قالوا في رحيل صاحب الضحكة والفكرة علي سالم

قالوا في رحيل صاحب الضحكة والفكرة علي سالم
TT

قالوا في رحيل صاحب الضحكة والفكرة علي سالم

قالوا في رحيل صاحب الضحكة والفكرة علي سالم

عبّر عدد من الكتاب والمثقفين عن مدى حزنهم العميق لوفاة علي سالم، الذي رحل أول من أمس.
وأبدى هؤلاء الكتاب أسفهم لرحيل هذا الكاتب، الذي أسهم بعطائه في الحياة الأدبية والفكرية العربية، وبنى جيلاً من المسرحيين والفنانين في سائر العالم العربي.
وقال الدكتور مأمون فندي فيه، إن علي سالم، وعلى الرغم من أنه «أبهج ملايين العرب بـ(مدرسة المشاغبين)، فإنه كان كاتبًا وقارئًا أعمق بكثير مما تصوره من لا يعرفونه»، فيما بيّن مشاري الذايدي الذي يتقاسم معه الكتابة في الصفحة «أولى 2» أنه من «الصعب أن يتكرر نموذجه، جمع إلى عمق الثقافة، وتنوعها من الميراث المصري الشعبي إلى التراث الإغريقي والثقافة الغربية الحديثة»، بينما قال عنه إميل أمين إنه «عاش حياة فكرية مثيرة للجدل، مليئة بالحراك الفكري».
وقرّظه راجح الخوري قائلاً: «علي سالم ارتحل، لكنه لن يغيب قط من الفضاء الفكري والمسرحي».
أما عادل درويش، فقال عنه: «كان كاتبًا صحافيًا ممتازًا لديه القدرة على كتابة لغة هجائية لا مثيل لها».
ورثاه فهد الشقيران قائلا: «رحل وجه مصري كبير، علي سالم هو الضحكة والفكرة هو الأدب والصحافة والمسرح».

* إلى لقاء أيها الدمياطي الطيب

* مأمون فندي

* عرفت الأستاذ علي سالم، رحمه الله، شخصًا وكاتبًا، وعلى الرغم من أنه أبهج ملايين العرب بـ«مدرسة المشاغبين»، فإنه كان كاتبًا وقارئًا أعمق بكثير مما تصوره من لا يعرفونه، عرفته مصر في عهد سيطرة الغوغاء على عالم الكتابة على أنه كاتب التطبيع، على الرغم من أنه ككل المبدعين كان يؤمن بالسلام كقيمة إنسانية بشكل رومانسي متوقع من المبدعين ومن الأرواح العالية. علي سالم لم يعبأ بتلك الصورة التي رسمتها له الجماعات المتطرفة، ولم تهز إيمانه بالدولة المصرية بحدودها التي نعرفها، كان يحب العرب، ولكنه يعرف قيمة عالم الدول، كانت العروبة بالنسبة له وعاء حضاريًا يشمل الجميع على اختلافاتهم، ولكنه كان يرى السعودي سعوديًا، والليبي ليبيًا، والمغربي مغربيًا، لم تختلط عليه الأمور، كان كاتبًا حديثًا والدولة من عالم الحداثة.
كان علي سالم روح طفل على المستوى الشخصي، وكان يحب أن نراه دمياطيًا؛ أي من مدينة دمياط، التي كانت تشتهر في الوعي الجمعي المصري بالتقتير، ومع ذلك كان علي سالم كريم الروح، وطيب المعشر، ويحسن تقدير الناس. كان يكن للمملكة العربية السعودية كل الحب.
لقي الراحل عناية في مستشفيات المملكة برعاية أمير نبيل يحب ألا يذكر اسمه في تلك الأمور، وكان يتحدث بحب شديد وهو في القاهرة بعد العودة من رحلة العلاج، وكيف أن الدواء كان يصله بالطائرة من الرياض. لم يكن علي سالم يبخل بذكر حق من أكرموه، لم يكن مدعيًا ولا منافقًا، كان واضحًا وضوح الشمس، وظني أن هذه الأرواح تلقى ربها في أوقات مباركة عجيبة، فكما مات عمر الشريف الذي ظنه البعض مشاغبًا، في أواخر رمضان، ها هو ذا علي سالم يموت في شهر الحج، فمن نحن كي نحكم على عباد الله؟ رحم الله علي سالم المبدع والمسالم، وذلك المصري الطيب الذي أبهج ملايين المصريين بمسرحه الراقي، الذي كان متسامحًا ومتصالحًا مع الجميع، حتى من أساءوا الظن بوطنيته، ليت كل المصريين لديهم من وطنية علي سالم.
إلى لقاء أيها الدمياطي الطيب، فـ«كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام».

