هناك عادة لا يتبعها مهرجان كبير آخر. البدء بالمهرجان قبل يوم واحد من بدايته. بكلمات أخرى: يوم الافتتاح الرسمي في الثاني من سبتمبر (أيلول) هو – تقنيا - اليوم الثاني، وفيلم الافتتاح «إيفرست» هو ليس الفيلم الأول الذي يعرضه المهرجان في دورته الجديدة التي تمتد حتى الثاني عشر منه.
يوم أمس، الأول من الشهر، تم عرض سبعة أفلام من بينها فيلمان للفنان الشامل أورسون وَلز بمناسبة مئوية مولده، هما «تاجر البندقية» و«عطيل». كذلك من بين ما تم عرضه أفلام جديدة مثل «شتاء مبكر» لمايكل راو و«ما» لسيليا راولسون هول و«مدينة الجزيرة» لرشيقة أوبروي.
على الرغم من ذلك، وعلى أهمية الاحتفاء بأورسون وَلز (الخجول) فإن اهتمام الجميع سينصب من اليوم على ما ستدلف إليه أيام المهرجان المقبلة من أعمال تشكل نظريا، على الأقل، ثالث مجموعة من الأفلام المنتظرة هذا العام من بعد تلك التي عرضها برلين في فبراير (شباط) الماضي، والأخرى التي شهدها مهرجان كان في مايو (أيار) قبل نحو ثلاثة أشهر.
هذه المهرجانات الثلاثة إذ اعتادت احتواء العدد الأكبر والأهم من الأفلام العالمية، اعتادت كذلك على التنافس في ما بينها حتى وإن اختلف كل منها عن الآخر بقدر ما. وفي حين أن مهرجاناتنا العربية إما تمر بأزمة أو تنحني تحت وطأة واحدة وتتوقف، فإن شغل المهرجانات الدولية جار على قدم وساق، والمنافسات في عالم تسوده اليوم الوسائط التقنية المختلفة باتت هدفا في حد ذاته يسيطر على رغبة المشاركين فيها من مخرجين ومنتجين وموزعين وممثلين.
إلى ذلك، فإن كلا من فينيسيا وتورنتو بداية حقيقية لموسم المهرجانات. جرسان كبيران يعلنان أننا بتنا في بطن هذا الموسم الحافل. هذا العام في فينيسيا ركّز مديره الفني ألبرتو باربيرا على تشكيل برنامج مهم. قال عنه في معرض حديثه في المؤتمر الصحافي: «يؤمن ما على المهرجانات السينمائية تأمينه قبل سواه: عرض الأفضل من كل البلدان إذا أمكن».
عمليا، وبالأرقام، يعرض البرنامج الرسمي في دورته الثانية والسبعين 55 فيلما جديدا لم يسبق عرضها في أي مناسبة أخرى، بينها فيلم الافتتاح «إيفرست» الذي تم تصويره في استوديوهات شينيشيتا في روما. إنه فيلم أميركي من إنتاج ديزني التي ستتبع العرض الافتتاحي بسهرة كبيرة يحضرها عدد كبير من المدعوين وكذلك الممثلين الذين يشتركون في أداء الأدوار الرئيسية، مثل روبن رايت وكايرا نايتلي وجيك جيلنهال وجوش برولين. مثل افتتاحات فينيسيا الأخرى في الأعوام القليلة الماضية، فإن الفيلم الذي أخرجه بالتازار كورماكور هو رحلة في المستحيل. مجموعة من متسلقي الجبال تقرر القيام برحلتها الأصعب وهي تسلق قمة إيفرست. سيقودنا الفيلم لاعتبار أن الوصول إلى القمة ليس أصعب المهام بل الهبوط عنها.
فيلم الافتتاح يعرض خارج المسابقة، كما يجب على كل فيلم افتتاح أن يكون، لكن هناك اشتراكات أميركية في المسابقة التي تضم كذلك أفلاما إيطالية وبولندية وتركية وصينية وفرنسية وإسبانية وفنزويلية من بين أخرى.
الفيلم الأميركي «الفتاة الدنماركية» هو جديد المخرج توم هوبر الذي صنع صيته الحسن عبر فيلم «خطاب الملك» سنة 2010، قبل أن ينتقل منه إلى فترة تاريخية أخرى نص عليها فيكتور أوغو في رائعته «البائسون». فيلمه الجديد «فتاة دنماركية» قصة حياة الفنانة الدنماركية (التي عاشت واشتهرت في باريس قبل كوبنهاغن) غيردا ويغنر وزواجها من آينر الذي رضي أن يُرسم كامرأة أمامها. وما لبث لهذا القرار أن تحوّل إلى ممارسة حياتية، إذ بقي آينر (يؤديه إدي ردماين الذي خرج بأوسكار أفضل ممثل في مطلع هذا العام عن دوره في «نظرية كل شيء») في الثياب النسائية وتزوّجته غيردا على أساس أنه امرأة، وهو زواج رفضته الملكة كريستينا آنذاك ولم تسمح به.
وفي «الانتظار» حكاية أخرى بين امرأتين، لكنها حكاية أقل حدّة وطبيعية إلى حد بعيد. سنجد الممثلة الفرنسية جولييت بينوش أمًا تنتظر مجيء ابنها للزيارة. قبل وصوله تطرق الباب فتاة تدعي أنها صديقته وأن زيارته ستتأخر. الفيلم، الذي أخرجه الإيطالي بييرو مسينا، حظي بإشادة رهط من النقاد الإيطاليين الذين شاهدوه في عرض خاص في روما قبل أيام قليلة.
