مهرجان فينيسيا الدولي: العالم تغير.. و كذلك المهرجانات

الدورة 72 لمهرجان فينيسيا وصلت إلى ختامها بعد أيام من الاختيارات الصعبة

مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
TT

مهرجان فينيسيا الدولي: العالم تغير.. و كذلك المهرجانات

مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»
مشهد من «فرانكوفونيا» .. وآخر من «دم دمي»

قبل أحد عشر يوما انطلقت الدورة الثانية والسبعين من مهرجان فينيسيا الذي كان موسوليني أسسه سنة 1932 واستمر إلى أن هزمت إيطاليا و«المحور» في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم عاد يلملم جراح انحيازه للفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، لكنه توقف بضع مرّات وإن كانت دوراته في السنوات الثلاثين الأخيرة أو سواها متواصلة على إيقاع منضبط.
حين بدأت الدورة كنا جميعا ننظر إلى الأمام محمولين على جناحي الأمل والتوقع.. واحد متفائل بدورة تكشف لنا أفلاما ومن خلالها ظواهر وتيارات، والآخر يحدو بنا لانتظار مفاجآت ما بقي من أفلام العام الكبيرة، تلك التي لم تعرض في برلين وفاتها «كان» (أو فوّتها) والتي وصلت إلى هنا لتدخل واحدة من المسابقتين الرئيسيّتين: الرسمية الأولى التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج ألفونسو كوارون، والثانية المسماة بـ «آفاق» التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج جوناثان دَمي.
الآن ننظر إلى الوراء.
فيلم الختام هو بمثابة إسدال ستار المهرجان وتنفس الموجودين الصعداء. لا أفلام بعد اليوم وحتى العام المقبل في هذا الصرح. قبله حفلة توزيع الجوائز التي يختلف من حولها النقاد ومن المنتظر أن يختلف من حولها أعضاء لجنة التحكيم أيضا. وليس هذا لأن هناك قلة من الأفلام التي تستحق، فما يسجل لمدير المهرجان ألبرتو باربيرا أنه نجح في جمع عدد لا بأس به منها وهو المحاصر بمهرجانين قويين قبله ومهرجانات متعددة بعده لا تقل قوّة.

* حكايتان
الأفلام الأبرز التي عرضت هذا العام، أي تلك التي شهدت الإقبال النقدي الأعلى، تعددت في مصادرها واهتماماتها. يقودها الفيلم الألماني - الفرنسي المشترك «فرانكوفونيا» للمخرج الروسي ألكسندر سوخوروف. بمعياره الفني الثري في التفاصيل والإيحاءات وقوّة المضمون، أنجز سوخوروف فيلما عصيا على التصنيف. لا هو تسجيلي ولا هو روائي ولا هو منتصف الطريق بينهما. إنه فيلم خواطري يقرأ في الفن وفي السياسة والعلاقة بينهما من خلال إلقاء نظرة على التاريخ الذي وحّد أوروبا ثقافيا وفنيا والذي انبثق عنه متحف اللوفر واحتواه عبر ألوف اللوحات التي يختزنها، وكيف تعامل مع الغزو الألماني الذي أراد وضع اليد على هذه الكنوز الضخمة.
سوخوروف يمضي لأبعد من ذلك مقدّما شخصية نابليون بونابرت وهو يستعرض تاريخه ويتباهى بما حققه لنفسه ولفرنسا (لكن لنفسه أكثر) من صيت.
من بين عشرين ناقدا قامت مجلة «كياك» الإيطالية برصد تحبيذاتهم، يجيء «فرانكوفونيا» الأول ولا يتأخر عنه كثيرا الفيلم الإيطالي «دم دمي» لماركو بيلوكيو: حكايتان متباعدتان في الزمن كما في الاهتمام القصصي. الأولى تقع في القرن السابع عشر عن شاب مسلح يدخل سجنا يديره الرهبان ليقابل المرأة التي اتهمت بالسحر فسجنت والتي أغوت شقيقه الراهب. ما يلبث الشاب أن يقع تحت سطوتها. حين ننتقل إلى الزمن الحالي نتابع حكاية مليونير روسي يقرر شراء ذلك الدير – السجن، ليفاجأ بأنه مسكون بمصاص دماء.
ليس فقط أن الفكرتين متباعدتان في النص ولا تمثل الثانية امتدادا فعليا للأولى إلا من خلال الموقع الواحد، بل تختلف المعالجة أيضا وإلى حد كاف ليثير انتباه المشاهد من دون أن يجيبه عن أي من الأسئلة التي قد يطرحها حول السبب في هذا الاختلاف.
من بين الأفلام الأخرى التي حظيت بأعلى درجات الإعجاب «11 دقيقة» الذي خاض به المخرج البولندي ييرزي سكوليموفسكي تجربة جديدة عليه وهي تقديم شخصيات متعددة بأحداث منفصلة ثم جمعها، على طريقة بعض أفلام أليخاندرو غونزاليز إناريتو، مثل «الحب كلب» و«21 غراما» و«بابل»، في لحظة واحدة فاصلة. لكن «11 دقيقة» إذ ينجح في الثراء البصري للعديد من مشاهده يفتقد المفاد لكل فيلمه الذي ينتهي بموسيقى عالية صاحبها تصفيق الحضور منفعلين على الأرجح بشريط الصوت.

