يسمه بالمثير فيقول إن وجوههم أصبحت غليظة، فور انتهائهم من تناول وجبة الطعام المعد لهم واحتسائهم للقهوة. وصارت أصواتهم أكثر فخامة وتنبئ بالجدية، وانطلقوا في حديث مطول، يحكون عن قلقهم على مصير ثقافتهم ومجال وجودهم، ويخبرون عن التهديدات التي تطالهم من العالم الغربي وتكنولوجيته. فطرائدهم أصبحت تهرب من غاباتهم، ومجاري مياههم تجف جراء قطع الأشجار. أما أسماكهم، فهي تتسمم بسبب الزئبق الذي يستعمل لتصفية الذهب، ناهيك عن مخلفات الطريق السيار الذي يقطع أراضيهم، والسد الذي سيزج بهم في المجاعة.

في تلك الأثناء، وبينما هم يتكلمون، بدأ يتشكل في ذهن إتيان كلان مباشرة، عالمان متخاصمان لا يجتمعان: عالم الهنود من جهة وعالم الغرب من جهة أخرى. كما توضح له، كم كان لديه من الأفكار المسبقة عما يسمى «بالشعوب البدائية»، وعن أن العقلانية هي فقط عنوان الغرب ووليدته. إن لقاءه مع الهنود وحواره معهم، أظهر له كم كان ساذجا. فهم يمتلكون العقل ولديهم المنطق، ويقدمون الحجج دفاعا عن رأيهم، كما يتعاملون بالمفاهيم وبدقة عالية. ويقول إنهم مثلنا، نحن الذين ندعي أننا «ورثة» المعجزة اليونانية. فإذا كانت قراءة الفيلسوف كانط لديفيد هيوم قد دفعته لإعلان أنه «قد أيقظه من سباته الدوغمائي»، فٳن إتيان كلان يقول بشكل مماثل، إن لقاءه بهؤلاء الزعماء الهنود قد أيقظه من سباته الدوغمائي أيضا. ويقول: لقد سافرت إلى مناطق متعددة ولكني لم أطرح أسئلة، الذات والآخر بوضوح، كما طرحتها وأنا أواجه الهنود، رغم قراءتي للعالم الإنتروبولوجي كلود ليفي شتراوس الذي كان يعلنها عالية: «لا وجود لشعوب بدائية». في هذا السياق بالضبط، سيتساءل إتيان كلان: إذا كان للهنود عقل مثل عقل الغرب تماما، فما الفارق إذن؟
فصل الإنسان عن الطبيعة
في محاولة للإجابة عن السؤال أعلاه، سنلقي نظرة على كتاب ألفه إتيان كلان خصيصا لذلك، وهو بعنوان «غاليليو والهنود» Galilée et Les Indiens، وسنعتمد طبعة فلاماريون لسنة 2013، وتجدر الإشارة إلى أن إتيان كلان، هو من مواليد سنة 1958 في باريس، وهو متخصص في الفيزياء الدقيقة، ومهتم بفلسفة العلوم حيث كانت مجال اشتغاله في الدكتوراه.
يرى إتيان كلان، أنه ورغم اقتناعه بوحدة العقل البشري، فإن اختلاف الغرب عن الهنود يكمن في العلم كما نشأ في القرن السابع عشر، وهو يركز بالذات، على المنعطف الغاليلي. يقول إتيان كلان: إن المجتمعات المسماة «بدائية» تفكر مثلنا بمجرد أن نتوقف عن التفكير بطريقة علمية. لكن لماذا المنطلق مع غاليليو؟ باختصار،، لأن معه سيتم فصل الذات عن الموضوع الخارجي أي عزل الطبيعة عن الإنسان. لكن الهنود لم يقوموا بذلك، فالعالم والإنسان عندهم شيء واحد. فالإنسان لا يقتصر على ما هو إنساني، بل يدمج معه الهواء الذي يستنشقه، والطريدة التي يقنصها، والنبات الذي يبحث عنه للأكل أو للشفاء، والنهر الذي يضم الأسماك التي يصطاد.. فالعالم ممزوج بالإنسان في وصل لا ينقطع.
إن غاليليو بحسب إتيان كلان، سيدشن طريقة جديدة في التفكير، حيث سينقلنا من النظرة التأملية الدافئة والساحرة للعالم، إلى نظرة باردة له. يقول غاليليو «عندما تلمسني الريشة وتحدث لي دغدغة، فهذا الإحساس ينتمي لذاتي وليس للريشة». فغاليليو، وكما يظهر من هذا المثال، كان يسعى لوضع فصل بين ما ينتمي للذات وما ينتمي للعالم الخارجي، إذ يجب، بحسبه، عدم إسقاط ما هو إنساني على الطبيعة. فهذه الأخيرة، صماء وعاطلة لا سبيل إلى فهمها إلا بتكميمها وترويضها، ووضعها في قوالب رياضية. فالكيفيات التي نسقطها على الطبيعة تشوه الموضوع المدروس، وتعطي صورة زائفة عنه. بكلمة واحدة، مع العلم سيضرب سؤال الغايات والمقاصد عرض الحائط، أي إن أسئلة الخير والشر هي خارج اهتمام العلم.
