مسجد عكاش.. شاهد على تاريخ جدة

أنشئ قبل 230 عاما ويتوسط البلدة القديمة

صورة خارجية للمسجد والمحال التجارية
صورة خارجية للمسجد والمحال التجارية
TT

مسجد عكاش.. شاهد على تاريخ جدة

صورة خارجية للمسجد والمحال التجارية
صورة خارجية للمسجد والمحال التجارية

في قلب المنطقة التاريخية لمدينة جدة يشاهد الزائر مسجد عكاش التاريخي الذي ما زال شامخا في مكانه كشاهد على العصر، يعاند مرور السنين في صمود عجز عنه معاصروه من مساجد تحول بعضها إلى متحف تاريخي أو تمت إزالته أو هجر لصالح مساجد أحدث بنيانا وأوفر خدمات، أو تداعى بنيانه بسبب القدم والإهمال.
يتوسط المسجد جدة القديمة، حيث لكل شارع قصة ترويها رواشين المنازل العتيقة، بداية من شارع الذهب الذي سمي بهذا الاسم لأن أحد سائقي آليات الهدم ضرب أثناء تكوين الشارع جانبا من بيت «آل الشبكشي» فكسر قصبة كانت تستخدم لخزن الأموال في ذلك الزمان فتطايرت مئات من الجنيهات الذهبية في الشارع فأطلق عليه هذا الاسم. ويحيط به أيضا الخاسكية التي تعني باللغة التركية «مكان علية القوم»، وكانت كذلك بالفعل قبل أن تتحول إلى سوق شعبية بسبب انتقال أعيان جدة إلى حارة الشام بعد هجوم بحري تعرضت له في القرن الـ13 فانتقلوا عنها خشية تعرضها لهجوم آخر بحكم قربها من البحر. وهناك شارع «قابل» الذي يعتبر أهم شوارع جدة القديمة، وسمي بهذا الاسم بعد أن اشتراه سليمان قابل من الشريف علي بن الحسين عام 1344هـ وسارع بالتعاقد مع شركة ألمانية لإضاءته فكان أول شارع يضاء بالكهرباء في جدة، وقدم قابل بعدها لكل مستأجر من التجار مصباحا كهربائيا ومروحة فساهم ذلك في الإقبال عليه ليشهد ولادة أكبر تجار المملكة من أمثال الراجحي والكعكي والصيرفي وبامعوضة والعامودي وغيرهم من الأسر التجارية التي غادرت الشارع بعد ظهور الأسواق الكبيرة، وإن كان البعض ما زال يحتفظ بمحله القديم كرابط بين الحاضر والماضي، ومن الجدير ذكره أن الشارع خصص للمشاة بعد أن كان شارعا تسير فيه السيارات ليل نهار.
وكل هذه الأحداث عاصرها مسجد عكاش - الذي يطل على شارع قابل من الجهة الغربية - بحكم أن إنشاءه يعود إلى أكثر من 234 سنة بحسب لوحة معلقة على أبواب المسجد تشير إلى أن تاريخ تأسيسه كان في 1200هـ.
بينما يرجح محمد أحمد البشير، إمام المسجد وخطيبه منذ 1410هـ - 1990م، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»؛ أن تأسيسه الفعلي كان قبل هذا التاريخ؛ لأن الوثيقة التي سجل بها المسجد في السجلات العثمانية صدرت بتاريخ 1188هـ، ما يعني أن المسجد كان قائما قبل تاريخ صدور الصك وقبل التاريخ المعلن عن إنشائه.
وأضاف: «كان مسجد عكاش قديما واجهة لمنطقة البلد يجمع وجهاءها وبسطاءها وعلماءها، يفضله الجميع عن غيره من المساجد لقربه منهم واحتوائه على جميع الخدمات التي يحتاج إليها المصلي من مصاحف للقراءة وماء للوضوء وماء للشرب؛ لأن بالمسجد بئرا عذبة المياه كانت سقيا للناس يحرصون على الوضوء والشرب منها ويتزود منها المسافرون، وأذكر أني وقفت عليها في عام 1382هـ / 1963م وأنا صبي صغير».