* صور صادمة
السياسة طرقت الباب من خلال بضعة أفلام، ولكل سياسة وجهة نظرها في شأن أو آخر. أكثر أو أقل. هناك ذلك الفيلم التسجيلي عن الأحداث التي سبقت الحرب الروسية - الأوكرانية الأخيرة في فيلم «الشتاء على النار» لإيفنجي أفينيفسكي الذي ينتقل بين مواقع العاصمة الأوكرانية التي شهدت المظاهرات الشعبية التي كان البوليس يتصدّى لها بعنف، من قبل أن يلين موقف البوليس ويكون ذلك بداية لانهيار النظام السابق وتنحيه.
لكن الفيلم الذي أثار الإعجاب الأكبر بين الأعمال التسجيلية ذات الطرح السياسي هو «رابين.. اليوم الأخير» للإسرائيلي آموس غيتاي، الذي يتردد عادة على فينيسيا كل سنة بصحبة فيلم جديد وإن قصّر مرّة تراه مال إلى مهرجان «كان» بديلا.
كما يكشف عنوانه هو عن تلك المرحلة الأخيرة من حياة رئيس الوزراء الراحل قبل عشرين سنة عندما وضع المتطرّفون اليهود رصاصة قنّاص في جسده بعدما لمسوا صدق نواياه في منح الفلسطينيين دولة لهم حسب اتفاق أوسلو. الأمور بعد رحيله لم تعد كما كانت من قبل، وتأسيس كيان مستقل فعلا للدولة الفلسطينية لم يعد على جدول اهتمامات الحكومة الحالية (ولا تلك التي قبلها)، لكن غيتاي يحصر اهتمامه، في ساعتين وثلثي الساعة، بالفترة السابقة معيدا فتح ملفات أغلقت أو البحث عما تطرحه أخرى ما زالت مفتوحة. يحمل على سياسة المتطرّفين اليمينيين، لكنه لا يرغب في الإدانة المفتوحة.
فنيا، بقي أفضل ما شوهد من أفلام تسجيلية حتى وصول فيلم صيني يوم أول من أمس عنوانه «بهيموث» يحمل في ساعة ونصف الساعة صورا صادمة عن التحوّلات البيئية التي تقع في منغوليا بعدما فتحت البلاد ذراعيها لشركات التنقيب عن الفحم الصينية فإذا بها تنهب الأرض من زرعها وحصادها وتحوّلها إلى أتلال من الأتربة البشعة نافثة، عبر مصانعها، الدخان الملوّث الذي يكمل تهديده للبيئة بأسرها. في النهاية يفتح الكاميرا على مدينة بنيت لكي تستوعب الجاليات الصينية أو سواها للعيش بالقرب من تلك المناطق، لكنها بقيت خالية من السكان إلى اليوم. لا يفوت المخرج زاو ليانغ الحديث عن الثمن الذي يدفعه العاملون صحيا وسوء أحوالهم المعيشية.

