«كارثة جديدة» تفتتح الدورة الحالية لـ«فينيسيا»

«إيفرست» رحلة من الواقع لصعود قمة الجبل الذي لا يقهر

جاسون كلارك يقود الفريق وسط العواصف
جاسون كلارك يقود الفريق وسط العواصف
TT

«كارثة جديدة» تفتتح الدورة الحالية لـ«فينيسيا»

جاسون كلارك يقود الفريق وسط العواصف
جاسون كلارك يقود الفريق وسط العواصف

بعد افتتاح الدورة قبل الماضية برحلة فضائية تتحوّل إلى كارثة عبر فيلم «جاذبية»، يعود مهرجان فينسيا إلى حكايات الكوارث مع اختلاف كبير: «إيفرست» الذي افتتح الدورة الحالية الممتدة حتى الثاني عشر من هذا الشهر، مأخوذ عن قصّة واقعية لثلاثة عشر متسلقًا حاولوا الوصول إلى قمّـة جبل إيفرست سنة 1996. كذلك فإن عدد الضحايا ليس شخصًا واحدًا ربما ما يزال يسبح حتى الآن في الفضاء البعيد حسب أحداث فيلم «جاذبية»، بل ثمانية أشخاص قضوا في تلك الرحلة بينهم رئيسها المتفاني روبرت (جاسون كلارك).
الفيلم من إخراج الآيسلندي بالتازار كورماكور وتمويل شركة يونيفرسال الأميركية ومبرمج للعرض في مصر ودبي والكويت ولبنان من السادس عشر من هذا الشهر منتقلاً بعد ذلك إلى دول أوروبية وعالمية أخرى خلال النصف الثاني من هذا الشهر.
كما يوحي عنوانه هو، إذن، عن تلك الرحلة القاضية وكيف تمّـت ومن كتبت له النجاة من بين المجموعة التي بدأت شق طريقها من معسكرها في سفوح الجبل في النيبال إلى أعلاه. في مطلع الفيلم يقول أحدهم ردًا على آخر قال إنها منافسة بين المشتركين: «لا. إنها منافسة بين الرجال وإيفرست، وإيفرست دائمًا ما يحتفظ بالكلمة الأخيرة».
سنرى ذلك بالتدريج. السيناريو ليس مستوحى من الأحداث على نحو مفتوح، بل تمّـت كتابته من قبل ويليام نيكولسون (من بين أفلامه السابقة «مانديلا: المسيرة الطويلة للحرية») وسيمون بيوفوي (الذي وضع سيناريو «127 ساعة» حول الرحالة الذي سقط في هوّة وعلق بين صخوها) بالاستناد إلى عدة كتب وُضعت حول تلك كارثة 1996 كما عن مقابلات تمّت مع بعض من بقي حيّا وعاد ليروي ما حدث.
في البداية نتعرّف على الشخصيات الرئيسة. بينها روبرت المتزوّج حديثًا جين (كايرا نايتلي) وبك (جوش برولين) التكساسي المتزوّج منذ سنوات بعيدة. لكنهما ليسا الشخصيتين المثيرتين للاهتمام الوحيدتين. الفيلم في هذا الجانب أمن وجود عدد من الممثلين يجسدون شخصيات متعوبا على كتابتها لكي لا ترزح تحت وطأة التنميط ومنهم سام وورثينغتون وإميلي واتسون وجون هوكس وجايك جيلنهال من بين آخرين كثل سكوت (جيلنهال) الذي يقود مجموعة منفصلة من المتسلقين لكنه يرضى باقتراح روب بأن يتعاونا في هذه المهمّة. هناك أيضًا دوغ (هوكس) وهو شاب يريد أن يترك بصمته على تلك القمّة بصرف النظر عن المخاطر ولو أن ذلك شأنهم جميعًا. المختلف بشأنه هو أنه ليس قوي البنية، لكن هذا لا يدخل في الحسبان إذ إن المخاطر أكبر حجمًا من بنية كل فرد وقدرته، وكما نرى في الفيلم الذي صوّر في أماكن طبيعية (قدر الإمكان) فإن المهمّة لم تكن سهلة منذ مطلعها وازدادت صعوبة مع هبوب العواصف ونفاد الأكسجين وسقوط البعض منهكين.
لا يحاول المخرج أن يلعب دورًا محبّذًا أو معاديا لما حدث أو لفكرة صعود «إيفرست» أو سواه. ما يقوم به هو تقديم الحكاية مصحوبة بما يفتح قريحة المشاهد ليلقي أسئلة حول ما إذا كانت المغامرة تستحق العناء، وحول الدوافع التي يختزنها كل منهم للقيام بالمهمّة. رغم ذلك النأي بالنفس عن التحبيذ من عدمه، يقدم المخرج عن مناح عاطفية تغازل المشاهدين. تلك المشاهد المتقاطعة بين روبرت وزوجته كما بين بك وزوجته وقيام الشخصية التي تؤديها إميلي ستون بترتيب التواصل بين الجميع من موقعها في المعسكر، كلها تتيح للمشاعر أن تطفو من دون أن يفقد المخرج قبضته عليها كثيرًا. معظم الوقت نقضيه فوق تلك السفوح العالية وفي صميم تلك العواصف العاتية وكيف أصر البعض على الحياة في حين استسلم آخرون وألقوا بأنفسهم من عل.
شوهد الفيلم هنا بالأبعاد الثلاثة. وهناك نسخ ستوزع بالبعدين. إذا كان لا بد من الخيار فإن البعدين سيتجاوزان مشكلتي اللون والإضاءة. ففي الفيلم ذي الأبعاد الثلاثة تميل الصورة إلى القتامة وتتغير ألوانها ومقدار الضوء الطبيعي المتسرّب عبر العدسة. لكن في الفيلم ذي البعدين سيحتفظ الفيلم بهذين العنصرين المهمّين. كدليل على ذلك، المشهد الذي تنسحب فيه الكاميرا إلى الوراء لتصوّر بك وحيدًا في الثلج الناصع ملقيًا على الأرض بلا حراك. بالأبعاد الثلاثة لن يستطيع المشاهد استيعاب اللقطة وما توحي به لأن لون الثلج الناصع يتحول إلى شكل رمادي.
هذا إلى جانب أن كل المشاهد المؤلفة من لقطات قريبة أو قريبة متوسطة تبقى، في نسخة الأبعاد الثلاثة، واضحة لو خلعت النظارة. لكنك ستحتاج إليها بلا ريب لمشاهدة جماليات اللقطات البعيدة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)