مهرجان مالمو ينهي أعماله بجوائز ممنوحة لمن يستحق

في سينما عربية تحتاج لهوية جديدة

مشهد من سكر مر
مشهد من سكر مر
TT

مهرجان مالمو ينهي أعماله بجوائز ممنوحة لمن يستحق

مشهد من سكر مر
مشهد من سكر مر

أنجز مهرجان مالمو الذي انتهت أعماله ليل يوم أمس (الثلاثاء) دورته الخامسة بإعلان جوائزه المقدّمة في ثلاث مسابقات منفصلة: مسابقة الفيلم الروائي الطويل، والفيلم التسجيلي الطويل والفيلم القصير. وكان المهرجان السويدي المقام تحت رئاسة السينمائي الفلسطيني محمد قبلاوي قد افتتح في الثاني من الشهر الحالي بفيلم «سكر مر» وتم اختتامه بفيلم «بتوقيت القاهرة» وكلاهما من إنتاجات السينما المصرية الأخيرة.
تجارب المهرجانات العربية خارج دول العالم العربي سابقًا استقطبت اهتمامًا واسعًا سرعان ما تمخض عن محاولات دؤوبة ومساع حميدة، ثم تراجعت أكثر لتعكس إفلاس الاهتمام الرسمي والجماهيري من ناحية، وصعوبة الاستمرار وسط ظروف الأمن والسياسة من ناحية أخرى.
مهرجان مالمو يعيد طرح إشكاليات هذه المهرجانات وتجاربها، لكنه يتجاوز النتائج المحدودة التي أفرزتها معظم التجارب السابقة لسبب أو لآخر.
إنه الهم العراقي هنا والقضية الفلسطينية هناك والظروف الاجتماعية في مصر أو الأحلام الوجدانية والشعرية في باقي الدول. هو الموضوع النسائي حول المرأة التي لم تنل كافة حقوقها أو الموضوع الرجالي حول الإنسان الباحث عن هويته الذاتية، أو ربما عن أطفال الحارات والشوارع والأولاد الذين يواجهون متاعب من سن مبكرة.

* روابط مفقودة

* ما يختلف فيه مهرجان مالمو، كما أبدته الدورة الخامسة، هو أن رئيسه العام محمد القبلاوي نظر حوله حيث ترامت التجارب المختلفة في أوروبا وحاول أن يكون مخلصًا للهدف المحدد وهو تقديم سينما عربية متنوعة (روائية وتسجيلية وقصيرة) لجمهوري هذه السينما: العرب المهاجرين والسكان السويديين، حيث تقع هذه المدينة القابعة في ظلال الصمت.
هذا الجهد لا يلغي أن السينما المنقولة من بلدانها بما فيها طبعًا الراغبة بالفوز في مسابقات المهرجان الثلاث، ما زالت تفتقر إلى وحدات عضوية تنتمي إليها. معظم ما نراه يفتقد الرابط المتين بين بعضه بعضًا. فنيًا، لا يكفي أن يكون الجامع هو اللغة العربية بأشكالها اللهجاتية، بل عليها أن تزف إلى المشاهدين تطورات في مفهوم العمل إنتاجًا وإخراجًا وتنفيذًا، بحيث يصبح الفيلم العربي قادرًا على طي المسافة الثقافية القائمة بينها وبين الغرب لا من حيث التقليد، بل من حيث إبراز خصائص تدفع المشاهدين الأوروبيين لتواصل أفضل مع تلك الهموم المطروحة.

