«سانا»... أول مذيعة «ذكاء صناعي» هندية

في نقلة تقنية وإعلامية مهمة

«سانا» في لقطة برفقة صحافي محترف (شبكة «إنديا توداي»)
«سانا» في لقطة برفقة صحافي محترف (شبكة «إنديا توداي»)
TT

«سانا»... أول مذيعة «ذكاء صناعي» هندية

«سانا» في لقطة برفقة صحافي محترف (شبكة «إنديا توداي»)
«سانا» في لقطة برفقة صحافي محترف (شبكة «إنديا توداي»)

كشفت شبكة التلفزيون الهندية «إنديا توداي» النقاب أخيراً عن «سانا»، التي غدت أول مذيعة أخبار قائمة على الذكاء الصناعي في الهند. وفي حفل إطلاقها، أظهرت مذيعة الذكاء الصناعي مهاراتها اللغوية واستقبلت الضيوف بثلاث لغات، بما في ذلك الغُجراتية.
نظم الحدث بحضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي - وهو من ولاية غجرات - وعدد من الشخصيات رفيعة المستوى. وخلال الحدث، قدّمت «سانا» نفسها لرئيس الوزراء الهندي، وأعربت عن رغبتها في إجراء مقابلة حصرية معه في المستقبل القريب. كذلك ذكرت «سانا» أن «خبراتها العملية قد بدأت»، وأنها ستسعى جاهدة بحلول عام 2024 لتصبح أفضل صحافية في البلاد.
جدير بالذكر أن «سانا» ظهرت لأول مرة على قناة «آج تاك» الإخبارية جنباً إلى جنب مع الصحافي سودهير تشودري في برنامج «بلاك آند وايت». وقدّم تشودري شخصيات الذكاء الصناعي إلى جمهور العرض قائلاً: «سانا معي الآن لأول مرة وستعرض الأخبار». وبعد فترة وجيزة تولّت مذيعة الذكاء الصناعي تقديم الحدث حتى نهايته. من مظهرها الخارجي، لا يمكن لأحد ملاحظة حقيقة أن «سانا» شخصية غير حقيقية، ويرجع ذلك إلى مظهرها ولغة جسدها اللذين تستطيع السيطرة عليهما تماماً. وفي ظهور آخر على الشاشة، لعبت مذيعة أخبار الذكاء الصناعي دور مراسل الطقس. وهنا بدأت في التكلم باللغة الإنجليزية التي بدت «ميكانيكية للغاية»، وكافحت لتضفي قدراً من الحيوية والإحساس بدلاً من الاكتفاء بنطق بيانات إحصائية.
ووفق المجموعة الإعلامية «إنديا توداي»، من المقرّر أن تتولّى «سانا» تحديث نشرة الأخبار عدة مرات في اليوم بلغات متعدّدة، وهي ستقدم أيضاً عرضاً يومياً تتفاعل من خلاله مع الجمهور. وهنا، نذكر أنه خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، ظهرت أول مذيعة أخبار للذكاء الصناعي في الصين لأول مرة، كذلك انضم مذيع الذكاء الصناعي المسمّى «رن شياورونغ» إلى وكالة أنباء الصين الجديدة «شينخوا» التي تديرها الدولة. وتقدم مذيعة أخبار الذكاء الصناعي الناطقة باللغة الإنجليزية الأخبار على مدار 24 ساعة، 365 يوماً في السنة.

«سانا» في لقطة بمفردها (شبكة «إنديا توداي»)