* تحديات المستقبل اليوم
هذه الأفلام وسواها الكثير تؤسس، كالعادة، الكيان الفعلي لما تطلع به النتائج. وسواء فاز «فرانكفونيا» أو «دم دمي» أو أي فيلم آخر من تلك التي وردت هنا أو في تقارير سابقة، فإن المهرجان ما زال يقف على الحافة الصعبة متوسلا التوازن المطلوب لاستمراره على نحو متصاعد. مهمّة بالغة الصعوبة خصوصا في مثل هذه الظروف الحالية تحديدا.
الحال هو أن هذا المهرجان الإيطالي الأكبر سنا من كل مهرجان سينمائي آخر على الأرض يشهد تحولات كبيرة تصيب السينما التي يتعامل معها. الفيلم (كمادة مصوّرة سواء على كاميرا ذات فيلم أو بالديجيتال) باتت لديه الكثير من القنوات التي يستطيع سبر غورها بحثا عن العروض المناسبة. هناك وسائط متعددة يستطيع الجمهور عبرها مشاهدة ما كان عليه أن ينتظر عرضه وأن يؤم له صالات السينما. هذا الجمهور تم تدجين معظمه لكي يقبل الاختيارات الأخرى المتوافرة، فهو يستطيع أن يشاهد الفيلم في البيت أو في المقهى.. في مكتبه أو في القطار السريع بين لندن وباريس. والأفلام المتوافرة أثيرا ليست فقط التجارية بل الفنية أيضا.
فينيسيا ذاته قام هذا العام بإتاحة المجال لمن يرغب في مشاهدة بعض أفلام المسابقة لقاء ثمن يدفعه على «الإنترنت». أيضا أشرك في عروضه فيلما من إنتاج شركة «نتفلكس» هو «وحش بلا أمة»، والشركة هي مؤسسة لبيع البث على الإنترنت لا بعد استيفاء عروض تلك الأفلام في الصالات، بل تتجاوزها تماما قاصدة أن تستغني عن كلفة الطبع والتوزيع وتحصد أرباحها من خلال العروض المباشرة على الإنترنت.
وفي حين كان الناقد والسينمائي يشعر حتى سنوات قليلة سابقة بأنه من حسن الحظ أن هذا المهرجان يخلو من سوق سينمائية، من باب أنه يؤثر في صيته وهويته الفنية ويخدش ذلك التفرد بإعلاء قيمة ونوعية المعروض، بات الناقد والسينمائي ذاتهما يدركان أن حسنات هذا الغياب ليست بالضرورة أهم من سلبياته. أول الشاعرين بذلك هم العاملون في قمّة هذا المهرجان، وهم يرون كم من الصعوبة جمع أفلام ذات عرض عالمي أول، وكم من الصعوبة منع مهرجان تورنتو من المشاركة على نصفها، على الأقل، واستحواذ أفلام ربما كانت ستقصد فينيسيا لولا تورنتو.
في وسط كل ذلك، بات الموزعون والمنتجون أنفسهم يدركون أن اللعبة الآن ليست لعبة المهرجانات ومن يفوز ومن لا يفوز، رغم أهمية الجائزة بالنسبة للأفلام عموما، ولا حتى لعبتهم على النحو ذاته الذي كانت تمارس فيه من قبل، بل هي لعبة المشاهد يمسك بخيوطها ويؤثر في تحريكها تماما كما لو كانت لعبة فيديو رائجة.
طبعا، هناك عدد كاف من السينمائيين والنقاد والجمهور في كل مكان يحن للماضي الجميل. ذلك الذي كان الفيلم يُصور فيه باستخدام الفيلم (الأكثر جمالا وجودة) ويعرض في مكان واحد (قاعة السينما المعتّمة)، ويعيش بين الناس لأسابيع طويلة أكثر مما يفعل الفيلم المنتج اليوم الذي أمامه أيام معدودة ليترك أثره ويحقق نجاحه وإلا سيسقط تحت أقدام سواه.