* أكشن أي ثمن

* الأفلام الروائية هي الأكثر قدرة على طي هذه المسافات فنيًا، لأنها الأسهل في التحرر من التزامات المكان والقضية والطرح الخاص والأكثر طواعية في الشكل عوض الاهتمام المباشر بالمضمون. بالتالي، هي أيضًا أسرع في فهم طريقة التخاطب وإتمامه على النحو الذي يجعل الفيلم أكثر قبولاً وإثارة للاهتمام بحد ذاته وبصرف النظر عن قضيّته، شريطة أن يكون المخرج قادرًا على سد الثغرات التي تحول دون تطوّر الفيلم على هذا النحو. هذا أوضحته أعمال دون أخرى في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة.
ما يمكن الخروج به هنا هو أن السينما الروائية تملك ناصيتين أساسيّتين، واحدة تقليدية وأخرى متحررة من التقليد مع وجود جزء آخر منها يقف على الحافة بين الناصيتين، فهو لم ينتم إلى السينما التي تحررت من كبوات السرد التقليدي ولا هو من واقع تحت سطوة ذلك السرد.
أحد هذه الأفلام هو «تحت رمال بابل» للمخرج العراقي محمد الدرّاجي. حكاية العراقيين الذين اضطهدهم، سياسيًا وأمنيًا ثم بدنيًا، النظام السابق. وإذا كنا سابقًا ما أخذنا عليه أنه لم يرم بنقد يطال النظام اللاحق أيضًا (فساد من نوع آخر لا يقل تسلطًا فوق الفوضى التي تمر بها البلاد) إلا أنه من الصعب إلغاء الجهد الذي مارسه المخرج لتنفيذ حكايته ولتوجيه المشاهد صوب اللحظات العاطفية المنشودة.
للمخرج قدرة على إثارة العواطف على نحو يدفع المشاهدين للبكاء في الأوقات التي يبلغ فيها تأييدهم لشخصياته المقهورة حدًّا عاليًا. وهذا الفيلم هو أفضل بكثير من «الكعكة الصفراء» الذي قدّمه، باسم العراق أيضًا، المخرج طارق الجبوري. «الكعكة الصفراء» فيلم «أكشن» مع تشويق وحكايات صراع الأجهزة الروسية والأميركية وعصابات إرهابية لاحتواء سلاح نووي.

* لهو في الزمن

* ثلاثة أفلام شوهدت هنا تحاول اللعب على الزمن من دون أن تفي بشروط إتقان اللعبة. هذه الأفلام هي «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» لخديجة السلامي (اليمن) و«الشجرة النائمة» لمحمد راشد بوعلي (البحرين) و«سكر مر» لهاني خليفة (مصر).
هذا الأخير افتتح الدورة وسط حشد جماهيري جيّد. حكاية تشمل متابعة عشر شخصيات مختلفة (منها أربع ثنائيات حسب أفضل ما يمكن إحصاؤه) نتعرّف عليها في ليلة رأس السنة سنة 2013 وهي تسهر في أحد ملاهي الرقص، قبل أن ننتقل إلى ليلة رأس سنة أخرى ثم ليلة رأس سنة ثالثة ورابعة، وذلك في ترتيب يعيدنا إلى أحداث سابقة. في بعض الأحيان يقفز الفيلم مجددًا إلى المستقبل (ليس من بعد 2013 أو 2014) ليتولّى الإحاطة بنتائج معينة قبل أن يعود أدراجه إلى سنة مضت.
كل هذا الانتقال معبّر عنه بالطبع على الشاشة، لكن بعد حين من هذا الدخول والخروج في السنين، يفقد المشاهد الرغبة (إن لم نقل القدرة أيضًا) في متابعة عملية لا تبدو مهمّة. الغاية المطلقة هي تقديم ما يحدث لمجتمع من الشباب والشابات تعارفوا وتزوّجوا وافترقوا كل لأسباب مختلفة. ألم يكن من الممكن سرد الحكاية على نحو مختلف أكثر انسيابًا؟ بالطبع، لأن السرد غير التقليدي لا يعني أنه السرد الأفضل في كل الحالات والمناسب لكل الأفلام حتى ولو بدا السيناريو مثيرًا على هذا النحو.
الانتقال الزمني أيضًا ممارس في «الشجرة النائمة» ولو على نحو أكثر هدوءًا. إنه هدوء يشمل السرد والمعالجة كلها ويمر بحالاته على نحو وجداني أكثر منه واقعي.
حكاية زوجين لديهما طفلة صغيرة معاقة. لا نفهم السبب لكن ها هي مستلقاة على السرير معظم الوقت تنظر إلى شيء ما من دون حراك أو كلام. الزوج مهموم. تأثير الحالة يجعله غير قادر على إتمام أعماله وسيارته تتعطل فيسوق تاكسي (موديل بريطاني) حيث يأخذه في أحد الأيام رجل وامرأة إلى شجرة تكنّى بالنائمة حيث يعتبرانها مباركة. دخول وخروج الفيلم بين الأزمنة ليس ضروريًا هنا ولا يتبدّى عنه تفننًا يستحق لأجله مثل هذه المعالجة. يا ليت المخرج الشاب قاس المشكلة بما تعنيه عمليًا أكثر. استغنى عن تلك الفترات الصامتة التي تفصل بين حوار كل شخصين (خصوصًا الزوجين) كما لو أنهما بانتظار انتهاء الملقن من تلقينهما الحوار. يخلق ذلك حالة من «مكانك سر» خصوصًا في المرّات إلى يحتاج فيها الفيلم إلى بلورة الأزمة أو الصراع عوضًا عن مراقبتها من بعيد ومن دون تطوّر يذكر.
الحال نفسه في «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة»، الذي استوحته المخرجة من واقعة حقيقية: ذات يوم تقدمت فتاة صغيرة في العاشرة من العمر من القاضي وطلبت أن تسرد عليه حكايتها: لقد تم تزويجها وهي صغيرة وهي جادة في طلب الطلاق.

