اكتساب صديق جديد مثل قراءة رواية جديدة

كتاب أميركي يستعرض مفهوم الصداقة من هوميروس إلى عصر الإنترنت

اكتساب صديق جديد مثل قراءة رواية جديدة
TT

اكتساب صديق جديد مثل قراءة رواية جديدة

اكتساب صديق جديد مثل قراءة رواية جديدة

هل يساعد الإنترنت على نمو الصداقات بين الناس؟ كيف تتأسس صداقة بين شخص في الصين، وشخص في نيجريا؟ هل غير الإنترنت معنى الصداقة؟
يجيب عن هذه الأسئلة، وغيرها، في كتاب «شيء عظيم: الصداقة من الإلياذة إلى الإنترنت»، د. غريغوري جوسدانيس، أستاذ الأدب الكلاسيكي في جامعة أوهايو. وهو مؤلف كتب أخرى. منها: «الكارهون للروايات: دفاعًا عن الأدب» و«التحديث والثقافة الراكدة» و«التاريخ والإثارة».
يبدأ الكتاب بالجملة الآتية: «صار عصرنا هذا عصر (شيرينغ/ مشاركة)، و(لايك/ يحب) و(أنلايك/ لا يحب) و(كومنت/ تعليق) بين (أصدقاء) لا يرون بعضهم، أو لم يروا بعضهم، أو لن يروا بعضهم».
وأضاف: «كانت الصداقة ودًا وحبًا، وهمسًا ولمسًا، ومساعدة وطلب مساعدة. لكن، في الوقت الحاضر، صارت الصداقة سريعة وجاهزة، غير مرئية ومن مكان بعيد. تسقط مثل شعاع ضوء من السماء. صارت خليطًا من ود، وتكنولوجيا، وأرباح بمليارات الدولارات لصالح شركات الصداقة التي لا تقاسم الأصدقاء أرباحهم. بل، أحيانًا، تطلب منهم أجرًا مقابل كل صديق جديد».
ونعرف من الكتاب أن البريطانيين في القرن الثامن عشر كانوا يتداولون قصيدة اسمها «واندرار» (المتجول). تقول: «إنه يعرف من يواسي. إنه يعرف من يشارك. من منا محروم من صديق، وعزيز؟». وكانت القصيدة تخاطب الذين يتخذون الكلاب أصدقاء، أو الذين يصادقون بسبب مال أو قوة أو سلطان.
ينتقد كتاب «الصداقة» الإنترنت. لكنه، قبل ذلك، ينتقد الصداقة نفسها لأسباب كثيرة منها، أن غموض الصداقة يقلل من أهميتها، وسهولة الدخول فيها، ثم الخروج منها.
أما صداقة الإنترنت، فهي تتم من مسافات بعيدة، ودون نظرة، أو لمسة، وقد يزيد متوسط عدد أصدقاء الشخص الواحد عن مائة (حسب استطلاع إلكتروني عن أصدقاء «فيسبوك»، بل إن بعض مواقع التواصل الاجتماعي تضطر لأن تضع حدًا أقصى لعدد «الأصدقاء»، وفي هذا مضيعة للوقت، كما يقول الكاتب.
«مضيعة للوقت؟ نعم، لكنها تبرهن على صدق أصحاب النظريات الطبيعية، التي تقول إن فطرة الإنسان تدفعه ليبحث عن رفيق، أو زميل». ويشير الكتاب إلى كتاب آخر، يقول فيه مؤلفه وهو ماثيو ليبرمان، أستاذ علم نفس، إن رغبة الشخص «الطبيعية» في التواصل مع شخص آخر «أكثر قوة من رغبة الحصول على طعام أو سكن».
ويضيف مؤلف كتاب «الصداقة»: «منحتنا الطبيعة حاسة التقرب نحو الآخر لأننا نخاف من مواجهة الخطر ونحن وحيدان. وثانيًا، إن فضولنا البشري يدفعنا لمعرفة الآخر.. هل هو مثلنا، هل يفكر مثلنا، ويخاف مثلنا».
تبدأ الصداقة طبيعية وسط الأطفال الصغار، الذين يمكن أن تفرقهم الأديان، والألوان، والثقافات، وحتى الأمكنة. يقول: «انظر إلى طفلك عندما تنتقل عائلتك إلى مكان جديد. بينما يتصرف الآباء والأمهات في دبلوماسية، يهرع الصغار للعب مع بعضهم البعض».
ويربط الكتاب أيضًا بين الصداقة والأدب: «هنا وهناك، توجد رغبة، وقدرة، على الإبداع والتخيل. يصير كسب صديق جديد مثل قراءة رواية جديدة. ها أنت تغرق في عقل شخص آخر لم تكن تعرف عنه أي شيء. ها أنت تسأل، وتبحث، وتحقق».
