مهرجان مالمو ينهي أعماله بجوائز ممنوحة لمن يستحق

في سينما عربية تحتاج لهوية جديدة

مشهد من سكر مر
مشهد من سكر مر
TT

مهرجان مالمو ينهي أعماله بجوائز ممنوحة لمن يستحق

مشهد من سكر مر
مشهد من سكر مر

أنجز مهرجان مالمو الذي انتهت أعماله ليل يوم أمس (الثلاثاء) دورته الخامسة بإعلان جوائزه المقدّمة في ثلاث مسابقات منفصلة: مسابقة الفيلم الروائي الطويل، والفيلم التسجيلي الطويل والفيلم القصير. وكان المهرجان السويدي المقام تحت رئاسة السينمائي الفلسطيني محمد قبلاوي قد افتتح في الثاني من الشهر الحالي بفيلم «سكر مر» وتم اختتامه بفيلم «بتوقيت القاهرة» وكلاهما من إنتاجات السينما المصرية الأخيرة.
تجارب المهرجانات العربية خارج دول العالم العربي سابقًا استقطبت اهتمامًا واسعًا سرعان ما تمخض عن محاولات دؤوبة ومساع حميدة، ثم تراجعت أكثر لتعكس إفلاس الاهتمام الرسمي والجماهيري من ناحية، وصعوبة الاستمرار وسط ظروف الأمن والسياسة من ناحية أخرى.
مهرجان مالمو يعيد طرح إشكاليات هذه المهرجانات وتجاربها، لكنه يتجاوز النتائج المحدودة التي أفرزتها معظم التجارب السابقة لسبب أو لآخر.
إنه الهم العراقي هنا والقضية الفلسطينية هناك والظروف الاجتماعية في مصر أو الأحلام الوجدانية والشعرية في باقي الدول. هو الموضوع النسائي حول المرأة التي لم تنل كافة حقوقها أو الموضوع الرجالي حول الإنسان الباحث عن هويته الذاتية، أو ربما عن أطفال الحارات والشوارع والأولاد الذين يواجهون متاعب من سن مبكرة.

* روابط مفقودة

* ما يختلف فيه مهرجان مالمو، كما أبدته الدورة الخامسة، هو أن رئيسه العام محمد القبلاوي نظر حوله حيث ترامت التجارب المختلفة في أوروبا وحاول أن يكون مخلصًا للهدف المحدد وهو تقديم سينما عربية متنوعة (روائية وتسجيلية وقصيرة) لجمهوري هذه السينما: العرب المهاجرين والسكان السويديين، حيث تقع هذه المدينة القابعة في ظلال الصمت.
هذا الجهد لا يلغي أن السينما المنقولة من بلدانها بما فيها طبعًا الراغبة بالفوز في مسابقات المهرجان الثلاث، ما زالت تفتقر إلى وحدات عضوية تنتمي إليها. معظم ما نراه يفتقد الرابط المتين بين بعضه بعضًا. فنيًا، لا يكفي أن يكون الجامع هو اللغة العربية بأشكالها اللهجاتية، بل عليها أن تزف إلى المشاهدين تطورات في مفهوم العمل إنتاجًا وإخراجًا وتنفيذًا، بحيث يصبح الفيلم العربي قادرًا على طي المسافة الثقافية القائمة بينها وبين الغرب لا من حيث التقليد، بل من حيث إبراز خصائص تدفع المشاهدين الأوروبيين لتواصل أفضل مع تلك الهموم المطروحة.

