دورة {منتدى الفن العالمي} تبدأ في الدوحة وتنتهي في «آرت دبي»

يلقي مزيدا من الضوء على إسهامات منطقة الخليج

خلال إحدى جلسات العام الماضي في آرت دبي
خلال إحدى جلسات العام الماضي في آرت دبي
TT

دورة {منتدى الفن العالمي} تبدأ في الدوحة وتنتهي في «آرت دبي»

خلال إحدى جلسات العام الماضي في آرت دبي
خلال إحدى جلسات العام الماضي في آرت دبي

أطلق معرض «آرت دبي» «منتدى الفن العالمي» مع أولى دوراته عام 2007. وفي ضوء حضور اللاعبين المؤثرين في الفن العالمي أسبوعا من النقاشات، صار الملتقى واحدا من أهم المنابر السنوية التي تناقش مستجدات الفن المعاصر، مع التركيز على القضايا السائدة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا وربطها بالشعوب والمؤسسات حول العالم.
وفي الوقت الراهن، طرأت تغييرات طفيفة على شكل منتدى الفن العالمي هذا العام.
ويشرح مفوض المنتدى، شومون باسار، الكاتب والمحرر الذي يتخذ من برلين مقرا له، هذا الأمر قائلا «لم يعد المنتدى يهتم بالقضايا الفنية فقط، ففي الحقيقة أنه غالبا ما يخلو بصورة تلقائية من المناقشات بشأن سوق الفن، وهو ما قد يبدو غريبا إذا أخذنا في الاعتبار ارتباطنا الأخوي بمعرض (آرت دبي)، الذي يعد معرضا فنيا بالأساس». ويسعى باسار، الذي عمل مديرا للمنتدى قبل أن يشغل منصب المفوض، لوجود استقلال تصوري بشكل أكبر في نسخة هذا العام.
وتنعقد فعاليات منتدى الفن العالمي على مدار أسبوع واحد، حيث يبدأ في «مركز كتارا الفني» في الدوحة خلال يومي 15 و16 مارس (آذار)، ثم تنتقل الفعاليات إلى معرض «آرت دبي» في الأيام المتبقية من 19 إلى 21 مارس. ويتركز موضوع هذا العام الذي جاء تحت عنوان «التاريخ.. في غضون ذلك» على جدول زمني تخيلي لنقاط التحول المحورية في التاريخ مثل «العقود أو السنوات أو الأيام أو الدقائق أو حتى الثواني» التي انطوت على تحولات كان لها تأثير في فهم العالم. وتتضمن المواضيع، التي يجري مناقشتها خلال المعرض، إلقاء نظرة عالمية على فترة سبعينات القرن الماضي والحقب الفنية المختلفة في تاريخ إيران، بالإضافة إلى مناقشة «مقدمة ابن خلدون». وفضلا عن ذلك، يشتمل المنتدى على مناقشات حية وعروض تقديمية ومناظرات، بالإضافة إلى المشاريع والأبحاث. وشارك في إخراج برنامج 2014 الفنانة المستقلة والمشرفة آلاء يونس، التي تتخذ من عمان مقرا لها، والكاتب والمترجم والمدير المساعد بدار المأمون في مراكش عمر برادة. وتلقي دورة هذا العام مزيدا من الضوء على تاريخ الفن في منطقة الخليج.
يقول عمر برادة، الذي يرتبط عمله أيضا بعلم الاشتقاق وترجمة النصوص التاريخية، «إن تاريخ منطقة الخليج ليس معروفا على نطاق واسع، حيث إن معظم من لا ينتمون إلى تلك المنطقة لا يؤمنون حتى بأنها لديها تاريخ من الفن. ويرون أن هذه المنطقة هي مجرد حلم خيالي ظهر في الصحراء منذ ثلاثة أو أربعة عقود من الزمان. ومن ثم فمن المهم النظر إلى تاريخ الجانب المشرق بمنطقة الخليج أو ما يطلق عليه في الكويت: فترة الثقة التي تعد من بين المجالات التي تركز عليها الأنشطة البحثية، التي تجريها آلاء يونس».
وقامت يونس سابقا بالإشراف على «الأعمال الوطنية» في أول جناح خاص بالكويت في «بينالي فينيسيا» في عام 2013. وتقول يونس «إنني مفتونة بروح التجربة السائدة في الكويت في سبعينات القرن الماضي، حيث كانت فترة رائعة ومشجعة». وتركز يونس اهتماماتها - خلال هذا العقد من الزمان في دولة الكويت -على مجالات الفن المعماري والتعليم والمسرح والفن. تقول يونس «كانت هناك القليل من المشاريع المعمارية الرائعة التي جرى تنفيذها في سبعينات القرن الماضي، بما في ذلك مطار الكويت، الذي صممه المعماري الشهير كنزو تانغه، ومبنى البرلمان، الذي صممه جورن أوتزون، فضلا عن المباني الأخرى التي صممها المعماري المصري الشهير حسن فتحي. بيد أننا نحاول النظر إلى هذا الأمر بشكل منطقي وعلمي وعلاقة ذلك بالأماكن الأخرى والأزمنة المختلفة. فبدلا من مجرد الشعور بالاهتمام والإثارة، نريد أن نعرف ماذا يعني ذلك؟ وهل ما كان يعنيه أنه كان هناك تطوير للمسرح خلال سبعينات القرن الماضي عندما كان يجري تشكيل فرق مسرحية جديدة أصغر تقوم بالتمثيل والكتابة؟».
