جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

تبنت مثل إدوارد سعيد «الحل الثالث» ودعت إلى تعايش فلسطيني يهودي في دولة واحدة

جوديث بتلر
جوديث بتلر
TT

جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

جوديث بتلر
جوديث بتلر

تعد الفيلسوفة جوديث بتلر، أبرز زعماء النظريّة النقديّة المعاصرة (الجيل الثالث). وهي يهوديّة أميركيّة ذات أصول روسيّة – مجريّة، عانت عائلتها من الاضطهاد النازي، وفقدت جزءا من عائلتها في المحرقة النازيّة (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست). ولدت الفيلسوفة يوم 24 فبراير (شباط) 1956 بكليفلاند بولاية أوهايو. واهتمت بالفلسفة السيّاسيّة والاجتماعيّة ونظريّة الأدب والدراسات الثقافيّة والجنسانيّة والنوع الاجتماعي والهويّة. حصلت سنة 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة يال، حول مفهوم الرّغبة عند هيغل، ونشرت رسالتها سنة 1987 تحت عنوان: «ذواتٌ راغِبَة: تأملات هيغيليّة حول فرنسا القرن العشرين»، وطورت فيها فهمًا جديدًا للعلاقة بين الرغبة والاعتراف (دمجٌ لفكر اسبينوزا وهيغل).
غادرت سنة 1993 جامعة جونس هوبكينز، بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة «هذه الأجساد التي يجب اعتبارها». كما حصلت سنة 2006 على كرسي حنة ارندت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبيّة العليا بسويسرا. وانتخبت سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع المثقفين الأميركيين حول القضيّة الفلسطينيّة لحشد شروط سلام دائم وعادل بين إسرائيل وفلسطين، وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الإسرائيليّة.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها)، إلى النظريّة النقديّة المعاصرة، بفضل إسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفيّة متنوعة، حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت. لذلك حصلت سنة 2012 على جائزة أدورنو الذائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علنًا. وهناك الكثير من الدراسات التي اهتمت أخيرا بفكرها الفلسفي والسياسي، منها تحديدًا: «الفلسفة السيّاسيّة عند جوديث بتلر»، من تأليف بيرجيت شيبرز (2014)، الذي عالج فيها سياسات تشكّل الذات، فلسفة الإنسان السيّاسيّة، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانيّة. إلى جانب الدراسة النقديّة التي أنجزها ستيفان هابر سنة 2006. تحت عنوان: «نقد مناهضة النزعة الطبيعيّة: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس»، ناهيك عن مئات المقالات، وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: «جوديث بتلر» (2002)، وفحصت فيها مفاهيم: الذات، الجنوسة، الجنس، اللغة، والنفس.
تَشكَّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها. وقد جالت في الفكر الحديث، وساجلت اسبينوزا وروسو وهيغل وكانط، وطورت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار. في حوار معها، مع مجلة الفلسفة (العدد 66)، قالت بتلر، إن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي، حيث وضع والداها كتابات فلسفيّة مختلفة: «هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرين». بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى بتلر مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السيّاسيّة والفلسفيّة فيما بعد، نظرا لالتصاقه بوضعها الذاتي. فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغيلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهويّة تحديدًا التي لا تنظر إليها كشيء ثابت ومحنط، بل كهويّة تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد وبفضل تنشئته الاجتماعيّة التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير ولا ترتبط به، لأنها قد تكون هويّة غير اجتماعيّة، أو خاضعة لمعيّاريّة اجتماعيّة هي بمثابة أحكام قبليّة غير صحيحة، لذلك نقرأ لها في كتابها «الذات تصف نفسها»:
«بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرّف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جوابًا شافيًا بأي حال. إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحًا، بل حتى ثابتًا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها، على وجه الدقة، ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدمه له... إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف، فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حيّة بوصفها رغبة وألا تحلّ نفسها... إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه، أحيانًا، الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع».
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة إلى الاعتراف عند جودي، ليس أمرًا معزولاً عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل كليًّا عن سؤال الهويّة وعلاقتها بالذات. فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهويّة. وقد استعارت جودي هنا، عبارة سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك»، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساسًا الهويّة الجنسيّة) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما، ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: «عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجب علي أن أعامِل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيّاريّة الاجتماعيّة، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيّته. وهكذا، فرغم أني قد أفكر في العلاقة الأخلاقيّة بوصفها ثنائيّة، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيّاريّة وحسب، ولكن في إشكاليّة القوة... فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي وحسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر» (الذات تصف نفسها 69).
تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها، بمناسبة نيلها جائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: «أخلاق لعصر هش»): كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقر أدورنو أنه «لا توجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة»، حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والإقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الأخلاق والشروط الاجتماعيّة، أو بصيغة أعم، العلاقة بين الأخلاق والنظريّة الاجتماعيّة. تصرح بتلر: «أحبذ أن أظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيّدة، حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمراريّة». لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور - مثال واحد أو موحد لهذه الحياة؟
فحصت جودي في خطابها ذاك، سؤال الحياة الجيّدة عند حنة آرندت، وتقول: «ميّزت حنة آرندت بشكلٍ حاسم في كتابها «حياة الذهن» (1971) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيّدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرندت ولن يكون هدفًا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلاً جيّدة. فالحياة الجيّدة وحدها تستحق أن تعاش. لقد وضعت بسهولة حلاً لهذه المشكلة السقراطيّة، ولكن - كما يبدو على الأقل - بشكل متسرع جدًا. لست متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعّالة». فآرندت «تفصل أساسًا، حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا، أقامت في كتابها (شرط الإنسان الحديث)، تمييزًا بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة. كانت تعتبر بشكل واضح، أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر. ولكن السياسة في تصورها، تتحدد بالفعل، في الإحساس الفعّال بالكلام. كما يصير العمل اللّفظي، أيضًا، فعلاً سياسيا في الفضاء التداولي والعمومي، ما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص، وبالتالي فالفضاء السيّاسي يعتمد أساسًا على إعادة إنتاج الخصوصي كجسرٍ واضح، من الخاص إلى العام».
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السيّاسي في الفضاء العمومي، لا يتم فقط عبر الجسد، على من طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هي جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسيّاسة، حيث يتحدد الخطاب كفعل جسدي من ضمن أفعال جسديّة أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد – ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلاً للتّحرك السيّاسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضيّة الفلسطينيّة: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين، أي تسويّة للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينيين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم. وقد تذكرت موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: «من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهودًا وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سويّة على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي، وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السيّاسيّة الأساسيّة لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سيّاسيّة جديدة». ويعود ذلك، إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد 66): «تابعت الدروس حول الدين والعبريّة في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعت أيضا على الروايات والكتب حول إسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة، وتحضر في الكثير من كتبي»، منها على سبيل المثال: «الخطاب المثير: سيّاسات الأداء» (1997)، و«الحياة النفسيّة للقوة: نظريّات في الإخضاع». وتشكل جودي مثالا لـ«المثقفة الجريئة المتعاطفة»، كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة 2012 إبان ترشيحها في ألمانيا. فهي عضو في الهيئة الاستشاريّة لـ«الصوت اليهودي من أجل السلام»، وممثلة في اللجنة التنفيذية لـ«أساتذة من أجل السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأميركيّة»، وفي «مؤسسة مسرح الحريّة في جنين».
تطرح بتلر دومًا السؤال (مجلة ف ع 66): هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة إسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليست زعيمة اليهودية، لأنه «لا يمكنني شخصيًّا، أن أكون يومًا مناهضة للساميّة. كنت ساذجة! وصرخت أولاً، في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة 2012. حينما حصلت على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغوًا، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقًا أمر جدي... كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جدًا. بالنسبة لليهودي، لا يوجد امتحان أسوأ. وبالنسبة لي كيهوديّة، لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام». وهي ترفض العنف تحت أي مبرر، حيث صرحت في محاضرتها سنة 2010 في الجامعة الأميركية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد: «كنت دومًا ميَّالة إلى الفعل السيّاسي اللاعنفي»، و«إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يومًا»، وهذا ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: «حياة قلقة – مستباحة: قوى العنف والعزاء»؛ و«أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟»؛ و«طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية»؛ «حياة هشة»: حول سلطة العنف والمآثم بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.