* أكشن أي ثمن

* الأفلام الروائية هي الأكثر قدرة على طي هذه المسافات فنيًا، لأنها الأسهل في التحرر من التزامات المكان والقضية والطرح الخاص والأكثر طواعية في الشكل عوض الاهتمام المباشر بالمضمون. بالتالي، هي أيضًا أسرع في فهم طريقة التخاطب وإتمامه على النحو الذي يجعل الفيلم أكثر قبولاً وإثارة للاهتمام بحد ذاته وبصرف النظر عن قضيّته، شريطة أن يكون المخرج قادرًا على سد الثغرات التي تحول دون تطوّر الفيلم على هذا النحو. هذا أوضحته أعمال دون أخرى في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة.
ما يمكن الخروج به هنا هو أن السينما الروائية تملك ناصيتين أساسيّتين، واحدة تقليدية وأخرى متحررة من التقليد مع وجود جزء آخر منها يقف على الحافة بين الناصيتين، فهو لم ينتم إلى السينما التي تحررت من كبوات السرد التقليدي ولا هو من واقع تحت سطوة ذلك السرد.
أحد هذه الأفلام هو «تحت رمال بابل» للمخرج العراقي محمد الدرّاجي. حكاية العراقيين الذين اضطهدهم، سياسيًا وأمنيًا ثم بدنيًا، النظام السابق. وإذا كنا سابقًا ما أخذنا عليه أنه لم يرم بنقد يطال النظام اللاحق أيضًا (فساد من نوع آخر لا يقل تسلطًا فوق الفوضى التي تمر بها البلاد) إلا أنه من الصعب إلغاء الجهد الذي مارسه المخرج لتنفيذ حكايته ولتوجيه المشاهد صوب اللحظات العاطفية المنشودة.
للمخرج قدرة على إثارة العواطف على نحو يدفع المشاهدين للبكاء في الأوقات التي يبلغ فيها تأييدهم لشخصياته المقهورة حدًّا عاليًا. وهذا الفيلم هو أفضل بكثير من «الكعكة الصفراء» الذي قدّمه، باسم العراق أيضًا، المخرج طارق الجبوري. «الكعكة الصفراء» فيلم «أكشن» مع تشويق وحكايات صراع الأجهزة الروسية والأميركية وعصابات إرهابية لاحتواء سلاح نووي.

* لهو في الزمن

* ثلاثة أفلام شوهدت هنا تحاول اللعب على الزمن من دون أن تفي بشروط إتقان اللعبة. هذه الأفلام هي «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» لخديجة السلامي (اليمن) و«الشجرة النائمة» لمحمد راشد بوعلي (البحرين) و«سكر مر» لهاني خليفة (مصر).
هذا الأخير افتتح الدورة وسط حشد جماهيري جيّد. حكاية تشمل متابعة عشر شخصيات مختلفة (منها أربع ثنائيات حسب أفضل ما يمكن إحصاؤه) نتعرّف عليها في ليلة رأس السنة سنة 2013 وهي تسهر في أحد ملاهي الرقص، قبل أن ننتقل إلى ليلة رأس سنة أخرى ثم ليلة رأس سنة ثالثة ورابعة، وذلك في ترتيب يعيدنا إلى أحداث سابقة. في بعض الأحيان يقفز الفيلم مجددًا إلى المستقبل (ليس من بعد 2013 أو 2014) ليتولّى الإحاطة بنتائج معينة قبل أن يعود أدراجه إلى سنة مضت.
كل هذا الانتقال معبّر عنه بالطبع على الشاشة، لكن بعد حين من هذا الدخول والخروج في السنين، يفقد المشاهد الرغبة (إن لم نقل القدرة أيضًا) في متابعة عملية لا تبدو مهمّة. الغاية المطلقة هي تقديم ما يحدث لمجتمع من الشباب والشابات تعارفوا وتزوّجوا وافترقوا كل لأسباب مختلفة. ألم يكن من الممكن سرد الحكاية على نحو مختلف أكثر انسيابًا؟ بالطبع، لأن السرد غير التقليدي لا يعني أنه السرد الأفضل في كل الحالات والمناسب لكل الأفلام حتى ولو بدا السيناريو مثيرًا على هذا النحو.
الانتقال الزمني أيضًا ممارس في «الشجرة النائمة» ولو على نحو أكثر هدوءًا. إنه هدوء يشمل السرد والمعالجة كلها ويمر بحالاته على نحو وجداني أكثر منه واقعي.
حكاية زوجين لديهما طفلة صغيرة معاقة. لا نفهم السبب لكن ها هي مستلقاة على السرير معظم الوقت تنظر إلى شيء ما من دون حراك أو كلام. الزوج مهموم. تأثير الحالة يجعله غير قادر على إتمام أعماله وسيارته تتعطل فيسوق تاكسي (موديل بريطاني) حيث يأخذه في أحد الأيام رجل وامرأة إلى شجرة تكنّى بالنائمة حيث يعتبرانها مباركة. دخول وخروج الفيلم بين الأزمنة ليس ضروريًا هنا ولا يتبدّى عنه تفننًا يستحق لأجله مثل هذه المعالجة. يا ليت المخرج الشاب قاس المشكلة بما تعنيه عمليًا أكثر. استغنى عن تلك الفترات الصامتة التي تفصل بين حوار كل شخصين (خصوصًا الزوجين) كما لو أنهما بانتظار انتهاء الملقن من تلقينهما الحوار. يخلق ذلك حالة من «مكانك سر» خصوصًا في المرّات إلى يحتاج فيها الفيلم إلى بلورة الأزمة أو الصراع عوضًا عن مراقبتها من بعيد ومن دون تطوّر يذكر.
الحال نفسه في «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة»، الذي استوحته المخرجة من واقعة حقيقية: ذات يوم تقدمت فتاة صغيرة في العاشرة من العمر من القاضي وطلبت أن تسرد عليه حكايتها: لقد تم تزويجها وهي صغيرة وهي جادة في طلب الطلاق.

