«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)

ظهر مفهوم «الأزمات المتراكبة» (polycises) تحت تأثير الأزمات التي اجتاحت العالم مؤخراً. صادف المفهوم قبولاً في أوساط عدة، وصل إلى ذروته عندما تم تبنيه في تقرير المخاطر العالمية لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف بـ«منتدى دافوس».
«بوليكريسيس» أو «الأزمات المتراكبة»، هي حزمة مخاطر يغذي بعضها بعضاً، لها آثار مضاعفة؛ بحيث إن الأثر الإجمالي للحزمة يزيد على مجموع آثار المخاطر المكونة لها. وفقاً لهذا المفهوم، فإن العالم قد دخل مرحلة جديدة كفت فيها المخاطر عن أن تأتي فرادى متتابعة. فالتسارع في معدلات التطوير التكنولوجي والانتشار السريع لفنون الإنتاج والتكنولوجيا، وسلاسل التوريد المعقدة، والزيادة السريعة في حركة السفر، والثورة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، كل هذه عوامل تؤدي إلى تسارع توليد وانتقال المخاطر والتهديدات، مما جعلها تأتي في حزم شديدة الوطأة تستعصي على المواجهة.
ينطبق مفهوم «الأزمات المتراكبة» على الوضع الراهن الذي تتداخل فيه أزمة صحية ممثلة في وباء «كوفيد 19» مع أزمة جيوسياسية بسبب الحرب في أوكرانيا، وأزمة في النظام الدولي بسبب التوتر الناتج عن صعود الصين، وأزمة اقتصادية ناتجة عن كل هذا، وأزمة بيئية بسبب اقتراب أزمة التغير المناخي من نقطة اللاعودة، فيما يتواصل الإخفاق العالمي في اتخاذ الإجراءات الضرورية للمواجهة.
يبشرنا أنصار مفهوم «بوليكريسيس» بأن الأزمات المتلاحقة التي تضرب العالم الآن لا تمثل لحظة استثنائية في تطور البشرية والنظام الدولي، لكنها بداية لمرحلة جديدة، تكون فيها الأزمات المتراكبة هي القاعدة، حيث تتفاعل المخاطر المتعددة بعضها مع بعض، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تضرب بشكل متزامن في عدد من النظم العالمية في مجالات الاقتصاد والأمن والنظام السياسي الدولي والصحة العامة والبيئة. الأزمات المتعددة تضرب في المجالات المختلفة، وتضرب أيضاً في المساحات الموجودة بين هذه المجالات، ففي هذه المساحات البينية يوجد عدم وضوح للمسؤوليات، وتغيب استراتيجيات واضحة ومجربة للعمل، بما يحول المساحات البينية إلى مناطق غير محمية مفتوحة تنمو فيها الأزمات والتحديات. التحول الرقمي السريع يغير من طبيعة المجالات المختلفة، ويسهم في خلق مساحات بينية واسعة، تضعف فيها القواعد المنظمة، ولا توجد فيها هياكل واضحة للسلطة وصنع القرار، بما يضاعف من تحديات المخاطر المتعددة.
في مقال نشره في «فاينانشيال تايمز» العام الماضي، تتبع المؤرخ البريطاني آدم توز Adam Tooze تطور مفهوم «بوليكريسيس»، الذي ظهر لأول مرة في تسعينات القرن الماضي، على يد المفكر الفرنسي إدغار موران Edgar Morin، أحد أهم المنظرين لما يعرف بالأنظمة المعقدة (complex systems). يعد موران من رواد التفكير العابر للتخصصات الأكاديمية (multidisciplinary)، وهو ما أهله لصك مصطلح «بوليكريسيس» العابر بطبيعته للحدود الأكاديمية الصارمة. في عام 2016 استخدم جان كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، هذا المفهوم لما وجده فيه من قدرة على شرح الحالة الدولية، مما أسهم في إخراج مفهوم «بوليكريسيس» من مجال التفكير والتحليل إلى مجال السياسة العملية.
يرى توز أن المشكلة تصبح أزمة عندما تستعصي على قدرتنا على المعالجة. وأنه بينما كان من الممكن حتى مطلع هذا القرن لكل منا، حسب توجهه الآيديولوجي، تحديد أزمة واحدة أو عوار واحد مسؤول عن المشكلات التي تواجهنا، وبالتالي اقتراح حل يمكننا من السيطرة على كل التحديات، فإن أحداً في عالم اليوم، بما في ذلك أصحاب العقائد الآيديولوجية الصماء، لا يمكنه الادعاء بأن هناك أزمة واحدة، وحلاً واحداً أحادي البعد يمكنه حل الأزمات التي تواجه العالم.
