مسافة حضارية

مسافة حضارية
TT

مسافة حضارية

مسافة حضارية

المسافة بين الساحل الغربي لتركيا على البحر الأبيض المتوسط وأقرب الجزر اليونانية لا تزيد عن 12 كيلومترا، لكنها تفصل بين عالمين وحضارتين ونظامين أخلاقيين، بين العتمة والنور، وبين السجن والحرية.
إذا تركنا أسئلة السياسة جانبًا، وأوقفنا محركات البحث عن مبررات تواسي الضمير، أو تداري العجز، فنحن أمام مواجهة أخلاقية صادمة، تتجلى فيها الحقيقة، وهي أن أوروبا التي طالما اقترنت صورتها لدينا بالتحلل الأخلاقي، هي أكثر أخلاقية، وأنها تفوقت أخلاقيًا بمسافة حضارية عنا.
هناك مثقفون عرب وفي طليعتهم الإسلاميون، الذين فوجئوا بأوروبا تفتح ذراعيها لاستقبال اللاجئين بكل الترحاب، وتوفر لهم المأوى والحياة الكريمة، بل وتقلل من المخاوف التي تثار بشأن التغيير الديمغرافي والثقافي للمجتمعات الأوروبية المسيحية البيضاء، بالدعوة لاحتضان التنوع الثقافي والديني واعتبار الهويات جزءا من الثراء الإنساني الذي تزخر به القارة العجوز، وستظل تعمل على تشجيعه وتنميته.
لقد سقطت في مياه المتوسط تلك الثقافة التي لم ترسم الآخر الغربي إلا باعتباره منحطًا أخلاقيًا، وقرنت بين الأخلاق والسلوك الشخصي وخصوصا في العلاقة بين الجنسين، وأغفلت أن الأخلاق منظومة إنسانية متكاملة عمادها السلوك المتحضر، والتواصل الإنساني، والمسؤولية المجتمعية.
بعض المثقفين المسيسين مهمومون بالمعارك البينية، ولذلك فالاعتراف لأوروبا بالتفوق الأخلاقي يكشف عوار النماذج التقليدية، وخيبة ثقافات التخويف والقطيعة، ولذلك نجد كتاباتهم تستخدم جثث اللاجئين ومآسيهم لتصفية حسابات ضيقة، والتعمية على الأسئلة الحقيقية الملحة، فكل فريق يريد دحرجة هذا العار الأخلاقي بعيدًا عن ثيابه وحماه. بعكس أوروبا التي واجهت الحقيقة كجزء من أخلاقيتها المتفوقة. خذ مثلاً حديث بابا الفاتكان بعد اختناق اللاجئين في شاحنة في المجر حيث قال: «على أوروبا أن تشعر بالخجل وأن تدعو للغفران عن هذه الكارثة»، ولم يستخدم المأساة لتصفية حسابات عقائدية أو عنصرية أو قومية مع المسلمين.
يقولون إن السياسة الغربية انتهازية.. حسنًا، كيف يمكن أن يفسروا لنا لماذا هبّت شعوب ألمانيا والنمسا لاستقبال اللاجئين؟ ماذا قال الآباء والأمهات لأطفالهم الذين حملوا الحلوى والهدايا في محطات القطار لتقديمها لأطفال اللاجئين؟ هل يقولون لهم عن الآخر المختلف كما يقول بعضنا لأبنائه؟ وهل يرسمون لهم صورة اللاجئ باعتباره وحشًا يريد التهام ثرواته ورزقه، كما يصور بعضنا الأجانب؟
من العبث أن نصدق المثقفين المؤدلجين الذين يستغلون مأساة اللاجئين لتبرير آيديولوجياتهم الهرمة أو تسويغ عجزهم أو محاربة خصومهم، دون أن يرفّ لهم جفن أمام هذا الفجيعة التي تحل بالمهاجرين. أيضًا لا يكفي التغني بأخلاق الغرب، والاستمرار في جلد الذات دون بداية صحيحة لمجتمعات رشيدة تعلي قيمة الإنسان وتحترم إنسانيته.
المهاجرون الذين يصلون إلى أوروبا سيجدون مجتمعًا منفتحًا يقوم على احترام الإنسان واستثمار مواهبه وإتاحة الفرص أمامه والتعامل معه وفق العدالة والقانون، ولذلك فمأساتهم ستتحول تدريجيًا إلى فرصة، لكن المأساة الحقيقية ما زالت في الأماكن التي قدموا منها، حيث انعدام الأمن والعدالة وانهيار حكم القانون.. وحيث – للأسف – تتباعد المسافة بين عالم اللاجئين وأوطانهم تباعدًا حضاريًا مثلما هي بعيدة جغرافيًا.



