رسومات مثيرة للجدل على جدران معرض فني نسائي في كابل

سلاح الفنانين لوحات زيتية والدرجات العلمية لا «الكلاشنيكوف»

منيرة يوسف زادة تعرض إحدى لوحاتها  -  اقتصرت دعوة صالة العرض على مجتمع فناني كابل
منيرة يوسف زادة تعرض إحدى لوحاتها - اقتصرت دعوة صالة العرض على مجتمع فناني كابل
TT

رسومات مثيرة للجدل على جدران معرض فني نسائي في كابل

منيرة يوسف زادة تعرض إحدى لوحاتها  -  اقتصرت دعوة صالة العرض على مجتمع فناني كابل
منيرة يوسف زادة تعرض إحدى لوحاتها - اقتصرت دعوة صالة العرض على مجتمع فناني كابل

للوهلة الأولى لا تبدو ثمة صلة بين الغرف ذات الديكورات الفنية والأرضيات الخشبية الداكنة والإضاءة الخافتة وبين الأصولية.
يحمل كل أصحاب المراسم والفنانين المستأجرين في هذا المكان الزجاجي بالبرج السكني المطل على أحد أرقى أحياء كابل درجة الماجستير، بدلا من بنادق الكلاشنيكوف.
سلاحهم ليس القنابل، بل لوحات زيتية تصور المعاناة والعزاب والإحباط، إضافة إلى شيء آخر لم نعهده على الملأ في هذه الدولة ذات التاريخ المحافظ، ذلك الشيء هو أجساد النساء العاريات.
كان هذا في صالة عرض «شماما للفن المعاصر»، وهو مشروع تجاري تديره سيدة ويمثل جبهة جديدة في المعركة التي تخوضها المرأة لنيل حقوقها في أفغانستان. وصرحت منيرة يوسف زادة (30 عاما)، مؤسسة صالة العرض، بأنها افتتحت الصالة العام الماضي كي تمنح المرأة الأفغانية صوتا شجاعا جديدا.
وحسب منيرة، «شعرت قبل افتتاحي لصالة العرض وكأنني سقطت في قاع بئر ولا أحد يسمع صراخي»، وسردت كفاحها من أجل الحياة في مجتمع ذكوري، مضيفة، «غير أنهم الآن يمكنهم سماعي، ويمكنهم سماع غيري من النساء اللاتي يعرضن لوحاتهن على الحائط». فبالنسبة للنساء في أفغانستان، فكثرة سماع صوتهن يعني تعريض حياتهن للخطر.
وعلى الرغم من بعض التحرر بسبب التأثر بالخارج وزيادة أعداد المدارس ودور رعاية النساء منذ سقوط طالبان في 2001، لا تزال الأفغانيات يتعرضن لمستويات متفاوتة من العنف والتفرقة. وحتى الآن ووسط كل تلك الأعداد المتزايدة من المذيعات وضباط الشرطة والفنانات، فإن الطريقة الوحيدة لضمان عدم إثارة الجدل حول الشكل الأنثوي هو أن تلبسها برقع يغطي الرأس حتى أخمص القدمين وتضع إلى جوارها رجل.
ولهذا السبب اقتصرت دعوة صالة العرض على مجتمع فناني كابل، غير أن منيرة يوسف زادة تأمل في تلك الصورة أن تتغير وأن تعرض أعمالها للجمهور في أقرب وقت ممكن.
يبدو الأمر للكثيرين وكأنه مهمة انتحارية، فحسب مينا حبيبيي (26 عاما) موظفة حكومية، «الرسوم العارية غير مقبولة في مجتمعنا»، مضيفة «الأفغان حساسون جدا تجاه كل ما يتعلق بالإسلام، فإذا قام أحد برسم أو عرض رسوم عارية، فسوف يصدر الملالي فتوة بقتلة».