- ما هو الذكاء الصناعي؟
ينظر إلى الذكاء الصناعي على نطاق واسع باعتباره عصر الحوسبة الثالث، الذي يعرف عالمياً بأنه قدرة الآلة على تقديم عمليات معرفية مماثلة لتلك التي يؤديها البشر. وتشمل هذه الوظائف: الإدراك، والتعلم، والتفكير، وحل النزاعات، والتفكير التحليلي، وعمل التنبؤات. وتستفيد جميع الصناعات والقطاعات الآن تقريباً من قدرات الذكاء الصناعي، نظراً لأنه يعمل على تبسيط تعقيدات الأعمال، ويكتشف الاحتيال، ويعزّز إنتاجية المزارع، ويراقب سلاسل التوريد، ويوصي بالمنتجات، ويساعد حتى المطوّرين والكتّاب. كذلك يمكن للذكاء الصناعي الآن التوقّع واقتراح مستويات التوظيف، بالإضافة إلى التنبؤ بالحالة العاطفية والسلوك العاطفي للموظف لمساعدة الشركات في توقع حلول ملائمة. وبالمثل، يمكن أن يوفّر تحليل الفيديو القائم على الذكاء الصناعي رؤى مفيدة أثناء مراقبة جميع معايير البيع بالتجزئة، مثل اكتشاف الأشياء وتحليل مناطق الزحام وتحليلات حركة الناس في المتاجر واكتشاف العنف قبل حدوثه.
ومن المتوقع أن يضيف الذكاء الصناعي ما يقدّر بـ967 مليار دولار أميركي إلى الاقتصاد الهندي بحلول عام 2035، ونحو 450 أو 500 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بحلول عام 2025، وهو ما يمثل 10 بالمائة من المستهدف للبلاد البالغ 5 تريليونات دولار من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لتقرير موقع «تيم ليز». ويشير التقرير إلى أن الإيرادات الناتجة عن الذكاء الصناعي في الهند بلغت 12.3 مليار دولار في عام 2022، وأنه من المتوقع أن ينمو قطاع برمجيات الذكاء الصناعي بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 18 بالمائة في البلاد بحلول نهاية عام 2025.
وفيما يخصّ الاستثمار، ارتفعت الاستثمارات العالمية في الذكاء الصناعي إلى مستوى قياسي بلغ 77.5 مليار دولار في عام 2021، مقارنة بنحو 36 مليار دولار في عام 2020. وبلغت حصة الهند من الاستثمار العالمي في الذكاء الصناعي في عام 2022 ما نسبته 1.5 بالمائة. كذلك ذكرت نتائج التقرير أن الهند تملك نحو 45 ألف فرصة عمل في الذكاء الصناعي، بدءاً من فبراير (شباط) 2023. ويُعَد علماء البيانات (المعطيات) ومهندسو التعلم الآلي من بين المهن المطلوبة في الذكاء الصناعي بالهند. ووفقاً لتقرير «تيم ليز»، تُعد الهند اليوم ثالث أكبر مساهم في مجموعة مواهب الذكاء الصناعي، إذ إنها أنتجت وحدها نحو 400 ألف قاعدة مواهب ذكاء صناعي، أي ما يعادل 16 بالمائة من مجموع المواهب العالمية في مجال الذكاء الصناعي.