ويشير الكتاب إلى نتيجة بحث نشرته، في عام 2009، صحيفة «نيويورك تايمز» عن «بداية فهم أطباء الصحة العقلية وأطباء الصحة النفسية لأهمية الصداقة في صحة الإنسان. فحسب البحث، لاحظ عدد كبير من أطباء النفس إهمالهم، وإهمال أطباء البدن، لدور الصداقة في هذا المجال». وقال أحدهم: «أعتقد أن دور الصداقة أهم من دور العائلة في المحافظة على الصحة العقلية. في الحقيقة، تسبب العائلة كثيرًا من المشكلات العقلية».
وكان أرسطو، حسب الكتاب، قد عرف الصديق بأنه «النفس الأخرى، وأن الإنجيل دعا إلى صداقة (الآخر، الضعيف، الفقير، الأرملة، اليتيم)»، لكن المؤلف لم يشر إلى القرآن الكريم، وقول الله تعالى: «وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا».
لكن، كانت هناك نظريات تنتقد الصداقة.
في القرن الخامس عشر، كتب ميكافيلي (صاحب نظرية «الغاية تبرر الوسيلة»): «هل أفضل للإنسان أن يخشاه الآخرون؟ أو أن يحبونه؟ قد يريد الإنسان الاثنين. لكن، أفضل أن يخشاه الآخرون».
وفي القرن الثامن عشر، كتب جون لوك (البريطاني صاحب نظرية الحربة والعقلانية): «لا بأس من الصداقة في عهدنا هذا، عهد الحداثة، والتجارة، واكتشاف البحار (كأنه يرى في الصداقة منفعة مادية)».
لكن، يظل الأدب الغربي، والعالمي، غزيرًا بالصداقة من أجل الصداقة، فقد كتب الروائي الأميركي جيمس مارشال، في رواية «جورج ومارثا»، عن وحيدي قرن كانا، في أحراش أفريقيا «صديقين مثاليين».
وكتب زميله ويليام سيغ، في رواية «بورس واموس»، عن فار في داخل سفينة عندما هبت عاصفة أغرقت السفينة، وتطوع فرس بحر، وحمل الفار إلى بر الأمان.
الشعر والصداقة
يركز الكتاب على قصائد الصداقة في الإلياذة (مع قصائد البطولة، والغرام، والآلهة). مثل الآتي:
«تحدث ديوميداس عن الحرب الكبرى. غرس رمحه في عمق الأرض. من أجل الصداقة تحدث.. تحدث قائلاً:
ألا ترون أنكم ضيوفي؟ ألم تأتون إلى هنا من عهود آبائنا؟ لنتحاشى رماح بعضنا البعض. حتى إذا حمي وطيس الحرب. يوجد عدد كبير من الذين أقدر على قتلهم من أهل طروادة. يوجد عدد كبير من الذين قال الإله أن اقتلهم. بالنسبة لكم، يوجد عدد كبير من الذين تقدرون على قتلهم من أهل أخيليا. لكن، لنتبادل رماحنا، ولنتبادل دروعنا. ليعرف الآخرون أننا أصدقاء وضيوف منذ عهود أبائنا».
يعلق الكتاب على هذا الجزء من الإلياذة، ويقول: «في حضارة اليونان القديمة، كانت توجد مؤسسة اسمها «مؤسسة الصداقة». كان اسمها «زينيا»، وهو اسم يوناني قديم يمكن أن يترجم في عالم اليوم إلى كلمة «صداقة».
وهذا مقطع آخر من نفس القصيدة:
«تعالَ إلى هنا يا صديقي. ليعطي كل واحد منا الآخر هدية قيمة. لنجعل الناس في طروادة»، والناس في أخيليا يقولون: «حاربا بعضهما البعض بقلبين يغمرهما الحقد. ثم تعانقا في صداقة أبدية».
ويعلق مؤلف الكتاب: «أين نحن من صداقة المحاربين اليونانيين القدماء؟ صداقة دون (لايك/ أحب)، ودون (أنلايك/ لا أحب)».
شيء عظيم: الصداقة من الإلياذة إلى الإنترنت
المؤلف: غريغوري جوسدانيس
الناشر: مطبعة جامعة برنستون



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