* أسرار خاصة

* حسنة الفيلم، الذي نال مصوّره فيكتور كريدي جائزة أفضل تصوير، إنه يعرض لتقليد بشع ويساند الفتاة وينتقد تقاليد أجبرت الأب على تزويج ابنته لكي يستر على فضيحة أخرى تخص شقيقتها الأكبر سنًا. لكن سرد الحدث ثم العودة منه إلى فلاشباك، ثم العودة من ذلك الاسترجاع إلى الحاضر لبعض الوقت قبل إعادة الكرة، هو من أكثر العمليات التقليدية الممارسة في السينما. إذا ما برهنت الجوائز التي منحت في نطاق السينما الروائية عن شيء فعن الرغبة في تقدير المختلف قبل سواه.
الفيلمان الأكثر مدعاة لاحتفاء لجنة التحكيم (برئاسة المخرج محمد خان) فازا بالفعل ومعهما فيلم ثالث فاز بجائزة أفضل مخرج.
هذا الفيلم الثالث هو «غدي»، الذي فاز مخرجه اللبناني أمين درة بجائزة أفضل إخراج. كان يستحق أيضًا جائزة أفضل سيناريو لولا أن هذه ذهبت إلى كاتب السيناريو الإماراتي أحمد سالمين عن فيلم «دلافين» وعن جدارة.
«غدي» حكاية ابن لديه ابن معاق يثير نقمة أهل الحي فيطالبوا والده بنقل ابنه إلى مصحة لأنه كثيرًا ما يجلس إلى النافذة ويصرخ منها بلا سبب سوى عدم قدرته على فهم الصواب من الخطأ. لكن الأب يرد بالادعاء بأن ابنه ملاك ويبدأ بالبرهنة على ذلك من خلال فضح أهالي الحي، مدعيًا أن ابنه هو الذي ينقل إليه أسرارهم الخاصة. النتيجة هي أن هذه الشخصيات التي تعيش في منوال من الأخطاء والخطايا تبدأ بالالتزام وممارسة الفعل الصحيح بعد ما آمنوا أن هذا الولد إنما هو ملاك مبارك من السماء.