- بنغالور وحيدر آباد
أما على صعيد أفضل المدن الناشئة التي تتمتع بمجموعة مواهب في مجال الذكاء الصناعي، فقد احتلت بنغالور (جنوب الهند) المرتبة الخامسة على مستوى العالم، وفقاً لدراسة تستند إلى تنوّع المواهب والاستثمار وتطور المؤسسات الرقمية في الهند. واحتلت العاصمة نيودلهي المرتبة الثامنة عشرة، تليها حيدر آباد (في جنوب البلاد) في المرتبة التاسعة عشرة، وجاءت مومباي في المرتبة السابعة والعشرين.
ومن ناحية أخرى، أفاد تقرير بحثي آخر بأنه من المتوقع أن تنمو سوق الذكاء الصناعي في الهند، لتصبح ثاني أسرع معدل عالمي بنسبة 20 بالمائة بين الاقتصادات الكبرى على مدى السنوات الخمس المقبلة، بعد الصين. وتحت عنوان «من الضجيج إلى الواقع»، ذكر التقرير أن «الوتيرة المتسارعة للذكاء الصناعي في الهند تحققت بعد إجراء بحث على 343 مؤسسة ومنظمة نفذت الذكاء الصناعي، و148 مزوداً ومشغلاً تقنياً يقدمون حلول الذكاء الصناعي». وخلص إلى أن «التوجه لتبني الذكاء الصناعي بلغ ذروته في قطاعات مثل الاتصالات، والألعاب، والتكنولوجيا والخدمات المالية». وأردف أن ما يقرب من 64 بالمائة من مقدمي الخدمات لديهم ذكاء صناعي أو تعلم آلي كعنصر أساسي في منتجاتهم وخدماتهم، مما يجعلهم «إما متقدمين أو على قدم المساواة مع نظرائهم العالميين».
في هذا السياق، صرح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، الشركة التي أنشأت روبوت الدردشة الشهير بالذكاء الصناعي، قائلاً إن «الهند دولة متنوعة جغرافياً ولغوياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو ما يوفر فرصة كبيرة أمام الذكاء الصناعي لسد الفجوة الرقمية وخلق مجتمع شامل. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، رسّخت الهند موقعها مركزاً للذكاء الصناعي من خلال تعزيز الشركات الناشئة ذات التكنولوجيا العميقة، وتعزيز البحث الأكاديمي، وتمكين التحول الرقمي في جميع القطاعات الرئيسية. ولأنها تمثل قوة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأيضاً لكونها ثاني أكبر سوق على الإنترنت في العالم، تتمتع الهند حالياً ببيئة مؤاتية لازدهار الذكاء الصناعي». وفي الوقت ذاته، فإن إضفاء الطابع «الديمقراطي» على هذه التكنولوجيا في البلاد يتسم بوضع مختلف عن بقية العالم بسبب تنوّع سكان الهند، ووفرة البيانات، وقابلية التوسع في حالات الاستخدام.
ما يستحق الإشارة هنا، أن ساتيا ناديلا، رئيس مجلس إدارة «مايكروسوفت» والرئيس التنفيذي لشركة «مايكروسوفت»، قال في وقت مبكر من العام الحالي، إن الهند ستقود استخدام الذكاء الصناعي لحل المشاكل الحقيقية. وتابع ناديلا أثناء إلقائه كلمته أمام تجمع لكبار المديرين التنفيذيين بالهند ضمن فعاليات قمة «مايكروسوفت للقيادة الجاهزة للمستقبل» في مومباي، قائلاً إن «الهند تتولى القيادة عندما يتعلق الأمر بالسلع العامة الرقمية. وهي تحتل القمة في النهج الذي تبني به بنيتها التحتية الرقمية».
وعرض ناديلا النماذج التي تعمل بالذكاء الصناعي مثل «ChatGPT» و«Dall- E» التي تعمل على مساعدة العاملين في مجال المعرفة وتعزيز إنتاجيتهم قائلاً: «سيكون كل عامل معرفي أكثر إبداعاً وأكثر تعبيراً وأكثر إنتاجية. سيكون كل عامل في الخطوط الأمامية قادراً على القيام بعمل معرفي أكثر من أي وقت مضى. كل مهمة تصميم، سواءً كانت هندسة برمجيات أو تصميماً ميكانيكياً أو هندسة معمارية، ستكون أكثر إنتاجية في المستقبل. لذلك، في رأيي الشخصي، سيتسارع الإبداع والإنتاجية البشرية عبر مجموعة من المهام».

