بن كارسون.. جراح الأعصاب في سباق البيت الأبيض

رحلة نجاح نقلته من الفقر إلى أعلى المناصب العلمية

بن كارسون.. جراح الأعصاب في سباق البيت الأبيض
TT

بن كارسون.. جراح الأعصاب في سباق البيت الأبيض

بن كارسون.. جراح الأعصاب في سباق البيت الأبيض

يحتل الدكتور بن كارسون، حاليًا، ووفق أحدث استطلاعات الرأي بين المرشحين الجمهوريين، المرتبة الثانية بعد الملياردير اليميني دونالد ترامب. وكان كارسون، المحسوب على الجناح اليميني في الحزب، قد حلّ ضيفًا في مقابلة تلفزيونية بثت يوم الأحد قبل الماضي ببرنامج «واجه الصحافة»، وخلالها فجّر «قنبلة» سياسية عندما قال إنه لا يعتقد أن مسلمًا يجوز أن يكون مسؤولاً عن الولايات المتحدة. وأردف أن الشريعة الإسلامية لا تتناسب مع الدستور الأميركي. كذلك كرّر القول في عدة مقابلات تلفزيونية، أن المرشح المسلم يمكن أن يستخدم مبدأ «التقية» الذي يبيح له الكذب لتحقيق أهدافه. ومجددًا برّر موقفه في مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز»، القريبة من تيار اليمين المحافظ المتشدّد، بمهاجمته سجل حكومات الدول الإسلامية في مجال حقوق الإنسان.
أثار بن كارسون، أحد المتنافسين على ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية الكثير من الجدل والانتقادات خلال الشهر المنصرم إثر تصريحات رفض خلالها فكرة تولّي مسلم منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ورغم تعرّضه لانتقاد بعض زملائه من الجمهوريين وخصومه من الحزب الديمقراطي وهجوم الكثير من المنظمات الإسلامية عليه ومطالبتها إياه بالاعتذار أو الانسحاب من سباق الرئاسة، صمّم كارسون على موقفه في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» وطالب أن يتنازل المسلم عن تعاليم الإسلام إذا ما أراد أن يترشح لمنصب رئيس جمهورية الولايات المتحدة.
تصريحات كارسون، تتناقض في الواقع، مع نصوص الدستور الأميركي الذي ينصّ صراحة على حرية العقيدة ولا يضع شروطًا تتعلق بالدين لتولي المناصب العامة. ولذا، تعرّض كارسون لتهم التعصّب والعداء للإسلام، كما أدانت عدة منظمات مواقفه المعلنة واعتبرتها مسيئة إلى ثلاثة ملايين مسلم من المقيمين بالولايات المتحدة كمواطنين أو كمقيمين لهم وضع قانوني دائم.
* يدّعي أنه ضد «الدولة الدينية»
غير أن كارسون (64 سنة)، وهو جرّاح أعصاب يتحدّر من أصول أفريقية، أصرّ على كلامه الاستفزازي، وبدلاً من الاعتذار عما قاله، أعاد التشديد على أنه لا يؤيّد تولّي مسلم رئاسة الولايات المتحدة بحجة أنه «لا يريد دولة ثيوقراطية». ومن ثم، تابع «سيكون لدي مشكلة مع أي شخص يعتنق تعاليم الإسلام ولا يكون على استعداد لرفض الشريعة لكي يلتزم فقط بالدستور الأميركي والقيم الأميركية»، قبل أن يستدرك فيقول: «إذا كان هناك شخص لديه خلفية إسلامية، لكنه مستعد للتخلّي عن مبادئ ديانته وتقبّل أسلوب حياتنا، ومستعد أيضًا لأن يقسم على وضع الدستور الأميركي فوق دينه ويحترم مَن ليس له دين، في ذلك الحين سأكون جاهزًا تمامًا لتقديم الدعم له». ثم أضاف موضحًا أنه يتخذ هذا الموقف أيضًا مع أي مرشح مسيحي أو يهودي يؤمن بإقامة دولة دينية، وسيطالبه بالتخلي عن معتقداته والالتزام فقط بالدستور الأميركي دون سواه.
وبعد الضجة التي أثارها كلام كارسون، لوحظ عليه أنه كلّما حاول تلطيف موقفه وشرح أفكاره بمزيد من التفصيل تكرّرت إساءاته، ومنها قوله في لقاء له مع شبكة «إيه بي سي» إنه مستعد لقبول نقاش يقول إن دين اللاجئين من منطقة الشرق الأوسط يشكّل سببًا كافيًا للتنصت على مكالماتهم الهاتفية وفتح تحقيقات حولهم.