* باربيرا يتحدّث
كل هذه الحقائق الناتجة عن الظروف المتغيرة لكل ما له علاقة بالسينما فنا وصناعة وتجارة وجمهورا ومهرجانات، كانت حاضرة وثقيلة رغم نجاح المهرجان في استقطاب النجوم والمخرجين والنقاد الدوليين. لكنك ستجد مدير المهرجان باربيرا أول من يعترف بأن الحال لم يعد كما كان سابقا. في لقاء ضمن حفل «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» في أحد أيام الأسبوع الأول من المهرجان استمتعت إلى مدير المهرجان وهو يقول: «لقد أصبح من الصعب على أي مهرجان بمفرده أن يعرض أفلاما لا يعرضها مهرجان آخر. ذهبت تلك الأيام التي كان من الممكن فيها الانفراد بكم كبير من الأفلام. أيام كانت المنافسة هي بين برلين وكان أو كان وفينيسيا أو فينيسيا وبرلين. الآن نحن وسط عالم متغير، والفيلم الذي تعرضه اليوم معروض غدا في المهرجان الكبير التالي».
حين ذكّره أحد الحاضرين بأنه في بعض الحالات يعرض الفيلم قبل أيام من عروضه التجارية رد: «هذا دليل آخر على المتغيرات الواقعة. لكن لننس مسألة (العرض العالمي الأول). بات الأمر أشبه بالنكتة. لم تعد لها القيمة السابقة ذاتها».
باربيرا يكشف في حديثه ما كان كشفه لبعض الصحافيين الأوروبيين قبل أسابيع، ويضيف عليه: «لقد اتبع مهرجان تورنتو سياسة الهجوم على المهرجانات المحاذية له، تحديدا فينيسيا وتوليارايد الأميركي. وخلال انعقاد مهرجان (كان) اجتمعنا وقررنا أن الوقت حان لكي نتوقف عن التنافس الشرس ومحاولة عرقلة عمل الآخر بنوع من خطف الأفلام على نحو أثار رد فعل سلبيا لدى المنتجين. المنتج يريد أن يختار ولندعه يختر من دون ضغط».
من نتائج الاتفاق أن فينيسيا أخر افتتاح دورته الحالية أياما قليلة ودفع تورنتو بتوقيت مهرجانه إلى الوراء أيضا فبات من الممكن لمن يحضر فينيسيا أن ينتقل إلى تورنتو من دون أن يخسر نصف الأول أو نصف الثاني.
لكن في حين أن هذا الإنجاز، على بساطته، منح المهرجان الإيطالي مساحة ليفرد قدميه، إلا أنه لا أحد يعلم بعد لماذا كان الإقبال خفيفا في مطلع المهرجان وازداد خفّة في نصفه الثاني. هناك احتمالات من بينها غلاء التكلفة ومن بينها الاختيارات المتعددة المتاحة أمام الجميع، ومن بينها أيضا أن صنع الفيلم وترويجه بات يتطلب مهرجانا أكثر فاعلية من مجرد اسمه وصيته وجوائزه.
على ذلك، الكثير مما عرض هنا كان من بين تلك الكنوز التي ينتظرها الهواة من كل التوجهات. والأمل في أن تستمر رغم الصعاب المذكورة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».