- مبادرة حكومية
في سياق موازٍ، خصصت الموازنة الهندية 2023 - 2024 الكثير لصناعة الذكاء الصناعي وتحليل البيانات. إذ أعلنت الحكومة عن إنشاء 3 معاهد للتميز لتطوير الذكاء الصناعي لتوفير إمدادات ثابتة من المتخصصين الموهوبين في الذكاء الصناعي وإنشاء نظام بيئي بحثي قوي في البلاد. وبحسب نارين فيجاي، نائب الرئيس التنفيذي لقطاع النمو بشركة «لومينور»، فإن «رؤية صنع الذكاء الصناعي في الهند ولصالح الهند ستقطع شوطاً طويلاً في دعم نمو صناعة الذكاء الصناعي وتحليلات البيانات». وأضاف: «من المتوقع أن يلعب الذكاء الصناعي والتعلم الآلي دوراً مهماً في مستقبل كل قطاع رئيسي. إلا أنه سيحتاج إلى كمية كبيرة من البيانات لتشغيل الخوارزميات والتحقق من صحة النتائج. وبالتالي، ستساعد القدرة على الوصول إلى البيانات مجهولة المصدر في دفع نتائج أبحاث الذكاء الصناعي - التعلم الآلي وإنشاء نظام بيئي لصناعة الذكاء الصناعي - التعلم الآلي وتحليلات البيانات».
وحقاً، أثبت الذكاء الصناعي نفسه بشكل هائل في قطاعات الرعاية الصحية، والسيارات، والزراعة، والتصنيع، وتكنولوجيا المعلومات. وفي الوقت الحاضر ما يحلم به قطاع الأعمال الهندي أو الحكومة هو تنفيذ الذكاء الصناعي في كل زاوية وركن تقريباً من المجتمع، سواء كان مساحة تجارية أو استثماراً خاصاً أو عمليات قطاع عام. كذلك استفادت الحكومة من الذكاء الصناعي والبيانات لمواجهة التحديات وتعزيز إدارة الأزمات والمدن، وخدمات المواطنين الحيوية، والخدمات المالية.
في الوقت نفسه، لا تخطط الهند راهناً لتنظيم نمو الذكاء الصناعي داخل سوق جنوب آسيا، وتحديد القطاع كمنطقة «مهمة واستراتيجية» للبلاد. يأتي هذا الموقف في وقت تدعو فيه أصوات عديدة إلى زيادة التدقيق في التكنولوجيا سريعة التقدم. وبهذا الصدد، قالت وزارة الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات إنها قيّمت المخاوف الأخلاقية ومخاطر التحيز والتمييز المرتبطة بالذكاء الصناعي. وأردفت الوزارة أنها تنفذ السياسات اللازمة وتدابير البنية التحتية لتنمية قطاع قوي للذكاء الصناعي في البلاد، لكنها لا تنوي تقديم تشريع لتنظيم نموها. ومن ثم، أكدت أن توسيع الذكاء الصناعي سيكون له «تأثير حركي» على ريادة الأعمال وتطوير الأعمال في الهند... «فالذكاء الصناعي هو عامل تمكين حركي للاقتصاد الرقمي والنظام البيئي للابتكار... والحكومة تتيح إمكانات الذكاء الصناعي لتوفير خدمات شخصية وتفاعلية تتمحور حول المواطن من خلال المنصات الرقمية العامة».


مقالات ذات صلة

«بي بي سي» تعتزم تسريح 500 موظف

أوروبا صورة لشعار «بي بي سي» (فليكر)

«بي بي سي» تعتزم تسريح 500 موظف

تعتزم هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» تسريح 500 موظف بحلول نهاية مارس 2026 بعدما خفّضت عدد موظفيها بنسبة 10 % خلال السنوات الخمس الماضية

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث في المؤتمر الوطني رقم 115 لـ NAACP في لاس فيغاس بنيفادا (رويترز)

بايدن: أميركا تعمل بلا كلل للإفراج عن غيرشكوفيتش

أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة تعمل «بلا كلل» لضمان الإفراج عن الصحافي الأميركي إيفان غيرشكوفيتش.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية إيفان غيرشكوفيتش في صورة غير مؤرخة (رويترز)

الحكم على الصحافي الأميركي غيرشكوفيتش بالسجن 16 عاماً في روسيا

أدانت محكمة يكاترينبورغ الروسية في الأورال الصحافي الأميركي إيفان غيرشكوفيتش، اليوم (الجمعة)، بتهمة «التجسس» وحكمت عليه بالسجن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
إعلام التوجه الاستراتيجي يجسّد إرادة جماعية واضحة لحماية المصالح الرقمية العربية (واس)

اجتماع عربي في الرياض يبحث التعامل مع الإعلام العالمي

ناقش فريق التفاوض العربي الخطة التنفيذية للتفاوض مع شركات الإعلام الدولية وفق إطار زمني، وصياغة التوجه الاستراتيجي للتعامل معها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
أوروبا عناصر من الشرطة البريطانية أمام بوابة في «دوانينغ ستريت» (إ.ب.أ)

السجن مدى الحياة لرجل خطط لخطف مذيعة بريطانية لاغتصابها

قضت محكمة بريطانية بالسجن مدى الحياة على رجل أدين بمحاولة اختطاف مذيعة تلفزيونية بريطانية شهيرة واغتصابها وقتلها.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«صدمات الإنعاش» لا تنعش الصحافة الورقية الأردنية