* ارقد في سلام

عادل درويش

بقلب حزين أقول لصديق جيد منذ أكثر من 40 عامًا: ارقد في سلام، فكان كاتبًا مسرحيًا عبقريًا ومفكرًا في التقدم والسلام.. إنه صديقي العزيز منذ فترة طويلة الكاتب المسرحي علي سالم (1936 - 2015).
نالت الكوميديا الساخرة التي كتبها من الساسة، والنظم السياسية التي لم تقدم شيئًا جيدًا سوى شعارات جذابة. أنتجت مسرحياته في البداية في لندن في موسم 1975 - 1976 (في مسرح أكاديمية لندن للموسيقى والفنون المسرحية، ومسرح أكاديمية لندن للدراما والموسيقى، ومسرح كينجز هيد، وغيرها)، جنبًا إلى جنب مع مهرجان إدنبرة عام 1977 و1979 و1980.
كان يتناول الموضوعات ويستمدها أحيانًا من الأساطير اليونانية، مثلما ورد في مسرحية «كوميديا أوديب»، عندما استخدم التراجيديا اليونانية في محيط مصر القديمة التي تتضمن أبو الهول ولغز الأهرامات لنقد عهد الراحل جمال عبد الناصر.
أنتجت «وصمة عار» في مسرح أكاديمية لندن للدراما والموسيقى في عام 1979 كمسرحية مكونة من فصلين (الفصل الأول «الكافتيريا»، عبارة عن كابوس درامي لكاتب مسرحي يقول الحقيقة، والفصل الثاني «الكاتب والمتسول»، عبارة عن كوميديا سوداء تسخر من وسائل الإعلام التي تبيع روحها للديكتاتور).
كان كاتبًا صحافيًا ممتازًا لديه القدرة على كتابة لغة هجائية لا مثيل لها باللغة العربية الفصحى واللهجة العامية المصرية (وكتب كل مسرحياته باللهجة المصرية التي تختلف نوعًا ما عن اللغة العربية الكلاسيكية الموجودة في الكتب والصحف).
حصل سالم على عدة جوائز لمساهمته في المسرح الحديث، ولهجائه، ولمساهمته في نشر التفاهم بين الناس.
ارقد في سلام يا أميرًا بارعًا على كلماتك المضحكة.