* أسرار خاصة

* حسنة الفيلم، الذي نال مصوّره فيكتور كريدي جائزة أفضل تصوير، إنه يعرض لتقليد بشع ويساند الفتاة وينتقد تقاليد أجبرت الأب على تزويج ابنته لكي يستر على فضيحة أخرى تخص شقيقتها الأكبر سنًا. لكن سرد الحدث ثم العودة منه إلى فلاشباك، ثم العودة من ذلك الاسترجاع إلى الحاضر لبعض الوقت قبل إعادة الكرة، هو من أكثر العمليات التقليدية الممارسة في السينما. إذا ما برهنت الجوائز التي منحت في نطاق السينما الروائية عن شيء فعن الرغبة في تقدير المختلف قبل سواه.
الفيلمان الأكثر مدعاة لاحتفاء لجنة التحكيم (برئاسة المخرج محمد خان) فازا بالفعل ومعهما فيلم ثالث فاز بجائزة أفضل مخرج.
هذا الفيلم الثالث هو «غدي»، الذي فاز مخرجه اللبناني أمين درة بجائزة أفضل إخراج. كان يستحق أيضًا جائزة أفضل سيناريو لولا أن هذه ذهبت إلى كاتب السيناريو الإماراتي أحمد سالمين عن فيلم «دلافين» وعن جدارة.
«غدي» حكاية ابن لديه ابن معاق يثير نقمة أهل الحي فيطالبوا والده بنقل ابنه إلى مصحة لأنه كثيرًا ما يجلس إلى النافذة ويصرخ منها بلا سبب سوى عدم قدرته على فهم الصواب من الخطأ. لكن الأب يرد بالادعاء بأن ابنه ملاك ويبدأ بالبرهنة على ذلك من خلال فضح أهالي الحي، مدعيًا أن ابنه هو الذي ينقل إليه أسرارهم الخاصة. النتيجة هي أن هذه الشخصيات التي تعيش في منوال من الأخطاء والخطايا تبدأ بالالتزام وممارسة الفعل الصحيح بعد ما آمنوا أن هذا الولد إنما هو ملاك مبارك من السماء.