إذن، «ذا كانت نظرة الهنود تضع الإنسان في تناغم مع الكون»، فن نظرة العلم الحديث وبالضبط مع غاليليو، ستضع الإنسان في مواجهة العالم، فهو مختلف عنه. وهنا نتذكر ديكارت معاصر غاليليو، الذي جعل جسمنا أيضا، لا ينتمي إلينا، بل ينتمي إلى العالم الخارجي. فنحن نوجد بالفكر الحر، وهو المميز لنا عن العالم الخاضع للحتمية، الذي يمكن ضبطه والتحكم فيه، بل السيطرة عليه. وهو طموح ديكارت الأكبر الذي تحقق منه الكثير.
إن ما يحدث في العالم بحسب نظرة الفصل الغاليلية، لا يمت بصلة للإنسان. فهما عالمان متمايزان. فكل ما يطرأ في العالم، يتحرك وفق قوانين ميكانيكية محايدة. فالمطر أو الزلزال أو المرض أو الجفاف، هي ظواهر تحدث، ليس من أجل الإنسان دعما له أو انتقاما منه. كما أن الكواكب لا تتبع مساراتها بسبب ترتيب أخلاقي سام، بل هي ببساطة تحقق حالات من المعادلة الميكانيكية. وهو ما سيتجسد مع نيوتن بوضوح. فالعالم يسير تبعا لنظام آلي حيادي، إذ ليس هناك جزء من الكون استثنائي أو يتمتع بامتيازات خاصة. فكل شيء وكل مكان يخضع للقوانين ذاتها. وليس هناك من مادة نقية سماوية خالصة أو مادة مدنسة أرضية. باختصار النظرة العلمية أفقدت الطبيعة قداستها، وكأننا نعيش في عالم شاحب وفاتر. أو لنقل إننا مقذوفون داخل ساعة كبرى يمكن التحكم فيها، بل التلاعب بها.
هل العلم مغامرة خطرة؟
إن المتأمل في مسار حياته، سيجد أنه تنتابه مشاعر متضاربة، فتارة الإعجاب بما هو علمي وتارة أخرى الإحساس بأن العلم يقودنا إلى الهاوية. إذ لم تعد مغامرة العلم مريحة كما كانت، بل أصبحت مثار نقد واتهام، حيث هناك من يرى بأن العلم سينقذنا، بينما هناك من يلح بأنه قد خذلنا وزج بنا في الكارثة.
نعم كان هناك فزع من قنبلة هيروشيما ونكازاكي. نعم هناك تغير في المناخ ينبئ بالخطر. نعم هناك ارتفاع في منسوب البحر. نعم أصبحت أبقارنا مجنونة. نعم نكاد نختنق بالتلوث.. لكن هل يمكن أن نلقي كل هذا على عاتق العلم؟
إنه بمجرد ظهور تكنولوجيا جديدة مثل «Les OGM» أي الأعضاء المعدلة وراثيا، يظهر منطقان ونظرتان متباينتان ومصطدمتان: واحدة تفكر فيما سيتم جنيه من أرباح، والثانية تخشى من الخسائر والتبعات المترتبة عن ذلك.
إذن لقد أصبحت الشكوك تطرح حول العلم وبوضوح، وهذا ما جعل إتيان كلان يقف موقف المدافع عن العلم، رافضا أن تعلق عليه كل مآسي البشرية، إلى درجة أن البعض يطالب بترك العلم نهائيا. يرى إتيان كلان، أن المشكل لا يكمن في العلم لسبب بسيط، وهو أن العلم لا يقول لنا ماذا علينا أن نفعل؟ فهو يكتشف حقائق وكفى. أما استغلال هذه الحقائق بطريقة مخلة، فهذا يعود لأمر غير علمي. إذن ماذا ننتظر من العلم؟ يجيب إتيان كلان بالطبع، ليس الخلاص. فالعلم يؤهلنا لمعرفة محدودة من دون الدخول في تنافس مع الطرق الأخرى لرؤية العالم. وإذا كانت المعرفة العلمية كونية، فهذا لا يعني أنها كاملة، بل هي معرفة تجيب فقط عن الأسئلة التي تدخل ضمن إطار اشتغاله. فالكثير من الأسئلة التي يطرحها البشر ليست علمية من قبيل: كيف نعيش سويا؟ كيف نحقق العدالة؟ كيف نفكر في الحرية؟ ما الحق؟ هذه الأمور القيمية، لا يمكن أن تكون ضمن حقل العلم. وإذا كان العلم لا يقول لنا ماذا سنفعل، فما منبع الخلاص؟ يقول إتيان كلان: إذا ما أخذنا البيولوجيا كعلم، فهي تخبرنا، مثلا، عن كيفية صناعة كائن معدل وراثيا. لكن هي لا تقول لنا هل سنفعل ذلك أم لا؟ فمن سيقرر إذن؟ يؤمن إتيان كلان بأن الجواب يجب أن يكون بعد مشاورة جماعية تستدعي ما أمكن الذكاء الجماعي. فالعالم دوره محدود، هو أن يقول منجزه، أما أن يجيب عن سؤال الخلاص، فهذا ليس مجاله.
إن الدعوة إلى التخلص من العلم بمبرر أنه كلما عرفنا قليلا تصرفنا جيدا، جعلت إتيان كلان يقول: وكأن الأخطاء المرتكبة باسم العلم تجعل من الجهل قيمة!



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!