«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
TT

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي»، بدولة قطر، مساء الثلاثاء، الفائزين في فئات الدورة العاشرة، وذلك خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد آل ثاني الممثل الشخصي لأمير البلاد، وشخصيات بارزة، وأعضاء البعثات الدبلوماسية، ونخبة من الباحثين والعاملين بمجال الترجمة.

وتهدف الجائزة إلى تكريم المترجمين وتقدير دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين شعوب العالم، وتقدير دورهم عربياً وعالمياً في مد جسور التواصل بين الأمم، ومكافأة التميز في هذا المجال، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع، والتعددية والانفتاح.

الشيخ ثاني بن حمد لدى حضوره حفل تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كما تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي، وتشجيع عمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم عبر فعاليات الترجمة والتعريب، ويبلغ مجمل قيمة الجائزة في مختلف فئاتها مليوني دولار أميركي.

وقال الدكتور حسن النعمة، أمين عام الجائزة، إنها «تساهم في تعزيز قيم إنسانية حضارةً وأدباً وعلماً وفناً، اقتداءً بأسلافنا الذي أسهموا في بناء هذه الحضارة وسطروا لنا في أسفار تاريخها أمجاداً ما زلنا نحن اليوم الأبناء نحتفل بل ونتيه مفتخرين بذلك الإسهام الحضاري العربي في التراث الإنساني العالمي».

وأشاد النعمة بالكتاب والعلماء الذين ترجموا وأسهموا في إنجاز هذه الجائزة، وبجهود القائمين عليها «الذين دأبوا على إنجاحها وإخراجها لنا في كل عام لتكون بهجة ومسرة لنا وهدية من هدايا الفكر التي نحن بها حريُّون بأن نرى عالمنا أجمل وأسعد وأبهج وأرقى».

الدكتور حسن النعمة أمين عام الجائزة (الشرق الأوسط)

من جانب آخر، أعربت المترجمة والأكاديمية، ستيفاني دوغول، في كلمة نيابة عن الضيوف وممثلة للمترجمين، عن شكرها لجهود دولة قطر وجائزة الشيخ حمد للترجمة في تكريم المترجمين والمثقفين من كل أنحاء العالم، موجهة التحية لجميع الفائزين، وللغة العربية.

يشار إلى أنه في عام 2024، توصلت الجائزة بمشاركات من 35 دولة حول العالم، تمثل أفراداً ومؤسسات معنية بالترجمة، من بينها 17 دولة عربية. وقد اختيرت اللغة الفرنسية لغة رئيسية ثانية إلى جانب اللغة الإنجليزية، بينما اختيرت الهنغارية والبلوشية والتترية واليوربا في فئة اللغات القليلة الانتشار.

الفائزون بالدورة العاشرة

وفاز بالجائزة هذا العام «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية»، في المركز الثاني رانية سماره عن ترجمة كتاب «نجمة البحر» لإلياس خوري، والثالث إلياس أمْحَرار عن ترجمة كتاب «نكت المحصول في علم الأصول» لأبي بكر ابن العربي، والثالث (مكرر): ستيفاني دوغول عن ترجمة كتاب «سمّ في الهواء» لجبور دويهي.

وعن «فئة الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية»، فاز بالمركز الثاني الحُسين بَنُو هاشم عن ترجمة كتاب «الإمبراطورية الخَطابية» لشاييم بيرلمان، والثاني (مكرر) محمد آيت حنا عن ترجمة كتاب «كونت مونت كريستو» لألكسندر دوما، والثالث زياد السيد محمد فروح عن ترجمة كتاب «في نظم القرآن، قراءة في نظم السور الثلاث والثلاثين الأخيرة من القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي» لميشيل كويبرس، والثالث (مكرر): لينا بدر عن ترجمة كتاب «صحراء» لجان ماري غوستاف لوكليزيو.

