مهرجان فينيسيا الدولي: مهرجان فينيسيا بين رجاله ونسائه

الممثلون يستولون على هوليوود والممثلات لهن أوروبا والعالم

«تسليط ضوء»  -   «جانيس»
«تسليط ضوء» - «جانيس»
TT

مهرجان فينيسيا الدولي: مهرجان فينيسيا بين رجاله ونسائه

«تسليط ضوء»  -   «جانيس»
«تسليط ضوء» - «جانيس»

مدينة بوسطن التي حضرت في فيلم جوني دب «قدّاس أسود» حضرت أيضًا في فيلم أميركي آخر اسمه «تسليط ضوء» (Spotlight) مع مارك روفالو وراتشل ماكأدامز كصحافيين يحققان في ضلوع القساوسة الكاثوليكيين في فضائح جنسية. مثل الفيلم السابق، ومثل ما لا يقل عن عشرة أفلام في المسابقتين الرئيسة والموازية «آفاق»، هو مأخوذ عن الواقع بتصرف مع مايكل كيتون، نجم المهرجان في العام الماضي عبر فيلم افتتاحه «بيردمان» في دور رئيس التحرير.
الدورة الـ72 التي انطلقت في الثاني من سبتمبر (أيلول) وتنتهي في الثاني عشر منه، لا تختلف في مسألة أن الشاشة هذا العام موزّعة بين أفلام تعرض لأوجاع العالم وبين سباق حول أي منها سيستحوذ الجوائز الأولى، وبين تلك الكنوز من الممثلين الذين يمرون فعليًا في أفضل حقباتهم الإبداعية.
بين «تسليط ضوء» و«قدّاس أسود« هناك أكثر من ممثل جيّد في دوره حتى بالنظر إلى تلك الأدوار المساندة التي أسندت إلى بعض النجوم المعروفين مثل مايكل كيتون وجوش برولين وإدغرتون كمبرباتش وأدام سكوت. مما يعني أن السعي لأسد البندقية (اسم الجائزة المعروفة منذ دوراته الأولى قبيل الحرب العالمية الثانية) سيتمحور بين مارك روفالو وجوني دب في هذين الفيلمين كما بين باقي الممثلين الرئيسيين في الأفلام الأخرى. في مقدّمة هؤلاء، ومن يبدو أن الجائزة هي التي تسعى إليه بقدر ما يسعى إليها، إيدي ردماين الذي أذهل الحاضرين ببطولته دورًا بالغ الصعوبة في فيلم بالغ التميّز اسمه «فتاة دنماركية».
جائزة للفشل
هذا الفيلم الذي حققه توم هوبر (أيضًا عن أحداث وشخصيات واقعية) هو الوحيد بين تلك المذكورة التي تؤدي فيه المرأة دورًا أول. هي إليسا فيكاندر التي لديها ما بين الآن ونهاية العام المقبل ثمانية أفلام أخرى توالت عليها تباعًا (المقابلة أدناه). أما باقي الحضور النسائي الآخر فمتوفر، في معظمه، في أفلام غير أميركية كما الحال مع فيلم سو بروكس الأسترالي «البحث عن النعمة»، بطولة رضا ميتشل، والفيلم الإيطالي «لأجل حبك» الذي تقوم فاليري غولينو ببطولته، والإيطالي الآخر «مرغريتا» مع كاثرين فروت في بطولته والفيلم الجنوب أفريقي «النهر غير المنتهي» (The Endless River) الذي يقدّم موهبة سمراء جديدة اسمها كريستال دونا روبرتس.
في هذا الفيلم الأخير لمخرج جديد اسمه أوليفر هرمانوس، نجد الممثلة كريستال تستقبل زوجها بيرسي الخارج من السجن بعد أن قضى فيه أربع سنوات لسرقات صغيرة قام بها. بيرسي يلتقي وبعض أصدقائه في حانة وضيعة يخططون لعمليات أخرى. في الوقت ذاته هناك الفرنسي النازح حديثًا لجنوب أفريقيا والذي يعيش في تلك المزارع الشاسعة خارج مدينة كايبتاون، استيفيز الذي يفاجأ بمداهمة عصابة منزله وقتل طفليه واغتصاب زوجته ثم قتلها أيضًا. على نحو مفهوم يريد الانتقام ويريد من البوليس ألا يعده بإلقاء القبض على تلك العصابة بل إلقاء القبض عليها بالفعل. ما هو غير مفهوم السبب الذي من أجله لا يكتفي المخرج بتقديم الحدث متواصلاً عوض تقسيمه إلى فصول لا تعني شيئًا على الإطلاق؟
استيفيز يقتل زوج البطلة ثم يتقرب منها ويصبحان عشيقين إلى أن تكتشف أنه قتل زوجها. لكن لا شيء مؤكد في هذا الفيلم، بل مبني على افتراض يلي افتراضا آخر. وجائزة أكثر نهايات الأفلام فشلاً يمكن أن تذهب إلى هذا الفيلم بلا ريب.