ويضم البرنامج مجموعة متنوعة من الضيوف الذين يتحدثون عن المنطقة من خلال أكثر من منظور. ومن بين المشاركين في البرنامج، نجد الكاتب المسرحي والمخرج الكويتي سليمان البسام الذي سيقدم مسرحيته التي أنتجها في عام 2012 بعنوان «ودار الفلك». وبالإضافة إلى ذلك، تشارك فرح النقيب، أستاذة التاريخ المساعد ومديرة مركز الخليج للدراسات بالجامعة الأميركية بالكويت، بعرض نتائج بحثها عن الفن المعماري في الكويت. وستناقش إحدى الندوات التاريخ المشرق لمنطقة الخليج، حيث ستحضر بثينة كاظم، الحائزة منحة «فولبرايت» في تخصص ثقافة الإعلام والاتصالات من جامعة نيويورك - أبوظبي، وكذلك فراوكه هيرد - باي، المؤرخة والباحثة في مجال السياسة والتي تركز أبحاثها على دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعمل بها منذ أربعين عاما. كما ستتحدث كاضم وهيرد - باي عن فترات التحول التاريخي التي تشهد زوال عهد وصعود آخر.
وفي ندوة أخرى، ستناقش أدينا همبل، مهندسة معمارية وأستاذة مساعدة في كلية الفنون والصناعات الإبداعية بجامعة زايد والتي ترأس حاليا أبحاث الجناح الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة في «بينالي البندقية للعمارة» (2014)، وتود رايس، مهندس معماري وباحث وكاتب في شؤون منطقة الخليج وأستاذ مساعد زائر في مدرسة العمارة بجامعة ييل الأميركية، سيناقش الباحثان الحداثة العمرانية الحضرية، التي شهدتها دبي في سبعينات القرن العشرين. وستلقي الندوة مزيدا من الضوء عن السبب وراء ضعف تأثير تلك الفترة من التحضر والمدنية في وجدان الخليجيين، حتى إنها ذهبت طي النسيان.
ويشرح باسار السبب وراء تركيز الاهتمام على منطقة الخليج خلال برنامج هذا العام بقوله «أصبح من الواضح للكثيرين أن خطى التنمية في كل من الدوحة ودبي أصبحت تسير بسرعة كبيرة، مما يجعل عشرة أعوام ماضية تبدو وكأنها قرن كامل من الزمان. وتبدو الفترات الزمنية والمعلومات المتاحة عنها مكثفة بشدة ومشوهة في أحيان أخرى، بينما لا تتضافر الجهود، في الوقت ذاته، لتعويض المعلومات التاريخية المفقودة عن فترات زمنية معينة».
غير أن الطفرة الحالية التي تشهدها منطقة الخليج فيما يخص تطوير المتاحف وزيادة الاهتمام بقضية استرداد والمحافظة على الوثائق التاريخية تبدو دليلا على حاجة المؤسسات والحكومات لمعالجة ما يبدو نقصا في المواد التعليمية الخاصة بالتاريخ.
لكن يبدو واضحا أن المناقشات التي ستجري خلال منتدى الفن العالمي ستتطرق إلى مواضيع تتجاوز منطقة الخليج.
وبشكل عام، أصبح المنتدى رحلة عبر الحقب التاريخية المعروفة وغير المعروفة، التي تشهد تغييرات حاسمة ولحظات تحول فارقة في حياة الأمم. يقول عمر برادة «تسمح الطبيعة الحيوية للمنتدى بمناقشة الموضوع من زوايا مختلفة في محاولة لجعل مجالات البحث المختلفة تتلاقى وتتفاعل مع بعضها البعض. بعض المناقشات ستتناول العصور الوسطى، بينما ستركز مناقشات أخرى على فترات تاريخية معاصرة أو حتى على المستقبل».
سيكون منتدى الفن العالمي هذا العام مفتوحا ومتاحا للجميع في كل من الدوحة ودبي. كما سيجري ترجمة الندوات فوريا إلى اللغات العربية والإنجليزية. وسيجري بث تلك الندوات مباشرة على الإنترنت بفضل دعم جريدة «إبراز» الرقمية البصرية ومؤسسة كمال الأزعر، الشريك الرقمي لمنتدى الفن العالمي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)