* هيمنة لمسارات حياة

* أما الفيلمان الآخران فهما «بوليوود دريم» الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة للمخرج المغربي ياسين فنان، و«ذيب» الفائز بجائزة أفضل فيلم.
«بوليوود دريم» كان يمكن أن يكون أفضل صنعًا لولا أنه نقل إلى الواجهة حالة تأخذ من الواقع ما يثير الاهتمام طوال الوقت. بطل الفيلم شاب يعيش أوهام السينما الهندية السائدة. يتخيل أنه أحد ممثليها ومغنيها وأنه جزء من استعراضاتها الراقصة. حين يعود، ونحن، إلى الواقع العاري من الأحلام يجده مرًّا من حوله. ما يأتي به المخرج المغربي (في ثاني أعماله) هو قدر من نقد الواقع المعاش وإظهار مسؤولية الأشخاص النافذة والمهيمنة على مسارات الحياة.
أما الفيلم الذي فاز بالجائزة الأولى فهو «ذيب» للأردني ناجي أبو نوار الذي كان شهد عرضه السينمائي الأول في مهرجان فينسيا العام الماضي، حيث فاز بالجائزة الأولى في قسم «آفاق». هو عمل متين التنفيذ عمومًا. مؤلّف ومنفذ بوحدة زمنية دقيقة. يستفيد من البيئة الجديدة التي يعرضها «بيئة صحراوية» ومن الحكاية التي يستعرضها «صبي ينتقم من رئيس عصابة قتل شقيقه لأجل الفوز بمتفجرة يبيعها للإنجليز أيام الصراع على النفوذ خلال الفترة العثمانية».
على صعيد الفيلم التسجيلي، فاز فيلم «رسائل من اليرموك» لرشيد مشهراوي بجائزة أفضل فيلم: إنه فيلم ذكي التنفيذ يربط بين الفلسطيني الذي خسر وطنه والفلسطيني الذي وجد نفسه وهو محاصر ومهدد في مخيم اليرموك إبان الأحداث العاصفة التي تعرض إليها فلسطينيو المخيم.
والموضوع السوري نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة عبر فيلم عنوانه «أنا مع العروسة» لكل من الفلسطيني خالد سليمان الناصري والإيطالي أنطونيو أوغليارو. يتابع الفيلم رحلة التسلل لعائلة فلسطينية هاربة من سوريا عليها اجتياز الحدود الإيطالية إلى فرنسا ثم الفرنسية إلى ألمانيا قبل وصولها إلى حيث تقصد الاستيطان.

* جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة

* شهادة تقدير للطفلة الممثلة ملاك رميلي في «عيون الحرامية» للمخرجة نجوى النجار وبطولة النجم خالد أبو النجا (فلسطين).
* جائزة أفضل تصوير للمصور فيكتور كريدي عن فيلم «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» إخراج خديجة السلامي (اليمن).
* جائزة أفضل سيناريو للسيناريست أحمد سالمين عن فيلم «دلافين» لأحمد الشحي (الإمارات)
*جائزة أفضل ممثل للنجم العربي الكبير الراحل نور الشريف عن فيلم «بتوقيت القاهرة» إخراج أمير رمسيس (مصر)
*جائزة أفضل ممثلة حجبت من قبل لجنة التحكيم
* جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم المغربي «بوليوود دريم» لياسين فينان (المغرب).
* جائزة أفضل مخرج للمخرج اللبناني أمين درة عن فيلم «غدي» (لبنان)
* جائزة أفضل فيلم: «ذيب» إخراج ناجي أبو نوار (الأردن).

.. وجوائز الأفلام التسجيلية

* شهادة تقدير لفيلم «حلم شهرزاد» لفرنسوا فوستر (مصر / جنوب أفريقيا).
* شهادة تقدير لفيلم «شعور فلسطين» إخراج ريكي روبي (الدنمارك)
* جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم «أنا مع العروسة» لخالد سليمان الناصري وغابريال دل غراندو وأنطونيو أوغليارو (فلسطين، إيطاليا).
* جائزة أفضل فيلم: «رسائل من اليرموك» لرشيد مشهراوي (فلسطين).
* جائزة خاصة لأفضل فيلم يعالج قضية الرأي: «روشميا» للمخرج سليم أبو جبل من الجولان السوري المحتل.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».