«بيروت آرت فير» في دورته السادسة وسط العاصمة اللبنانية.. رغم المظاهرات الاحتجاجية

1500 عمل موقعة من 300 فنان.. وطاولات مستديرة للمرة الأولى

عمل لأكسل هوتي
عمل لأكسل هوتي
TT

«بيروت آرت فير» في دورته السادسة وسط العاصمة اللبنانية.. رغم المظاهرات الاحتجاجية

عمل لأكسل هوتي
عمل لأكسل هوتي

للسنة السادسة على التوالي، تعيش بيروت على وقع الفن التشكيلي المعاصر، بأحدث تقليعاته، بفضل «بيروت آرت فير»، الذي يفتح أبوابه أمام عشاق الفن من مساء اليوم وحتى يوم الأحد المقبل، حيث تشارك هذه السنة 51 صالة عرض، تمثل 19 دولة، وسيرى الزوار نحو 1500 عمل موقعة من 300 فنان من المنطقة العربية وأفريقيا وشرق آسيا والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، تتوزع أعمالهم بين الرسم والنحت والتصوير والتصميم والفن الرقمي.
وبدءًا من الثلاثاء الماضي، كان وسط بيروت قد ازدان بالأعمال الفنية الضخمة التي توزعت في أرجائه حيث انتصبت منحوتة للفنان ألفريد بصبوص أمام فندق «لوغريه» مقابل مبنى جريدة «النهار»، وأخرى أمام متجر المصمم اللبناني إيلي صعب، وتوزعت أعمال غيرها منها تجهيزات ومنحوتات ضخمة، داخل أسواق بيروت، ضمن ما بات يعرف باسم معرض «خارج الجدران» تمهيدًا لـ«بيروت آرت فير». ورغم أن المظاهرات والاحتجاجات، كانت قد تسببت في قطع الطريق تمامًا في المكان الرسمي لافتتاح «بيروت آرت ويك» وتحديدًا بالقرب من منحوتة الفنان الراحل بصبوص، إلا أن هذا لم يمنع المنظمين من البدء ببرنامجهم، بعد انفضاض التجمعات.
«بيروت آرت ويك» هو عبارة عن أسبوع للفن في بيروت، ينظّم ضمن برنامج «بيروت آرت فير»، ويتضمن مسارًا في الهواء الطلق تعرض من خلاله أعمال فنّية ضخمة في جميع أنحاء معالم بيروت الرمزية كساحة الشهداء أو أسواق بيروت التجارية أو الزيتونة بأي أو الصيفي أو حتّى هاربور سكوير وأيضا في الشوارع والمتاجر في وسط بيروت التجاري.
ويتضمن المسار الفنّي، هذه السنة 24 تحفة فنيّة تعود ﻟ23 فنانا.
وبدءًا من مساء اليوم، ومع افتتاح «بيروت آرت فير» في «مركز بيروت للمعارض» (بيال) بمقدور الزوار، اكتشاف ما تم اختياره لهذا العام، إذ هناك أكثر من عشرين صالة عرض دولية جديدة ولبنانية تشارك للمرة الأولى هذه السنة في المعرض وهي غاليري كباتوس (اليونان)، ومن فرنسا غاليري أوديل أوزمان، وغاليري ماميا بريتيسك، وغاليري ا.د، وغاليري روشفيلد وغاليري كورتيه وغاليري بيترس دو باسيج، وغاليري اكويسآرت (سويسرا)، وايفا غاليري (الصين-بلجيكا) غاليري فانيسا كوانك وغاليري سود، My Web’Art (الصين)، وغاليري وادي فنان (الأردن)، وغاليري البارح (البحرين)، وغاليري كيو أو دي أي (الأردن)، وآرت سبيس حمرا (لبنان)، وغاليري غولستان (إيران)، وغاليرينوار سو بلو (المغرب)، بالإضافة إلى جمعية (لبنان)، ودار نشر تأميراس ايديشن من لبنان و(تركيا) التابعة لمعرض إسطنبول كونتومبراري.
ويسعى «بيروت آرت فير» منذ انطلاقته الأولى، إلى لفت أنظار المهتمين بالفن إلى مكانة بيروت وإلى ما ينتجه فنانو المنطقة من أعمال تعكس هويتهم الخاصة. ويقوم القيمون على المعرض بعمل اختيارات خاصة وفطنة، لجمع المواهب لا سيما الشابة منها في مكان واحد. ويتميز المعرض هذه السنة بالطاولات المستديرة التي تم الإعلان عنها، وتجمع المعنيين بعالم الفن التشكيلي حول مواضيع معينة تتم مناقشتها، لفتح أبواب الحوار والمعرفة حول آخر ما تشهده السوق من تحولات.
تتناول الطاولات المستديرة، التي هي خصوصية هذه الدورة، مواضيع مختلفة مثل تطوير التصوير الفوتوغرافي الوثائقي في العالم العربي والعمل الخيري الثقافي وآثاره بالإضافة إلى المواضيع المتعلقة بالهندسة الثقافية وأهمية الوساطة الثقافية.
ومن بين المشاركين في هذه المناقشات، أسامه ريفاحي مدير الصندوق العربي للفنون والثقافة، والفنانون الفوتوغرافيون والمنتسبون إلى الصندوق العربي للفنون والثقافة إلسي الحداد (لبنان) وإياد أبو قاسم (سوريا) والمصورة والعضو المؤسس في راويا داليا خميسي وخبير الهندسة الثقافية والمستشار الثقافي لرئيس معهد العالم العربي كلود مولار بالإضافة إلى منسقة المعارض المستقلة فيرونيك ريفيل.
ويعنى بيروت آرت فير إضافة إلى اللوحات التشكيلية بالمصورين الفوتوغرافيين ويخصص لهم أجنحة ذات موضوعات محددة، لتقديم أعمالهم في إطار واضح، كما أنه أعطى عناية خاصة جدًا، منذ ثلاث سنوات، للمصممين الذين عرفوا في لبنان ببراعتهم، وتأثيرهم المباشر على جماليات المدن، لا سيما بيروت.
وهذه السنة وللمرة الأولى منذ إنشائه، يعمل معرض «بيروت آرت فير» على عرض الفنون الرقمية من خلال عرض مجموعة من الأعمال من مناطق مختلفة بفضل دعم مجموعة البحر المتوسط.
يقترح باسكال أوديل القيم على «واقع افتراضي» إقامة معرض يهدف إلى «زعزعة» حواس الزائرين وجعلهم يسافرون في خيالهم عبر مملكة الأوهام.
إنّها دعوة لاستكمال رحلة الجمع ما بين الواقع والافتراض وهي عبارة عن نوع من أنواع التخطيط ما بين أنماط مختلفة من العوالم الافتراضية.
ستقدّم صالات العرض هذه السنة، الفنانين المشهورين والناشئة الذين تعكس أعمالهم الإمكانات التي تنعش الساحة الفنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرقها وحول العالم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)