وفي ضوء تداعيات تصريحات كارسون المثيرة للجدل، حاول الناطق باسم حملته الانتخابية دوغ واتس توضيح كلامه، فادّعى أن «كارسون يكنّ احترامًا كبيرًا للمجتمع الإسلامي، لكن ثمة فجوة كبيرة بين الإيمان وممارسة الدين وبين الدستور الأميركي والقيم الأميركية»، مذكّرًا بأن «المجتمع الأميركي قائم على الدستور والقانون». ثم أوضح أن بعض المجتمعات التي يقوم الحكم فيها على أسس دينية «تعتمد على مبادئ الحرام والحلال في التشريع والحكم، لكن دولاً أخرى، كالولايات المتحدة، يعتمد الحكم فيها على الدستور وبنوده، وبالتالي، يعتمد الحكم فيها على الفصل بين مبادئ ما هو قانوني ومتفق مع الدستور وما هو غير قانوني وغير دستوري». وشدّد واتس على أن «الدستور الأميركي يكفل حرية الدين وحرية التعبير، ويفصل بين الدين والدولة».
* شعبية رغم الانتقادات
وعلى الرغم من حملة الانتقادات الواسعة التي واجهها كارسون فإن استطلاعات الرأي – كما سبقت الإشارة – ما زالت تشير إلى ارتفاع أسهمه، إذ يحتل المرتبة الثانية في الاستطلاعات الخاصة بالناخبين الجمهوريين الأميركيين المتوقعين بنسبة 20 في المائة متخلفًا بفارق بسيط عن رجل الأعمال وملياردير العقارات ترامب الذي يتمتع بنسبة تأييد تبلغ 21 في المائة. ويتشارك السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا) وسيدة الأعمال كارلي فيورينا، رئيسة شركة هيوليت باكارد السابقة، في المركز الثالث بنسبة 11 في المائة، يليهما جيب بوش، نجل الرئيس جورج بوش الأب وشقيق الرئيس جورج بوش الابن والحاكم السابق لولاية فلوريدا بنسبة 7 في المائة، ثم يأتي السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس) بنسبة 5 في المائة، أما بقية المرشحين الجمهوريين فلا تزيد نسب التأييد لهم أكثر من 3 في المائة.
في الواقع من ميزات كارسون، التي تتمتع على ما يبدو بشعبية كبيرة لدى الناخبين، تمكنه من شرح القضايا المعقّدة بأسلوب مبسّط. ويقول مؤيدوه إن لديه قدرة فائقة على إثارة الإعجاب بأفكاره الفلسفية والبراغماتية التي تتراوح من شرح خططه حول الهجرة والإنفاق الحكومي والضرائب وتشجيع الصناعات الصغيرة إلى غيرها من القضايا التي تشغل بال الناخب الأميركي العادي. وحسب المسؤولين في حملته الانتخابية فإن حجم التبرعات التي حصل عليها كارسون حتى الآن بلغ 20 مليون دولار، وهو أكبر حجم للتبرّعات بين كل التبرعات التي حصل عليها المرشحون الجمهوريون لتاريخه.
والجدير بالذكر أن عنصر المال عنصر حيوي وحاسم في الحملات الانتخابية بالولايات المتحدة، وهذا الزخم المالي أعطى حملة كارسون القدرة على البقاء في السباق لمدة أطول ممّا توقع له المراقبون. وحاليًا، يبحث خبراء في الاستراتيجيات الانتخابية داخل أروقة الحزب الجمهوري ما إذا كان كارسون سيستطيع جمع مزيد من القوة المالية للذهاب أبعد وشن جولات أكثر حسمًا للفوز بترشيح الحزب.
* بطاقة هوية
ولد بنيامين «بن» سولومون كارسون في مدينة ديترويت، كبرى مدن ولاية ميتشيغان، في 10 سبتمبر (أيلول) 1951، في بيئة أفرو - أميركية (سوداء) فقيرة. وكانت قصة حياته مليئة بالماسي، إذ انفصل والداه عندما كان في الثامنة من عمره وتولت والدته رعايته بمفردها مع أخيه الأكبر كيرتيس. وفي ظل ضيق العيش كانت والدته تزاول عملين أو ثلاثة لتوفير متطلبات الحياة، وعملت خادمةً لفترات طويلة من حياتها. واعتمدت في كثير من الفترات على المعونات التي تقدم للفقراء.
أيضًا عانى «بن» الصغير في مراحل تعليمه الأولى إذ كانت علاماته المدرسية ضعيفة ما جعله مثار سخرية زملائه الذين لقبوه بـ«التلميذ الغبي»، ولقد أثّر هذا الأمر في الصغير كثيرًا فصار سريع الانفعال والغضب وسهل الاستفزاز. ويشير كتاب «الأيدي الموهوبة» Gifted Hands، الذي يروي سيرة حياة كارسون إلى أن غضبه كان يترجم إلى سلوك عنيف وقد أصاب زميل له بجروح في الرأس بعد نزاع على خزانة. كذلك اشتبك مع زميل آخر وطعنه بسكين بعد جدل حول اختيار محطات الإذاعة. ولكنه لاحقًا تعلم السيطرة على غضبه ووجه طاقة الغضب إلى طاقة إيجابية لتغيير وضعه الاجتماعي.