وحول أسباب مقاومة المسجد للزمن وصموده دون غيره حتى اليوم قال: «أعتقد أن ذلك يعود لكون المسجد تحيط به محلات تجارية موقوف ريعها على عمارة المسجد وكل ما يحتاج إليه، استأجرتها منذ القدم بعض الأسر الجداوية التي توارثت استثمارها مثل عائلة بافرط والساعاتي وأبو السمح والصوري وغيرهم، فساهمت هذه المحلات في اكتفاء المسجد ذاتيا من الناحية المادية، ويشرف على هذه المحلات والأوقاف آل الهزازي الذين عرف المسجد تحت إشرافهم الكثير من التحسينات المستمرة كحملتي الترميم وإعادة البناء اللتين كانت أولاهما عام 1280هـ - 1864م، وكانت الثانية عام 1379هـ - 1977م، ورفعت فيها أرضه عن مستوى الشارع، كما أن إمامة المسجد وخطابته تعاقب عليها أشهر الخطباء الذين كانوا في الغالب من معلمي الفلاح، مثل الشيوخ أحمد قاري وبكر إدريس ومحمد الأمين يوسف ومحمد المختار أحمد بزيد وعبد الرحمن السعداوي وحسن حبيب وغيرهم الكثير، إضافة إلى أن المقرئ عبد الباسط عبد الصمد قرأ فيه في زيارة سابقة أسعدت جيران وزوار المسجد وزادت إقبالهم عليه وعلى مدرسة تحفيظ القرآن فيه».
من جهة أخرى، اختلف المؤرخون في تحديد اسم منشئ المسجد وقصة إنشائه، إلا أن محمد يوسف طرابلسي في كتابه «جدة.. حكاية مدينة» رجح أن منشئ المسجد هو «عكاشة أباظة» الذي يروى أنه كان رجلا ثريا سجن ظلما في العهد العثماني وأن سجانه كان من آل الهزازي وكان يعامله معاملة حسنة، فوعده في حالة الإفراج عنه ببناء مسجد ومرافق يوقف ريعها لذريته من آل الهزازي، وتحقق ذلك بعد خروجه من السجن.
وعودة للمسجد وما يحويه، فله خمسة أبواب صنعت من خشب الجوز القديم المميز بلونه البني المحروق الذي لا يتغير مع مرور الزمن، يطل ثلاثة منها على شارع «قابل»، ويطل الاثنان الباقيان على «سوق الندى» العريق، وتتوسط المسجد قبة دائرية مرتفعة عن الأرض نقشت عليها الزخارف والأشكال الهندسية الإسلامية، صنعت نوافذها من الزجاج المزركش بألوان زاهية تخلب الألباب عند نفاذ ضوء الشمس خلالها، وتحت هذه القبة بالضبط توجد البئر التي كانت سقيا المسجد قبل إنشاء خزان ضخم للمسجد في عملية ترميمه الأخيرة.
ويحتوي المسجد على مكتبة عامة حديثة أنشئت عام 1410هـ - 1990م تحوي كتبا شرعية ومراجع للباحثين، تفتح أبوابها من بعد صلاة العصر إلى بعد صلاة العشاء كل أيام الأسبوع ما عدا الجمعة.
وفيما يتعلق بالأوقاف التي تدر على المسجد، أفاد محسن طلال، أحد البائعين بأحد المحال التجارية التابعة لأوقاف المسجد، أنه ورث عمله في هذا المحل عن والده قبل 15 عاما، ما جعله يعتاد الصلاة في مسجد عكاش لدرجة أنه يأتي في أيام إجازته للصلاة فيه. وذكر أن المسجد يشهد في وقتي المغرب والعشاء ازدحاما بسبب مرتادي السوق، إلا أن التنظيم الفائق لمرافق المسجد يساعد على انسيابية الحركة والمحافظة على النظام.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».