من ندوة «الترجمة من اللغة العربية وإليها... واقع وآفاق» (الشرق الأوسط)

أما (الجائزة التشجيعية)، فحصل عليها: عبد الواحد العلمي عن ترجمة كتاب «نبي الإسلام» لمحمد حميد الله. بينما فاز في «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية»، حصلت على المركز الثالث: طاهرة قطب الدين عن ترجمة كتاب «نهج البلاغة» للشريف الرضي. وذهبت الجائزة التشجيعية إلى إميلي درومستا (EMILY DRUMSTA) عن ترجمة المجموعة الشعرية «ثورة على الشمس» لنازك الملائكة.

وفي (فئة الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية) حصل على المركز الثاني مصطفى الفقي وحسام صبري عن ترجمة كتاب «دليل أكسفورد للدراسات القرآنية» من تحرير محمد عبد الحليم ومصطفى شاه، والثاني (مكرر): علاء مصري النهر عن ترجمة كتاب «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس» لستانلي لين بول.

وفي «فئة الإنجاز»، في قسم اللغة الفرنسية: (مؤسسة البراق)، و(دار الكتاب الجديد المتحدة)، و«في قسم اللغة الإنجليزية»: (مركز نهوض للدراسات والبحوث)، و(تشارلز بترورث (Charles E. Butterworth)، وفي لغة اليورُبا: شرف الدين باديبو راجي، ومشهود محمود جمبا. وفي «اللغة التترية»: جامعة قازان الإسلامية، و«في قسم اللغة البلوشية»: دار الضامران للنشر، و«في اللغة الهنغارية»: جامعة أوتفوش لوراند، وهيئة مسلمي المجر، وعبد الله عبد العاطي عبد السلام محمد النجار، ونافع معلا.

من ندوة «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة» (الشرق الأوسط)

عقدٌ من الإنجاز

وعقدت الجائزة في الذكرى العاشرة لتأسيسها ندوة ثقافية وفكرية، جمعت نخبة من أهم العاملين في مجال الترجمة والمثاقفة من اللغة العربية وإليها، تتناول الندوة في (الجلسة الأولى): «الترجمة من اللغة العربية وإليها: واقع وآفاق»، بينما تتناول (الجلسة الثانية): «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة، وكيفية تطوير هذا الدور».

وخلال مشوارها في عشر سنوات، كرّمت الجائزة مئات العاملين في الترجمة من الأفراد والمؤسسات، في نحو 50 بلداً، لتفتح بذلك آفاقاً واسعة لالتقاء الثقافات، عبر التشجيع على الاهتمام بالترجمة والتعريب، ولتصبح الأكبر عالمياً في الترجمة من اللغة العربية وإليها، حيث اهتمت بها أكثر من 40 لغة، كما بلغت القيمة الإجمالية السنوية لمجموع جوائزها مليوني دولار.

ومنذ تأسيسها، كرمت الجائزة 27 مؤسسة ودار نشر من المؤسسات التي لها دور مهم في الترجمة، و157 مترجماً و30 مترجمة، حيث فاز كثيرون من مختلف اللغات الحية عبر العالم. حتى اللغات التي يتحدث بها بضعة ملايين بلغتها الجائزة وكرمت رواد الترجمة فيها من العربية وإليها. أما اللغات الكبرى في العالم فكان لها نصيب وافر من التكريم، مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألانية والصينية والكورية واليابانية والتركية والفارسية والروسية.

وشملت الجائزة كذلك ميادين القواميس والمعاجم والجوائز التشجيعية للمترجمين الشباب وللمؤسسات الناشئة ذات الجهد الترجمي، وغطت مجالات الترجمة شتى التخصصات الإنسانية كاللغوية والتاريخية والدينية والأدبية والاجتماعية والجغرافية.

وتتوزع فئاتها على فئتين: «الكتب المفردة»، و«الإنجاز»، تختص الأولى بالترجمات الفردية، سواء من اللغة العربية أو إليها، وذلك ضمن اللغات الرئيسية المنصوص عليها في هذه الفئة. وتقبل الترشيحات من قبل المترشح نفسه، ويمكن أيضاً ترشيح الترجمات من قبل الأفراد أو المؤسسات.

أما الثانية فتختص بتكريم الجهود الطويلة الأمد المبذولة من قبل الأفراد والمؤسسات في مجال الترجمة من اللغة العربية أو إليها، في عدة لغات مختارة كل عام، وتُمنح الجائزة بناء على عدد من الأعمال المنجزة والمساهمة في إثراء التواصل الثقافي والمعرفي.