من التاريخ: أحمد عرابي ونموذج الوطنية

من التاريخ: أحمد عرابي ونموذج الوطنية
TT

من التاريخ: أحمد عرابي ونموذج الوطنية

من التاريخ: أحمد عرابي ونموذج الوطنية

تعد شخصية أحمد عرابي من أهم رموز الوطنية المصرية على الإطلاق في التاريخ الحديث، إذ لا يخلو حي سكني في مصر من شارع أو حارة أو زقاق يحمل اسم هذا البطل المصري الذي لو قُدر له النجاح وهو يقود الحركة الوطنية لكان شأن مصر قد تغير ومعها الوطن العربي.
ثورة عرابي كانت أول ثورة مصرية في العصر الحديث بعد ثورة 1805 التي أتت بمحمد علي حاكمًا على البلاد، ولكنها كانت ثورة أكثر تنظيمًا وتسييسًا لمطالب محددة ورؤية واضحة. غير أن القدر لم يستجب فيها للمصريين، فانتهت على أيدي القوة التي أجهضتها وهي الاستعمار البريطاني للبلاد في عام 1882، لكنها مع ذلك ظلت رمزًا هامًا في التاريخ العسكري والسياسي المصري على حد سواء قادها أحد أبناء القوات المسلحة ومعه مجموعة وطنية.
لقد ولد أحمد عرابي في محافظة الشرقية وألحق للدراسة في الأزهر الشريف، وأعقب ذلك إلحاقه ضابطًا في الجيش المصري في عام 1854. وفي الجيش تدرج في بعض الترقيات بسبب تعاطف حاكم مصر الخديوي سعيد لتشجيعه انخراط المصريين كضباط في الجيش الوطني، إلا أنه سرعان ما فصل بسبب ميوله الوطنية واعتراضه على وضع أسقف محددة للتدرج في الترقي لصالح العناصر غير المصرية من الأتراك والجراكسة (الشركس) وغير المصريين، خاصة في المواقع القيادية في الجيش المصري، على الرغم من أن قوامه كان يتألف من جنود مصريين. ولكن فيما بعد عاد مرة أخرى إلى صفوف الضباط المصريين ورقي لرتبة أميرالاي وأصبح قائد لواء المشاة بالعباسية.
وحافظ الأميرالاي أحمد عرابي على مواقفه، وهو ما وضعه في حالة صدام مع وزير الحربية آنذاك عثمان رفقي، الذي كانت له مواقفه المتعنتة تجاه الضباط من أصول مصرية، ولقد ساعد على ذلك موقف الخديوي الجديد توفيق الذي كان ضعيف الشخصية خاصة أمام القناصل الأجانب في مصر. ومعروف أن مصر كانت قد تعرضت لمشكلات متعددة بسبب أزمة الديون الناجمة عن الاستدانة لتغطية نفقات حفر وافتتاح قناة السويس في عام 1869 التي كبلت البلاد بالديون مما أدي لرهن ما يقرب من نصف ميزانية البلاد لصالح الدائنين الأجانب ووضع الميزانية تحت المراقبة الثنائية لبريطانيا وفرنسا. ومن ثم فتحت هاتان الدولتان الباب على مصراعيه من رجال الأعمال الأجانب للاستفادة من الظروف المصرية. وتكالبت العوامل المختلفة لتضع جذور «الثورة العرابية» بسبب انتشار الفقر في البلاد فضلاً عن تدهور حالة القضاء المصري، الذي أصبح في حاجة ماسة لتطوير مؤسساته ونظام التقاضي فيه وضمان الحقوق والحريات القانونية، ناهيك ببزوغ رغبة مصرية لتطوير النظام السياسي في مصر، خصوصا في المجال النيابي، منه إقرار مجلس شورى النواب والذي كان منزوع الصلاحية سياسيًا.
كذلك تفاقمت الأحوال داخل الجيش المصري، خاصة بعد تعدد حالات الاضطهاد ضد الضباط المصريين وقسوة العقوبات ضد بعضهم، فتفجرت الأزمة في عام 1881 عقب حالة متجددة من الظلم. وعندها ثارت ثائرة عرابي ومعه مجموعة من الضباط يتبعهم جنودهم وتظاهروا أمام منزل وزير الحربية مطالبين بعزله، فجاء رد الوزير بالتضامن مع رئيس الوزراء والخديوي ذاته بمحاكمة عسكرية لقيادات الثورة وتم حبسهم. غير أن رفاقهم تحركوا مباشرة لإخلاء سبيلهم وتوسط وزراء آخرون واضطر الخديوي للتراجع عن موقفه على الفور خشية انفلات الأمر، خصوصا وأن الجيش لم يكن على خصومة مباشرة معه، بل كان هناك استعداد للتعاون معه باعتبار أنه يمكن أن يقود حركة الإصلاح.
وأسفرت هذه الجولة عن عزل وزير الحربية وتعيين محمود سامي البارودي، أحد رموز الوطنية والمقرب لحركة الضباط المصريين والمتعاطف معهم في آن واحد، بدلاً منه. غير أن البارودي لم يمكث طويلاً بعدما وقعت أزمة بسبب حادثة في رأس التين بالإسكندرية أدت إلى أحكام قاسية على عدد من الجنود والضباط المصريين، فاستقال وزير الحربية احتجاجًا على ذلك وحلت محله شخصية صلبة رافضة للحركة الإصلاحية في الجيش وأخذ خطوات عملية لنقل القيادات الوطنية وتفريقهم.