جذور فهم آدم توز لمفهوم «بوليكريسيس» نجدها في كتاب نشره في عام 2018 بعنوان «الانهيار: عقد الأزمات المالية التي غيرت العالم». لم يقف توز في هذا الكتاب عند حدود أزمة 2008 الاقتصادية، وإنما وسع نطاق اهتمامه ليشمل ما أسماه قوس التحول التاريخي الكبير ذا الأبعاد الثلاثة: بعد اقتصادي جسدته الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وبعد جيوسياسي تمثل في الهجمات التي شنتها روسيا ضد دول مرشحة لعضوية حلف ناتو، والبعد السياسي المتمثل في الأزمة السياسية التي يمر بها النظام السياسي الأميركي، والتي عدَّ انتخاب الرئيس ترمب دليلاً عليها.
أنصار مفهوم «الأزمات المتراكبة»، أو «بوليكريسيس»، في تزايد، وفي كندا خصص «معهد كاسكاد» (cascade institute)، المتخصص في دراسة الأزمات الدولية، برنامجاً لدراسة «الأزمات المتراكبة»، لبحث آليات انتقال التأثير بين النظم المختلفة، وكيفية الاستفادة من ذلك لمعالجة الأزمات.
على الجانب الآخر، هناك نقاد يشكون في القيمة التحليلية لهذا المفهوم، وما إذا كان فعلاً قادراً على تحسين فهمنا للأزمات، وتحسين قدرتنا على معالجتها. في رأي هؤلاء فإنه ليس هناك جديد في القول بأن تغييراً في أحد النظم الإيكولوجية أو الاقتصادية يسبب تغييراً في نظم أخرى، سياسية أو اجتماعية. فهذا هو الأمر العادي الذي يحدث طوال التاريخ.
يتحفظ النقاد على ما يقع فيه البعض من المساواة بين اجتراح لفظ أو مصطلح جديد، وبين تطوير مفهوم يمسك بظاهرة اجتماعية. اللفظ هو مجرد تعبير جذاب، فيما المفهوم هو أداة تحليلية ذات قيمة معرفية وعلمية أصيلة. المؤرخ الأسكوتلندي الأميركي نيل فيرغسون، يعد «بوليكريسيس» مجرد بديل بلاغي لمصطلح بلاغي آخر هو «العاصفة الكاملة» (perfect storm). جيدون رايهن Gideon Raihen، محرر الشؤون الدولية في «الفاينانشيال تايمز»، التي ينشر فيها آدم توز مقالاته، يرى أننا إزاء أكليشيه لا مفهوم تحليلي ذي قيمة معرفية وعملية.
الأزمات المتراكبة التي تواجه العالم ليست ادعاء أو ظاهرة مفتعلة، لكن التحدي الذي يواجهه مفهوم «البوليكريسيس» هو تعيين الآليات التي تتكون وفقاً لها الظاهرة، وشروط وجودها حتى تتأكد قيمته النظرية والعملية. فالعولمة تزيد من مستوى الترابط والتشبيك، وبالتالي التعقيد، عبر العالم، وتجلب معها سهولة انتقال الأموال والمنتجات والأفكار، وأيضاً الأزمات. غير أن العولمة تأتي أيضاً بالمصالح المشتركة والتعاون بين الأطراف، بما يمكنهم من إدارة الأزمات المعقدة. لقد تشكلت مجموعة العشرين عام 1999 على مستوى وزراء المالية، ثم تحولت منذ عام 2008 إلى مؤسسة قمة تجتمع سنوياً. هكذا سهل التعاون إدارة أزمات العولمة، وعندما تعطل التعاون ظهرت الأزمات المتراكبة المستعصية على الحل.