علي سالم ترى مصر مجسَّدة به

فهد الشقيران

في الثالث عشر من يناير (كانون الثاني) المقبل، يكمل علي سالم عامه الثمانين، لكنه رحل قبل ذلك، وقد أسهم بشكلٍ غير مسبوق في تربية المسرح وتنمية طاقاته ومواهبه، وأراد للضحكة أن تكون جزءًا من الفكرة، وكتبه الساخرة مليئة بالدلالات الفكرية والسياسية، حتى وهو يكتب عن أحداث تجري للناس عمومًا كما في كتابه «اعترافات زوج».
التقيناه مع أصدقاء سعوديين في دبي في الثامن من يناير عام 2011، كان مهمومًا بأمر مصر، ووعيه بالمتطرفين وجماعة الإخوان كان ناصعًا لا يتزحزح، لم ينزلق بخطابات أولوية الشعارات الثورية والحريات الواهمة على حساب قيمة الإنسان والحفاظ على دنيويته الأصلية، كان يشكو من تعب في القلب، غير أنه سرعان ما حوّل كل تعبه إلى فكاهة في تلك الجلسة، سخّر اطلاعه الفلسفي والأدبي واستيعابه لأساطير الأمم وحكاياتها وطرائفها في مسرحياته، ولزاويته شبه اليومية في هذه الجريدة، وعلى قدر معرفته بدور «مدرسة المشاغبين» في شهرته، غير أنه ملّ من الحديث عنها، وما أن يسأله أحد عنها حتى يغيّر الموضوع بنكتة أو عبارة ساخرة، لأن فصلاً منها حذف، ويعتبر المسرحية بشكلها الذي عرضت فيه ليست مفهومة، غير أنها اشتهرت ولاقت قبولاًً كبيرًا.
في السبعينات، ساهم في تدريب شباب سعوديين على المسرح، ويذكر أن من بين من كان يدربهم: أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وداود الشريان. كان يستشهد بعلماء النفس كثيرًا، وإذا ذكر مصر ومشكلاتها، سرعان ما يعود إلى فيلسوفه المفضّل مكيافيللي، ويكاد يحفظ وبدقة متناهية وبشرح ساخر فصيح كتاب «الأمير»، فلا يملّ من ترداد اسم مكيافيللي، ولا يشعر بالإرهاق وهو يكثر من الرجوع إليه لحلّ معضلة أو فحص كارثة. رحل وجه مصري كبير، علي سالم هو الضحكة والفكرة هو الأدب والصحافة والمسرح.. هو صفات مصر وقد تجسّدت بشخص.

مثله يفتقد حقًا

مشاري الذايدي

عرفت الأستاذ بل الصديق علي سالم منذ عقد من السنين، ومنذ عرفته وهو حلو المعشر، حاضر البديهة، فريد التعليق، وبعد هذا كله دومًا حين تتأمل في الزاوية التي التقط منها الحديث، تجده متفردًا في رؤيته.
علي سالم، أو أبو علوة، كما كان يداعب نفسه، صعب أن يتكرر نموذجه، جمع إلى عمق الثقافة، وتنوعها من الميراث المصري الشعبي إلى التراث الإغريقي والثقافة الغربية الحديثة، والولع الخاص بأستاذ علم النفس فرويد، وصاحب «الأمير» مكيافيلي، قوة الجنان، وثبات الرأي، وعدم المبالاة بضجيج الصاخبين.
الحق أن الشجاعة التي تميز بها علي سالم في كل محطات حياته هي العنوان الأبرز في شخصيته، وليس العنوان الوحيد.
الرجل كان شديد الثبات على رأيه الذي تمخض له عن فحص وتمحيص وتأمل، ولا تعنيه حملات التشويه والهجاء، وهو قد جربها كثيرًا في وسط الثقافة والصحافة في مصر، وكان ذلك يسبب له ألمًا خاصًا، حتى وإن سخر منه، لأن «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة».
مع ذلك لم يكن علي سالم منغلقًا أو متعنتًا في رأيه، بل يفرح بالمعلومة الجديدة، ويهش لها، ويرددها بين أصدقائه، وهو شخصية منفتحة على المجتمعات الأخرى كثيرًا ويحب التجريب كثيرًا، ولم تكن شيخوخته تؤثر عليه إلا في عوارض الأجساد، لا جواهر الأرواح.
أحب الحياة كثيرًا، وكانت فكرة محبة الحياة هي سلاحه الأمضى في مكافحة ثقافة الموت والتطرف.. كان أكثر إيمانًا بهذه الفكرة وهو يعلم أن أيامه معدودة مع ساعة المرض الرملية.
علي سالم.. مثله يفتقد حقًا وصدقًا.