لكن الانتظار الحقيقي ليس من نصيب هذا الفيلم أو أفلام أخرى تجاوره ذلك الطموح الفني مستندة إلى ما تسنى لمخرجيها من مواهب. هناك بعض القمم السينمائية الموجودة في هذه الدورة من بينها الفيلم الجديد «فرانكوفونيا» للروسي ألكسندر زوخوروف الذي كان مقررا له أن يعرض في «كان» لكن الفيلم لم يكن جاهزا آنذاك. اللافت أن المخرج لم يعتمد على تمويل روسي بل اتجه صوب شركات ألمانية وفرنسية وهولندية. البعض وصف الفيلم بأنه احتفاء بالهوية الأوروبية، وهو يقول إن أوروبا بالنسبة إليه «دائما ما بدت كعائلة متماسكة وقوية واحدة تستند إلى الثقافة كأساس».
أتوم إيغويان، اسم كبير آخر (ومن خارج العائلة الأوروبية فهو وُلد في الإسكندرية وهاجر صغيرا مع عائلته إلى كندا)، وكان تردد في التوجه إلى مهرجان «كان» الفائت لكن قيل إن فيلمه لم يكن جاهزا. على أي حال ما يخسره كان هو ما يفوز به فينيسيا، وعلى هذا الأساس سنرى هنا فيلمه الجديد «تذكر». يعد أغويان في هذا الفيلم الاختلاف عن الأفلام الأخرى التي تناولت حكاية ناجٍ من الهولوكوست يبحث عن الضابط النازي الذي عرف أنه ما زال حيا ويعيش في أميركا.
ثم هناك، ومن بين الجيل المخضرم، الإيطالي ماركو بيلوكيو الذي يضرب بمطرقته على قضايا اجتماعية ودينية (كنسية) وسواها في فيلمه الجديد «الدم دمي» أيضًا مع جولييت بينوش في أحد الأدوار الرئيسة، في حين يستعير المخرج الجديد لوكا غوادانينو ممثلين بريطانيين لبطولة فيلمه «رذاذ أكبر» هما تيلدا سوينتون وراف فاينس.
تعداد ما هو معروض في المسابقة أو خارجها لا ينتهي عند هذا الحد بالطبع، وليس ما سبق سوى ثلة من الأفلام التي جمعها مديره باربيرا للمناسبة. وسنلاحظ أن هناك العديد من الأفلام التي حققها جيل أحدث من المخرجين منهم الأميركي لوري أندرسن (بفيلمه «قلب كلب») والتركي أمين ألبر (جنون) والأسترالية سو بروكس (البحث عن عظمة) والأرجنتيني بابلو ترابيرو (العصبة).
ما يتفق عليه الوافدون لحضور هذا المهرجان الكبير كثرة ضيوفه من النجوم: براد بت، غاري أودلمان، كايت مارا، مارك روفالو، راتشل ماكآدامز، مايكل كيتون، جوني دب، جاك جيلنهال، كيرا نايتلي، كيفن باكون، بندكت كمبرباتش.. ما هم إلا بعض الأسماء الجماهيرية التي احتشدت لهذا المهرجان والتي يحتشد الجمهور الإيطالي ليتلقط لها الصور حين مرورها كل ليلة على ذلك البساط الأحمر.
أغلى فيلم قصير في العالم
إلى هؤلاء، كان من المفترض أن ينضم المخرج مارتن سكورسيزي لعرض فيلم جديد له بعنوان «الاختبار»، لكن العرض تم إلغاؤه بعدما بعث المخرج برسالة اعتذار فحواها أن مشاكل تقنية أخرت إنجاز الفيلم في موعده المقرر. لكن لا أحد يعرف إذا ما كان هذا هو السبب أو هو السبب الوحيد. ففي طيّاته أن بعض التمويل جاء من جهتين تجاريّتين: مؤسسة «مانيلا سيتي أوف دريمز» التي تملك عددا من الكازينوهات ومؤسسة «ملكو كراون» مالكة الاستوديو الجديد «ماكاوي استوديو سيتي» وكلاهما قصد الترويج لنفسه عبر فيلم من إخراج عملاق.
ليس فقط من إخراج عملاق، بل من بطولة ممثلين كبيرين هما روبرت دينيرو وليوناردو ديكابريو. والسائد في لوس أنجليس الآن هو أن الفيلم القصير ربما كان أغلى فيلم قصير في التاريخ، إذ لا تزيد مدّة عرضه على 16 دقيقة لكن كلفته وصلت إلى 70 مليون دولار من بينها 26 مليون دولار للممثلين المذكورين، ونحو 13 مليون دولار للمخرج سكورسيزي. لكن الممولين نفوا هذه الأرقام، وإن لم يتبرعوا بذكر أرقام أخرى. إذن بدأت الدورة قبل موعدها الرسمي وبطلها ممثل ومخرج ولد قبل مائة سنة ورحل قبل ثلاثين سنة وما زال مصدر اهتمام كبير. أحد الفيلمين المعروضين هنا هو أحد أسباب هذا الاهتمام، ففيلم «تاجر البندقية» هو واحد من الأفلام القليلة التي تم تحقيقها عن مسرحية ويليام شكسبير المعروفة (وصفها البعض بأنها معادية للسامية) وفي عام 1982، أي قبل ثلاث سنوات من وفاته، أعلن وَلز أن نسخة الفيلم مسروقة. وأكد بعض المؤرخين أن الموجود منها لا يعدو بضعة مشاهد. الغريب أن سيناريو الفيلم كان بدوره مفقودا إلى أن تم اكتشافه مؤخرا ثم قام فريق من الباحثين والمرممين باستخدام ما اكتشفوه من مشاهد وما اكتشفوه من نص لتأليف فيلم جديد - قديم.