من ناحية ثانية، رغم انشغال والدته بعملها المضني وجهلها القراءة والكتابة فإنها دفعت ابنيها إلى القراءة، وكان تأثيرها على حياتهما كبيرًا. ثم إنها حددت لولديها جدولاً قاسيًا يقضي بالامتناع عن اللعب أو مشاهدة التلفزيون، ويشمل قراءة كتابين كل أسبوع مع تقديمهما لها ملخصًا لما قرآه. وكانت الأم الدؤوبة توهم ابنيها بقراءة تلك الملخصات وتتظاهر بمراجعتها بعناية فائقة مع أنها كانت أمّيّة لا تجيد القراءة والكتابة.
عن تلك الفترة يروي كارسون أنه استاء في البداية من هذا النظام الصارم الذي كان يلزمه بالبقاء في البيت للقراءة، بينما يلعب أترابه كما يحلو لهم، لكنه بعد بضعة أسابيع أخذ يستمتع بالقراءة، وبما أن العائلة كانت فقيرة ما كانت لديه أصلاً الكثير من الفرص للذهاب إلى أي مكان، لكنه بين أغلفة الكتب كان بمقدوره الذهاب إلى أي مكان يحمله إليه خياله. وهكذا، ترسخ عنده التطلع، بل النهم للمعرفة.
هذا الجدول القاسي في القراءة والتهام الكتب دفع بن كارسون من أسفل السلم الاجتماعي والمالي إلى أعلى الدرجات العملية والمكانة الاجتماعية والسياسية الرفيعة التي هو فيها الآن، حوّلت نهم القراءة والاطلاع «التلميذ الغبي» إلى أحد ألمع جراحي طب الأعصاب في العالم.
* مشوار علمي ومهني مبهر
لقد تخرّج بن بتفوق (مرتبة الشرف) من المدرسة الثانوية، وكان يطمح لدراسة الطب، لكن ظروف أسرته المالية لم تكن تسمح بالتحاقه بكلية الطب، كما كانت مدينة ديترويت، حيث يعيش، تعاني من الانكماش الاقتصادي وقلة فرص العمل. مع هذا ظل كارسون مصمّمًا على تحقيق هدفه، وحقًا حصل على عمل وعلى منحة دراسية للدراسة في جامعة ييل العريقة وحيث تخرّج حاصلاً منها على درجة البكالوريوس في علم النفس عام 1973، ومن ثم التحق بكلية الطب بجامعة ميتشيغان، وتخرج فيها بدكتوراه الطب والجراحة، وتخصص في طب الأعصاب.
وعام 1975 تزوج كارسون من كاندي روستن التي كان قد التقى بها في جامعة ييل. وبعد حصوله على شهادته الطبية انتقل مع زوجته إلى مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، قرب العاصمة واشنطن، والتحق بجامعة جونز هوبكنز الشهيرة بمركزها الطبي ذي السمعة العالمية عام 1977. وعام 1983 سافر إلى أستراليا للعمل لمدة سنة، عاد بعدها إلى جونز هوبكنز عام 1984. وبحلول عام 1985 أصبح كارسون مديرًا لقسم جراحة الدماغ والأعصاب للأطفال وهو لا يزال في الثالثة والثلاثين من عمره. وشارك كارسون في إجراء عمليات ناجحة لفصل التوائم الملتصقة في ألمانيا وجنوب أفريقيا وزامبيا وسنغافورة. وبسبب تفانيه في العمل وإنجازه الكثير من الاكتشافات الطبية، حصل على أكثر من 50 درجة دكتوراه فخرية وأصبح عضوًا في الكثير من الجمعيات الطبية والمجلس العلمية، وجذبت قصته الأضواء العامة لطفل من عائلة فقيرة صعد سلم النجاح بتفوق باهر. وعام 2001 اختارته مجلة «تايم» في قائمة «أفضل 20 طبيبًا في الولايات المتحدة»، كما حصل على الكثير من جوائز التكريم.
وفي عام 2012، نشر كارسون كتاب «أميركا الجميلة: إعادة اكتشاف ما الذي يجعل هذه الأمة عظيمة»، وجذب الكتاب الكثير من الانتباه بعد خطاب انتقد خلاله الرئيس باراك أوباما لموقفه من الضرائب والرعاية الصحية.
ثم عام 2014 نشر كارسون كتابه «أمة واحدة: ماذا بمقدورنا جميعًا فعله لإنقاذ مستقبل أميركا». وعلى الأثر حظي بشعبية واسعة في أوساط المحافظين – وبالذات اليمين الاقتصادي – داخل الحزب الجمهوري، وكذلك في وسائل الإعلام السياسية لآرائه في القضايا الاجتماعية والسياسية.
اليوم، يعتبر بن كارسون أحد أبرز جرّاحي طب الأعصاب في العالم، ويعود إليه الفضل في أول عملية جراحية ناجحة لفصل توأمين ملتصقي الرأس. وعلى إنجازاته الطبية منحه الرئيس جورج بوش (الابن) «الوسام الرئاسي للحرية» في عام 2009 وهو أعلى تكريم تمنحه الحكومة الأميركية للمدنيين. وفي عام 2010 تم انتخابه لعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم. وعام 2014 وضعته مؤسسة غالوب في قائمة الرجال الأكثر إثارة للإعجاب في العالم.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.