صحف إردنية (غيتي)
صحف إردنية (غيتي)
TT

«صدمات الإنعاش» لا تنعش الصحافة الورقية الأردنية

صحف إردنية (غيتي)
صحف إردنية (غيتي)

فقدت الصحافة الورقية الأردنية خلال السنوات العشر الأخيرة، صدارتها في صناعة الرأي العام المحلّي بعدما توسعت رقعة الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، مع تراجع مقابل لعوائد الإعلان التجاري الورقي الذي يؤشر مستثمرون على تراجعه بنسبة لا تقل عن 60 في المائة.

ورغم «صدمات الإنعاش» المالية العديدة، التي حاولت الحكومات المتعاقبة في الأردن توجيهها للصحف الورقية، خاصة التي تمتلك مؤسسات حكومية فيها حصصاً بوصفها شركات مساهمة عامة، فإن التضخّم الإداري لتلك المؤسسات الصحافية واعتمادها على الإيرادات الحكومية من دون أن تشكل منصاتها الرقمية منافساً جادّاً، تسببا في «تراجع التأثير». وهنا، لا ينفصل عن الصورة الكاملة أيضاً «حجم الرقابة» على أداء هذه المؤسسات، ما أفضى إلى تراجع مؤشر الحريات الصحافية، وفقاً لتقارير رصدية محلية عديدة ودولية.

الدكتور عمر الرزاز (رويترز)

جائحة «كوفيد - 19» أثرت سلباً

الواقع أنه منذ جائحة «كوفيد - 19». تراكمات أزمات الصحف الورقية، ولقد أمر رئيس الوزراء الأردني السابق عمر الرزّاز في مارس (آذار) 2020 بوقف طباعة الصحف والاكتفاء بالنشر الرقمي نتيجة تفشي «كوفيد - 19». قبل أن تعاود الصدور في يونيو (حزيران) من العام ذاته. إلا أن أثر هذا الانقطاع امتد لسنتين بسبب اشتراك المؤسسات الصحافية في برامج سميت بـ«استدامة»، وهي برامج طبقتها الحكومة على ما أسمته «القطاعات الأكثر تضرّراً»، تحمّلت فيها الكوادر الصحافية الأردنية في المؤسسات الثلاث اليومية الكبرى اقتطاعات مالية غير مسبوقة.

وبالتوازي، طالما شكّلت مطالبات المؤسسات الصحافية الحكومة بإعادة برمجة الدعم المالي لها في عهد حكومة بشر الخصاونة، وكانت حكومة هاني الملقي (2016 - 2018) قد اتخذت قراراً برفع سعر الإعلان الحكومي الورقي في 2017 بنسبة 120 في المائة للكلمة (من 25 قرشاً للكلمة إلى 55 قرشاً)، وكذلك الحال في عهد حكومة الخصاونة عام 2022 وتحديداً في شهر أكتوبر (تشرين الأول) حيث قرر مجلس الوزراء، رفع سعر الإعلان الحكومي مرة أخرى ليصبح ديناراً أردنياً للكلمة الواحدة في الإعلان.

وخلال النقاشات المتواصلة بين الحكومة وإدارات الصحف الورقية، تعددت مطالبات دعمها بين زيادة الإعلانات الحكومية عدا عن إعلانات التبليغات القضائية التي تستفيد منها غالبية الصحف الورقية الكبرى والصغيرة، وبين من طالب بتخصيص صندوق وطني لدعم الصحافة الورقية، إلا أن هذه المطالبة اصطدمت بتوّجه الحكومة لوضع معايير للاستفادة من مخصصات هذا الصندوق، وهو ما قوبل من المؤسسات بالرفض بحسب مصادر مطلعة أكدت لـ«الشرق الأوسط»، بدعوى الحاجة إلى «جهات مستقلة لوضع المعايير».

