قرن من الفن العراقي في صالة بونامز بلندن

ضمن مزادها لفصل الخريف للفن الحديث والمعاصر من الشرق الأوسط

المدينة لوداد الأورفلي
المدينة لوداد الأورفلي
TT

قرن من الفن العراقي في صالة بونامز بلندن

المدينة لوداد الأورفلي
المدينة لوداد الأورفلي

رغم الأوضاع السياسية المضربة في معظم أنحاء العالم العربي يظل الفن منفذا وشاهدا على تاريخ قريب زخر بالفنانين الذين أسسوا لحركات فنية متألقة في بلدانهم. المعارض المختلفة والمزادات الفنية دليل على الإقبال الذي يشهده الفن العربي الحديث والمعاصر في الداخل والخارج.
وفي موسم مزادات الفن العربي والإسلامي الذي ينطلق من اليوم، تقدم دار بونامز بلندن الجزء الثاني من مزادها الناجح «قرن من الفن العراقي» الذي أقيم الجزء الأول منه في شهر أبريل (نيسان) الماضي.
نيما ساغارشي رئيس قسم الفن الحديث والمعاصر في منطقة الشرق الأوسط لدى الدار تناول في حديث لصحيفة «الشرق الأوسط» أهمية المزاد والأعمال المعروضة فيه، وقال: «الدار تقدم الجزء الثاني لمزادها الناجح حول الفن العراقي الذي حقق أرقاما قياسيا لكل الفنانين المشاركين عبر أربعين عملا متميزا بعضها لم يظهر في السوق الفنية من قبل».
ورغم أن المزاد الذي يقام في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) يضم أعمالا من عدد من البلدان العربية إلا أن الدار تحرص على التنويه عن الأعمال العراقية في المزاد خاصة بعد النجاح الضخم الذي حققه المزاد الذي أقيم في شهر أبريل الماضي وحصد 1.2 مليون جنيه إسترليني. ويشير ساغارشي إلى عرض أعمال رواد الفن في العراق للبيع في مزاد الدار يهدف إلى تقديم «أنثولجيا للفن العراقي الحديث تجمع أهم فناني القرن العشرين»، ويستكمل كلامه بالتأكيد على ندرة العثور على أعمال عراقية حديثة في الصالات الفنية: «باستثناء غاليري (وايت تشابل) الذي يقدم معرضا حاليا من مجموعة البراجيل الفنية والمجموعة التي تعرض حاليا في بونامز ضمن مزادها للفن الحديث والمعاصر من الشرق الأوسط».
يضيف ساغارشي «العراق ظل من أكثر المناطق الثرية فنيا في الشرق الأوسط ومن المهم للأسواق العالمية أن تدرك أهمية الإنجازات التي حققها الفن العراقي رغم الظروف الصعبة التي واجهتها البلاد».
المجموعة تمثل نتاج قرن من الفن العراقي وتضم أعمالا لفنانين رواد مثل عبد القادر الرسام وفائق حسن إلى جانب أعمال لفنانين لهم باع في السوق الفنية أمثال جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وضياء عزاوي. وتأتي أهمية المزاد من وجود أعمال نادرة ضمن مجموعات خاصة بعضها يظهر في السوق الفنية للمرة الأولى.
وتؤكد د.ندى شبوط أستاذ تاريخ الفن العربي المعاصر في جامعة تكساس أن مجموعة الأعمال العراقية المعروضة التي قد تكون صغيرة في حجمها تحمل الكثير من الأهمية وتعد دليلا على تجديد وابتكار الفنان العراقي الحديث. تقول إن الأعمال فيما بينها تقدم «أمثلة على الاتجاهات التي سادت وحددت إيقاعات الفن العراقي الحديث خلال القرن العشرين».
من القطع المهمة لوحة «الديك» للفنان شاكر حسن آل سعيد (40 إلى 60 ألف جنيه) وهي قريبة جدا من لوحة مشابهة بيعت في بدايات العام ضمن الجزء الأول من المجموعة العراقية وحققت رقما قياسيا بلغ 194 ألف جنيه إسترليني.
ومن المعروف أن شاكر حسن آل سعيد ومعلمه جواد سليم كونا الحركة الفنية الحديثة في العراق عبر مجموعة بغداد للفن الحديث في عام 1951، ومما يدل على التأثير القوي للمجموعة نرى أيضا لوحة للفنان إسماعيل فتاح بعنوان «تحية لجواد سليم» عرضت في غاليري كوفة بلندن في عام 1989 ضمن معرض أقيم وقتها لتكريم جواد سليم بوصفه المؤسس للحركة الحديثة في العراق.
«المنتصرون» عمل آخر لآل سعيد يعبر عن الأسلوب التجريدي الذي ميز أعمال الفنان في مراحله المتأخرة، وهو من أهم اللوحات التي قدمها الفنان في سلسلة «البعد الواحد» التي يستكشف من خلالها الأبعاد الروحية للأحرف العربية.
وإلى جانب المجموعة العراقية يضم المزاد أيضا أعمالا لفنانين مصريين وإيرانيين، منها عمل للفنان الإيراني مانوشهر يكتاي «بورتريه إيريس كلير» وهي لوحة تعكس الأسلوب التجريدي للفنان يكتاي الذي عرض أعماله في نيويورك لجانب عمالقة أمثال جاكسون بولوك ومارك روثكو. رسم يكتاي بورتريه لإيريس كلير صاحبة غاليري فني، اللوحة عرضت في متحف الفن والتاريخ في جنيف قبل أن تنتقل إلى الملكية الخاصة وتقبع ضمن مجموعة فنية خاصة حتى عرضها في هذا المزاد.
من لبنان يضم المزاد عمل «الأم» للفنان بول غيراغوسيان وهو يعد نموذجا لأعمال الفنان في حقبة السبعينات ويحتفي فيها بالأم التي تقدم الحماية والملجأ في أوقات الصراع والمعاناة.
القومية العربية الواقعية الاجتماعية التي عرفتها مصر والعالم العربي خلال الستينات تتجلى في أعمال الفنانين حامد عويس «الحصاد» ومحمود موسى «العامل». يتناول عويس شخصية الفلاح المصري بحساسية خاصة بينما يلجأ موسى للتراث الفرعوني واستلهام التماثيل العملاقة لتبجيل دور المصريين الذي لقوا حتفهم أثناء حفر قناة السويس.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)