رد عرابي وأتباعه على الفور برفض الانصياع للأوامر وحركوا ألويتهم قي 9 سبتمبر (أيلول) 1881 صوب سراي عابدين ومعهم مجموعة من المطالب على رأسها: إقامة حياة نيابية سليمة وتأليف مجلس نيابي منتخب انتخابًا حرًا، وزيادة عدد الجيش وتحسين إدارته وإدخال الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد.
رفض الخديوي في بداية الأمر هذه المطالب ودخل السراي وبجواره القنصلان الفرنسي والبريطاني، لكنه اضطر في النهاية للرضوخ لمطالب الجيش المصري، فأقال الوزارة وعين شريف باشا رئيسًا للوزراء وكان رجلاً وطنيًا مستقلاً في رأيه ويتمتع برباطة جأش، وهو ما تسبب في بعض التوتر النسبي مع الزعيم أحمد عرابي والقيادات الوطنية بالجيش حيث أصر على أن يكون مستقلاً ويمنع تدخل الجيش في عمل الوزارة الجديدة، وهو ما وافق عليه عرابي في النهاية بعد حصوله على الضمانات الكافية. وبذلك تشكلت وزارة الإصلاح التي أطلق عليها عن حق «وزارة الأمة»، وبدأ بسن القوانين المختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية. وتقرر أيضًا نقل زعماء الحركة الوطنية حتى لا يبدو وكأنهم مراقبون على أداء الحكومة، وهو ما قبله عرابي ورجال الحركة الوطنية، وكانت لحظات خروجهم من القاهرة ملحمة في التظاهر والمحبة والود من قبل الشعب إلى الحد الذي قام الكثير برش الورود والملح أمامهم.
وحقيقة الأمر أن «وزارة الأمة» استحقت هذا اللقب على الرغم من أنها لم تبق كثيرًا في إدارة شؤون البلاد، ففي عهد هذه الوزارة تم إدخال إصلاحات موسعة على النظام القضائي في البلاد، لا سيما إقرار المحاكم الابتدائية والنقض ودوائر التقاضي بالإضافة إلى بعض الإصلاحات الإدارية في الجيش والبلاد. ولكن أهم إنجازات هذه الوزارة بلا خلاف كان إجراء الانتخابات البرلمانية النزيهة وتشكيل أول مجلس نواب على أساس الانتخابات الحرة النزيهة وليس بالتعيين، كما كان الحال بالنسبة لمجلس شوري النواب، فضلاً عن توسيع صلاحيات هذا المجلس ليصبح برلمانًا وليس جهة استشارية وأخضع الحكومة لسلطاته.
تم افتتاح هذا البرلمان في ديسمبر (كانون الأول) 1881، وأقرت هذه الحكومة الدستور أيضًا والذي ضمن صيغة توزيع السلطات، بما في ذلك إشراف البرلمان على الميزانية، وهذه كانت بداية الصدام الحقيقي مع بريطانيا وفرنسا. إذ رفضت الدولتان هذا المقترح تمامًا لأنه أصبح يقلص من سلطاتهما في مراقبة المالية المصرية وهو ما يعني بداية الاستقلال المالي المصري، وهو ما دفعهما لتقديم مذكرة مشتركة للضغط على الحركة القومية ودعم سلطات الخديوي أمام البرلمان الجديد وحركة الإصلاحيين في الجيش المصري. وبدأ القنصلان الفرنسي والبريطاني يمارسان الضغوط على رئيس الوزراء الذي آثر أن يمرر الأزمة بهدوء منعًا للتدخل الأجنبي، لكن أحمد عرابي كانت له رؤيته بضرورة عدم السماح بأي تراجع للمكتسبات السياسية والشعبية، وهو ما أدى إلى استقالة رئيس الوزراء وتعيين البارودي بدلاً منه ولقد أصر بدوره على ضرورة مراجعة البرلمان المصري للميزانية رغم التهديدات الأجنبية. لكن الأحداث لم تمهله كثيرًا فسرعان ما بدأت البلاد تتعرض للقلاقل خاصة بعدما أصدرت إحدى المحاكم العسكرية أحكامًا صارمة على بعض الضباط الإصلاحيين.
وعندما خفف الخديوي الحكم احتج الجيش وأصر على أن يقر البرلمان الأحكام ولكن الخديوي رفض دعوته للانعقاد، وهو ما أدخل الوزارة في حالة صدام مباشر مع الخديوي، ولم تستطع الوزارة فرض دعوة البرلمان مما دفع فرنسا وبريطانيا لإرسال قطع الأسطول مرة أخرى صوب الإسكندرية للضغط على الوزارة والتي لم تجد بدًا من الاستقالة احتجاجًا على الأوضاع فاضطر الخديوي إلى تولى هذه المسؤولية، وإزاء ضغط الجيش المصري تم تعيين أحمد عرابي وزيرًا للحربية وهو ما لم تكن بريطانيا، على وجه الخصوص، على استعداد لقبوله فبدأت عمليات التحرش السياسي بالجيش المصري استعدادًا للاحتلال كما سنرى.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.