الدكتور بشر الخصاونة (د.ب.أ)

رواتب الصحافيين تفاقم الأزمة

في خضم كل ذلك، تشهد بعض هذه المؤسسات الصحافية، تعثراً في صرف الأجور الشهرية للعاملين، في بلد بلغ معدل التضخم فيه لشهر مايو (أيار) الحالي 2024 نحو 1.8 في المائة. وللعلم، لم تخل السنوات الماضية من تنفيذ قرارات تسريح وفصل تعسفي، بينما تتفاعل المعضلة الحقيقية المتعلقة بانتقال الصحف الورقية من خانة صناعة الخبر والرأي العام، إلى خانة نقل الخبر وملاحقته.

وباستثناء الإعلام الرسمي المموّل من الخزينة العامة، دخل الصحافيون على حسابات خط الفقر بعد توقف دخلهم، وتعثرهم في سداد مديونياتهم لصالح البنوك، وغيرها من مؤسسات الإقراض. وهذا حال كثيرين من زملاء المهنة الذين لم يجدوا دعماً من نقابتهم لتستمر معاناتهم وتداعياتها حتى يومنا هذا، بل إن نقابة الصحافيين الأردنيين قرّرت هذا العام تسجيل دعوى قضائية على عدة مؤسسات إعلامية وصحافية مختلّفة عن تسديد التزاماتها للنقابة منذ سنوات، وهي التزامات فرضها قانون نقابة الصحافيين، بتوريد ما نسبته 1 في المائة من أرباح هذه المؤسسات من الإعلان التجاري للنقابة، عدا عن الاشتراكات المالية السنوية.

وفي هذا الصدد، يشير التقرير المالي والإداري لنقابة الصحافيين الصادر في أبريل (نيسان) 2024. عن السنة المالية السابقة، إلى أن إيرادات النقابة الإجمالية قد بلغت في 2023 فقط 376 ألف دينار، يضاف لها من عوائد الـ«1 في المائة» نحو9 آلاف دينار أردني الواردة لها من المؤسسات الصحافية عن هذه النسبة. وبيّن التقرير أن الديون المتراكمة على الصحف اليومية كإيرادات غير متحصلة تحت بند الـ«1 في المائة»، قد بلغ مجموعها مليون و669 ألف دينار أردني.

نذكر هنا أن عدد الصحف اليومية في البلاد يبلغ الآن ست صحف هي: «الدستور»، وهي أقدم صحف المملكة، و«الرأي» و«الغد» و«الأنباط» و«صدى الشعب» و«نبض البلد»، وهذه الصحف تتوقف عن الطباعة يومي الجمعة والسبت، سعياً وراء تخفيض أكلاف الطباعة مع استمرار عمل منصاتها الإلكترونية، غير أن بعض الصحف الورقية ما تزال تُبالغ في طباعة عدد الصفحات والملاحق على حساب المحتوى الجاذب.

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة

يقول رئيس تحرير أسبق لإحدى الصحف اليومية إلى «الشرق الأوسط»، فضل إغفال اسمه، إن أزمة الصحافة الورقية كانت «بخذلان الحكومات لها». وفي ذروة قوة الصحف اليومية، عندما كانت تطبع عشرات الآلاف من نسخها وتجني أرباحها بفعل الإعلانات التجارية والاشتراكات، كانت حكومات تستخدمها «لترويج سياساتها، حتى لو على حساب مؤشر الثقة لدى جمهور القراء».

ثم يضيف قائلاً إنه بلغ الأمر في زمن حكومات ليست بعيدة بأنها «عيّنت أرقاماً زائدة على اللزوم من كوادر الصحف اليومية، بل وعيّنت كذلك قيادات صحافية وتدخلت في مساحات النشر، وكان مقص الرقيب الرسمي مسلطاً على رقاب رؤساء تحرير والقيادات الصحافية». ويستطرد: «... وكانت بعض الحكومات تُرسل مقالات تُبجل سياساتها بأسماء مستعارة ووهمية». ويؤكد رئيس التحرير الأسبق أن كل تلك التدخلات كانت على حساب مصداقية ما تنشره الصحف شبه الرسمية، وأنه بعد «الربيع الأردني» عام 2011 بدأ مؤشر الثقة بمضامين الصحف الورقية بالانخفاض، ولم تهتم الحكومات بانخفاض معدل إيرادات الصحف من الإعلانات التجارية، بسبب قلة إقبال القراء على شرائها أو الاشتراك بها.