الرسوم تمثل لبعض الناس دليلا على التقدم، وبرهانا على أن جيلا جديدا من النساء قد استفاد من تأثير التنظيمات الغربية غير الحكومية التي قضت السنوات الماضية في تمويل مبادرات لتشجيع تعليم النساء. وبالنسبة للبعض الآخر، تمثل تلك اللوحات عملا مثيرا يقدمه راغبي اللجوء للغرب ممن يسعون للفت الانتباه، حيث تتطلع الناس للهروب من الوضع الاقتصادي والأمني المتردي عن طريق حيلة مثيرة.
وحسب إحدى الطالبات (21 عاما) بجامعة كابل، فقد عبرت عن رأيها صراحة قائلة إن «الرسومات العارية هي عمل إحدى الفنانات اللاتي يعرضن أعمالهن هنا»، في حين قالت فرح سلطاني إن «رسوماتها قد تتسبب في جذب الانتباه غير المناسب، إلا أنها تعتبر احتفالا بالفن الأنثوي».
استخدمت الفنانة اللون الأسود ومن حوله الأخضر والأزرق لرسم الجسد العاري المتناسق والصريح الذي استوحته من صور فوتوغرافية التقطتها لإحدى العاملات المحليات في مجال الجنس.
وقالت سلطاني إن «الرجال في أفغانستان لا يعيرون اهتماما لشخصية المرأة، ويحكمون عليها فقط من خلال جسدها»، وأضافت «أردت أن أسلط الضوء على جسد المرأة لأنه شيء غير اعتيادي وجميل».
وأضافت سلطاني «بصفة شخصية، استمتع برسم اللوحات العارية للنساء، فلماذا أتوقف؟».
ولدت سلطاني في أفغانستان، إلا أنها قضت أغلب سنوات طفولتها في إيران غيرها من الفنانين المعاصرين حيث تعرفت على الفن المعاصر المزدهر عن قرب، وعادت إلى أفغانستان في فترة المراهقة مع إحساس جديد بالفخر والقدرة على النجاح.
شرعت سلطاني العام الماضي في رسم لوحات لنساء عاريات، مما جعل عائلتها تمنعها من العمل في البيت، وتعرضت سلطاني كذلك إلى انتقادات وشتائم على موقع «فيسبوك»، وتم استجوابها حول نشرها لتك اللوحات.
وقالت إنها «لا تهتم كثيرا بسلامتها الشخصية، غير أنها أحيانا تخشى أن تواجه نفس مصير فرخندا، المرأة الأفغانية التي قتلت رجما بالحجارة ثم أحرقت على يد عصابة غوغائية وسط كابل في مارس (آذار) الماضي، بعدما ادعى البعض زورا إقدامها على حرق المصحف الشريف».
وحسب لجنة حقوق الإنسان المستقلة بأفغانستان، بلغت حالات الاعتداء على النساء في كابل والمناطق المجاورة بعد مقتل فرخندا نحو 450 حالة، بزيادة بلغت 12 في المائة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
نادرا ما يكون تدنيس المقدسات سببا في الهجمات، لكن عادة ما تكون ثقافة العنف الذي يمارس ضد النساء في المجتمعات الذكورية سببا في مثل تلك الاعتداءات.
يرى آخرون أن سلطاني سوف تواجه نفس مصير كبرا خادمي، فنانة أفغانية تعرضت لإصابات خطيرة مؤخرا بعد اشتراكها في مظاهرة ضد التحرش الجنسي، غير أنها تلقت تهديدات بالقتل بعد عشر دقائق من بداية الاحتجاج وأجبرت على الاختباء بعد أن أصيبت. يرى النقاد أنها استغلت الحادثة للحصول على حق اللجوء السياسي في أوروبا. في حين تصر سلطاني على أنها لا تنوي مغادرة بلادها وتتعهد أن تستمر في الرسم.

*خدمة «واشنطن بوست»
*خاص بـ«الشرق الأوسط»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)