رحيل المشاغب العقلاني

إميل أمين

نجيء الحياة على موعد وتبقى المنايا لنا موعدا

يرحل الأستاذ علي سالم بعد أن عاش حياة فكرية مثيرة للجدل، مليئة بالحراك الفكري، حتى وإن اتفق معه فصيل وافترق عنه فصيل آخر.
كنا بعد صغارًا ولم نكن نعرف من هو مؤلف «مدرسة المشاغبين»، التي اعتبرها أصحاب الرؤى الفكرية السطحية، أحد مداخل انهيار العملية التعليمية في مصر، انطلاقًا من القول إنها روجت للاستهتار وللانفلات في داخل قاعة الدرس، ولم يكلف هذا الفصيل من النقاد أنفسهم الغوص إلى ما هو أعمق، والنظر إلى ما وراء الكوميديا البادية في فصول المسرحية الأولى، من مدرسة تربوية حقيقية تسعى إلى خلق نوع من أنواع الألفة بين المعلم والطالب، ألفة تعود بالمدرس إلى وصفة «المعلم» بكل ما تعنيها من ملامح الأبوة الصادقة، والصداقة المستنيرة؛ مما جعل الطلاب الفاشلين ناجحين فيما بعد.. ولاحقًا عرفنا من كان وراء هذا الطرح التربوي المثير المشاغب للعقل.
حياة علي سالم تكشف عن عمق مأساة التقسيم المانوي القائم في عالمنا العربي حتى الساعة.. من لا يسير على نهجنا الفكري هو بالضرورة عدو لنا، مآله الإبعاد والإقصاء، وكأن ثقافة الاختلاف غير واردة في منهاج تفكيرنا أو واردة في مخيالنا العقلاني.. رحمه الله.

الذي لا يرحل

راجح الخوري

ظل علي سالم الذي ارتحل ولن يغيب قط من الفضاء الفكري والمسرحي، يفاخر طيلة حياته الحافلة بالعصامية والمعاناة بأنه «عصامي» أو الرجل الذي صنع نفسه بنفسه، ومن الصفر، وجعل له تاجًا من المتابعين والمعجبين، الذين أغنوه روحيًا إلى درجة أنه قال لقناة «on tv» إنه يشعر عادة بأنه لا يحتاج إلى تكريم، لأنه حصل عليه من القراء ومشاهدي مسرحياته الكثيرة «وإن كان لا بد من تكريم فلا مانع من دفتر شيكات».. هكذا بقفلة مازحة.
لا أغالي إذا قلت إن مسرحيته الجارفة «مدرسة المشاغبين» سبقت وتفوقت على أغنية «أناذر بريك إن ذا وول» التي غنتها فرقة «بينك فلويد» وتحولت فيلمًا جارفًا أيضًا، لكن هذا المبدع الذي ألف 40 مسرحية و15 كتابًا ورواية، كان منذ بدايته الطفولية تلميذًا متمرسًا في أتون الحياة الصعبة التي ستصقله، وتجعل منه تبرًا في صيغة فريدة من الفكر والحبر والضوء.
وإذا كان كبير إخوته الثمانية لوالد عسكري، ولن يتمكن من أن يكمل دراسته، فإنه ذهب إلى التفوق، أولم يقل إنه في خلال عمله يوم كان طفلاً ككمسري تعلم مسؤولية أن يكون المرء سائقًا، وما الفرق بين من يقود السيارة ومن يقود الدولة؟
غير أنه ملك دائمًا تعريفًا فذًا للكوميديا كفلسفة عندما كان يقول إن الفكاهة دليل يقود لسبر غور الجدية في المجتمع، وإن غياب الفكاهة من المجتمع دليل صارخ على افتقاره إلى الجدية، وهكذا يرتحل زميلنا المشرق في «الشرق الأوسط»، ولكن ضوءه يبقى مصباحًا من الحبور الذي يذرف كثيرًا من الدمع.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)