موسيقى حزينة
في الجوار، خارج المسابقة، تابعنا فيلمًا تسجيليًا جيّدًا من المخرجة آمي بيرغ عنوانه «جانيس: فتاة صغيرة حزينة» (الترجمة الأقرب إلى: Janis‪:‬ Little Girl Blue) وهو عن المغنية الراحلة جانيس جوبلن في إنتاج تلفزيوني الأصل (محطة PBS الأميركية).
جانيس تكساسية متمردة من صغرها عانت من قسوة رفاقها في المدرسة صغيرة كما حين دخلت المرحلة الثانوية و«انتخبت أبشع فتاة في الكلية». إن كانت هناك أسباب أخرى لسخطها على حياتها وهي صغيرة، فإن الفيلم لا يذكره بل ينطلق من هنا لتصويرها وهي تشق طريقها في عالم الغناء متأثرة - على نحو شديد - بمغنيات البلوز (ما يعرف بـDelta Blues الجنوبية تبعًا لحوض المسيسيبي وألاباما) قبل أن تنتقل إلى نوع آخر من البلوز الأقرب إلى الروك وفي بالها (كما في موسيقاها) تقليد لمغني «الصول» أوتيس ردينغ.
لكن وصولها من نقطة «أ» إلى نقطة «ب» لم يكن هينًا لأنها كانت موهوبة لكنها لم تكن، حسب الفيلم، مديرة أعمال جيّدة إذ إنها دائمًا ما انبرت بقيادة الفرقة صوتيًا (ولديها صوت قوي ومميّز الإلقاء) في حين لعبت الموسيقى المصاحبة دورًا ثانويًا. عندما سعى مدراء أعمالها ملاحظين أن الصوت وحده لا يكفي لم تترك الأغاني اللاحقة (في السبعينات) ما تركته تلك الأولى.
المشكلة الأكبر هي أن جانيس كانت مدمنة هيروين، أو كما يقول أحد موسيقيي الفترة عنها: «طالما هي على المسرح تغني ومحاطة بالإعجاب فإنها سعيدة. أما ما بعد ذلك فهي وحيدة تلجأ إلى المخدرات كعلاج».
يقوم الفيلم على وثائق وأفلام مسجلة (كثيرة) حول المغنية وعلى شهادات من شقيقتها وشقيقها والكثير من الموسيقيين الذين صاحبوها. بعضهم خرج من داء الإدمان سليمًا والبعض لم يدمن مطلقًا لكن الجميع يعكس شعوره بخسارتها المبكرة. ماتت جوسلين في العام 1970 (بعد ثلاث سنوات من موت أوتيس ردينغ في حادثة طائرة) نتيجة عودتها إلى الإدمان بعد ستة أشهر نقاهة. الفيلم، الذي تكبّد سنوات من البحث والعمل، جيّد في كل نواحيه والذين لا يعرفون المغنية من قبل قد يجدونه اكتشافا. يمر، على ذلك، بفترات لا يأتي خلالها بجديد يُضاف، لكنه شمولي في تغطيته وجيد في توليفه منتقلاً بين الحقبات المختلفة للمغنية بسهولة.
«رذاذ أكبر» هو أيضًا، ولو في حدود، عن الموسيقى لكن بشخصية خيالية لا تمت إلى الواقع. هو فيلم إيطالي من إخراج لوكا غوادانينو سبق للمخرج الفرنسي الراحل جاك ديراي أن حققه تحت عنوان «المسبح» سنة 1969. في كلا الفيلمين شخصيات لها جوانب مختلفة وواقع واحد: لقاء من دون موعد في مكان يبدو مناسبًا لكل الاحتمالات. التغيير الرئيس الذي يقع بين هذين الفيلمين هو أن المخرج الحالي أراد توسيع البؤرة ليحيط بواقع لم يكن واردًا في الستينات أو ما بعدها لعدة عقود: بما أن الأحداث اختيرت لتدور فوق جزيرة بانتالاريا في آخر صقلية (جزيرة صغيرة كانت في الواقع سجنًا ثم فتحت أبوابه واستقر من فيه فوقها) وبما أن الجزيرة هي محطة وصول للهاربين من جحيم الحرب السورية حاليًا، اختار أن يغلق فيلمه بما يشي بعالمين متناقضين واحد يعكس اهتمامات فردية، والآخر يعكس اهتمامات عامّة وكاسحة في الحاضر الأوروبي اليوم وهي قضية لاجئي الحرب. تيلدا سوينتون في دور المغنية التي فقدت صوتها، والتي وصلت مع صديقها هاري (راف فاينس) إلى الجزيرة بعدما نجحت العملية وهي الآن في وارد استعادة ما فقدته. في هذا الدور نجد تيلدا تمثيل أفضل من كثير من الممثلات الناطقات كدليل لموهبتها المثيرة دومًا.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)