وحقاً تشير دراسة بحثية علمية، كانت الأولى من نوعها، وأعدها معهد الإعلام الأردني (معهد متخصص في منح درجة الماجستير في الإعلام) عام 2022. إلى تراجع حاد في متابعة الأردنيين للصحف الورقية كمصدر للأخبار وبما نسبته 2 في المائة فقط. في حين أشارت الدراسة التي نُفّذت على عيّنة ممثلة لمحافظات المملكة، حجمها 1800 شخص، إلى أن القنوات التلفزيونية تتمتع بترتيب متقدّم في اعتماد الجمهور عليها في الوصول إلى الأخبار، وهي الأكثر ثقة ومصداقية في أخبارها، بل حققت القنوات التلفزيونية العامة المصداقية الأعلى بين وسائل الإعلام كافة.

كذلك أوضحت الدراسة، أن هناك تراجعاً كبيراً في الاعتماد على الصحافة اليومية، كما أن هناك تراجعاً في ثقة الجمهور بالوظيفة التفسيرية والتحليلية للشؤون العامة الأردنية، وذلك وفق عدد المتابعين ومستوى الثقة بما يُطرح في الإعلام من آراء وتحليل. ومن ناحية أخرى تبين أن شبكات الإعلام الاجتماعي، وتحديداً «فيسبوك»، باتت تعدّ المصدر الأول للأخبار لدى الأردنيين، وإن كانت في الوقت نفسه الأقل ثقة ومصداقية.

ومع أن حكومة هاني الملقي (2016 - 2018) والحكومة الحالية قررتا زيادة سعر الإعلان الحكومي في الصحف، فإن هذا القرار لم يحقق نقطة التعادل في الإيرادات والنفقات في المؤسسات الصحافية، لا سيما أن بعضها قد تراكمت ديونه وبيعت أصوله، ولم تنجح المبادرات في التحول الرقمي من تخفيض كلف الورق والحبر والطباعة. والواقع أن «الشرق الأوسط» تحتفظ بأرقام مديونيات صحف لم تأخذ الإذن في نشرها.

أزمة مصطلحات وتعريفات

في أي حال، يعمل راهناً في المملكة نحو 19 محطة فضائية و39 إذاعة، وكذلك 156 موقعاً إخبارياً على الفضاء الإلكتروني، من بينها 18 موقعاً مرخصاً لأحزاب سياسية. ولكن كل هذا وسط تراجع ملحوظ لمتوسط مداخيل الصحافيين، كما يغلب طابع التغطية الخدماتية على محتوى هذه المؤسسات، بدلاً من مساءلة السلطات العامة وانتقاد سياساتها.

أيضاً، لا يوجد تعريف محكّم لمفهوم الإعلام الرسمي والمستقل في البلاد، فمعظم الصحف تكاد تتشابه في عناوينها ومضامينها وفق مراقبين، وسط غياب «لافت» لمقالات الرأي، التي كانت تؤثر نسبياً في المزاج العام. وباستثناءات محدودة قد يكون كتّاب الرأي المتفاعلون غائبين عن ورق الصحف اليومية، وذلك إما بسبب عدم تخصيص مخصصات لهم أو التعثر في دفع الرواتب، أو لتراجع سقوف الحريات وسط تعدد أزمات الصحافة الورقية، وتنامي الأذرع الإعلامية «الرسمية الموجهة» على حساب الإعلام المستقل. ومن ثم، أصبحت معايير التجربة الأردنية المهنية، وخاصة الإعلام الاستقصائي غير حاضرة في ملفات مهمة.

وختاماً، يمكن القول إن الحاصل لدى جمهور النخب التقليدية في الأردن، هو أن الصحافة الورقية - وحتى المحتوى الخبري - صارت مرهونة بالكامل لمرجعيات رقابية، على حد وصف مراقبين، تسمح لها بالبقاء لكنها لا تسمح لها بالانتعاش. وبالتوازي، ترفض قيادات الصحف رفع صوتها بعيداً عن الخط الرسمي، الذي يلزمها السير ضمن خطوط مرسومة مسبقاً.