* هيمنة لمسارات حياة

* أما الفيلمان الآخران فهما «بوليوود دريم» الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة للمخرج المغربي ياسين فنان، و«ذيب» الفائز بجائزة أفضل فيلم.
«بوليوود دريم» كان يمكن أن يكون أفضل صنعًا لولا أنه نقل إلى الواجهة حالة تأخذ من الواقع ما يثير الاهتمام طوال الوقت. بطل الفيلم شاب يعيش أوهام السينما الهندية السائدة. يتخيل أنه أحد ممثليها ومغنيها وأنه جزء من استعراضاتها الراقصة. حين يعود، ونحن، إلى الواقع العاري من الأحلام يجده مرًّا من حوله. ما يأتي به المخرج المغربي (في ثاني أعماله) هو قدر من نقد الواقع المعاش وإظهار مسؤولية الأشخاص النافذة والمهيمنة على مسارات الحياة.
أما الفيلم الذي فاز بالجائزة الأولى فهو «ذيب» للأردني ناجي أبو نوار الذي كان شهد عرضه السينمائي الأول في مهرجان فينسيا العام الماضي، حيث فاز بالجائزة الأولى في قسم «آفاق». هو عمل متين التنفيذ عمومًا. مؤلّف ومنفذ بوحدة زمنية دقيقة. يستفيد من البيئة الجديدة التي يعرضها «بيئة صحراوية» ومن الحكاية التي يستعرضها «صبي ينتقم من رئيس عصابة قتل شقيقه لأجل الفوز بمتفجرة يبيعها للإنجليز أيام الصراع على النفوذ خلال الفترة العثمانية».
على صعيد الفيلم التسجيلي، فاز فيلم «رسائل من اليرموك» لرشيد مشهراوي بجائزة أفضل فيلم: إنه فيلم ذكي التنفيذ يربط بين الفلسطيني الذي خسر وطنه والفلسطيني الذي وجد نفسه وهو محاصر ومهدد في مخيم اليرموك إبان الأحداث العاصفة التي تعرض إليها فلسطينيو المخيم.
والموضوع السوري نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة عبر فيلم عنوانه «أنا مع العروسة» لكل من الفلسطيني خالد سليمان الناصري والإيطالي أنطونيو أوغليارو. يتابع الفيلم رحلة التسلل لعائلة فلسطينية هاربة من سوريا عليها اجتياز الحدود الإيطالية إلى فرنسا ثم الفرنسية إلى ألمانيا قبل وصولها إلى حيث تقصد الاستيطان.

* جوائز مسابقة الأفلام الروائية الطويلة

* شهادة تقدير للطفلة الممثلة ملاك رميلي في «عيون الحرامية» للمخرجة نجوى النجار وبطولة النجم خالد أبو النجا (فلسطين).
* جائزة أفضل تصوير للمصور فيكتور كريدي عن فيلم «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» إخراج خديجة السلامي (اليمن).
* جائزة أفضل سيناريو للسيناريست أحمد سالمين عن فيلم «دلافين» لأحمد الشحي (الإمارات)
*جائزة أفضل ممثل للنجم العربي الكبير الراحل نور الشريف عن فيلم «بتوقيت القاهرة» إخراج أمير رمسيس (مصر)
*جائزة أفضل ممثلة حجبت من قبل لجنة التحكيم
* جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم المغربي «بوليوود دريم» لياسين فينان (المغرب).
* جائزة أفضل مخرج للمخرج اللبناني أمين درة عن فيلم «غدي» (لبنان)
* جائزة أفضل فيلم: «ذيب» إخراج ناجي أبو نوار (الأردن).

.. وجوائز الأفلام التسجيلية

* شهادة تقدير لفيلم «حلم شهرزاد» لفرنسوا فوستر (مصر / جنوب أفريقيا).
* شهادة تقدير لفيلم «شعور فلسطين» إخراج ريكي روبي (الدنمارك)
* جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم «أنا مع العروسة» لخالد سليمان الناصري وغابريال دل غراندو وأنطونيو أوغليارو (فلسطين، إيطاليا).
* جائزة أفضل فيلم: «رسائل من اليرموك» لرشيد مشهراوي (فلسطين).
* جائزة خاصة لأفضل فيلم يعالج قضية الرأي: «روشميا» للمخرج سليم أبو جبل من الجولان السوري المحتل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».