«البوليكريسيس» هي نتيجة فشل القوى الدولية الرئيسية في مواصلة التعاون، فلا هي تعمق التعاون بينها، ولا هي قادرة على الإبقاء على نفس مستوى كفاءة أداء مؤسسات التعاون القائمة. فعندما أخذت العولمة في التراجع، وضعفت قدرة أطراف النظام الدولي على التعاون، انطلقت حزم الأزمات المتراكبة، واحتجنا لصك مفهوم ومصطلح جديدين لوصفها وتحليلها. الأزمات المتراكبة هي، إذن، نتيجة لاتجاه العولمة ناحية الانحسار. فشبكات الإمداد، والنظم المالية والمصرفية وحركة السياحة والسفر واندماج الأسواق، كل هذا ما زال يعمل على الأقل بقوة الدفع وكميراث وصل لنا من زمن ازدهرت فيه العولمة، في حين أصبحت القوى الدولية الرئيسية عاجزة عن مواصلة التعاون من أجل إدارة شبكات الاعتماد المتبادل المعقدة هذه، بل ساد بينها الشك وعدم الثقة، ودخلت في صراعات حادة (الحرب في أوكرانيا والتنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة نموذجاً)، أصبحت ضمن مكونات حزمة الأزمات «البوليكريسيس»، التي تضرب العالم.
غياب الثقة، زيادة الشكوك، التنافس الاستراتيجي، سباق التسلح، عسكرة العلاقات بين القوى الكبرى؛ هذه هي آليات تكوين الأزمات المتراكبة، ليس لأنها تخلق الأزمات، ولكن لأنها تعطل التعاون الضروري لإدارتها، بما يتيح لها الفرصة للاستمرار والتكاثر والتفاعل.
لكل مفهوم عائلة فكرية ينتمي لها، ومفهوم «البوليكريسيس» ينتمي لتيار التشاؤم الذي يرى الحضارة الإنسانية مقبلة على أزمة كبرى. يجد هذه التيار أصوله لدى الاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس (ت 1834) الذي صدمه الازدياد السكاني السريع الذي شهدته أوروبا في مطلع العصر الحديث، فنشر في عام 1798 كتاباً شهيراً قال فيه بأن عدد السكان يزيد بمتوالية هندسية، فيما تزيد الموارد بمتوالية حسابية، وعند نقطة معينة تعجز الموارد عن مجاراة الاحتياجات المتزايدة. الجذر الأقرب لمفهوم «بوليكريسيس» يرجع إلى مطلع السبعينات عندما صدر تقرير حدود النمو عن المجموعة المعروفة بنادي روما. كتب واضعو تقرير حدود النمو أن «المشكلات التي تواجه البشرية شديدة التعقيد والتداخل بحيث إن المؤسسات والسياسات التقليدية لم يعد بإمكانها التعامل معها ولا حتى فهمها، وأن فشل البشرية في مواجهة هذه الأزمة ناتج بالأساس عن أننا نواصل دراسة عناصر الإشكالية منفردة، دون أن نفهم أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، وأن التغيير في أحد العناصر يعني تغييراً في العناصر الأخرى». إنه تقريباً المنطوق نفسه الذي استخدمه أصحاب مفهوم «بوليكريسيس»، بما يؤكد الصلة الفكرية مع الجذر الذي تم وضعه في عام 1972 في تقرير حدود النمو.
اللافت هو تبني منتدى دافوس لهذه الرؤية المتشائمة. لقد اشتهر «دافوس» بعقيدة متفائلة، بشرت بالعولمة والتوسع الاقتصادي والاعتماد المتبادل والتوسع غير المحدود للأسواق، وتشجيع الدول على الالتحاق بالمنظومة الاقتصادية العالمية؛ لكن يبدو أن عصر التفاؤل هذا قد انتهى، وأن التشاؤم أصبح له أنصار أقوياء حتى في مجال الأعمال.
حتى التشاؤم يأتي في أنواع. هناك تشاؤم وظيفي، يؤدي مهمة التنبيه للمخاطر وزيادة جاهزيتنا للتعامل معها. النبوءات المتشائمة التي يطلقها متشائمون وظيفياً هي من نوع النبوءات التي تهزم نفسها لأنها تزيد قدرتنا على التغلب على تحديات بادئة. هناك تشاؤم آيديولوجي، يرى أنصاره أن العالم مقبل على كارثة طالما استمرت أوضاع معينة سياسية واقتصادية. أغلب أنصار هذا التيار نجدهم بين نقاد الرأسمالية، الذين يرونها مصدراً لخراب الكوكب وضياع البشرية، التي لا أمل لها بغير تجاوز النظام الرأسمالي. هناك متشائمون ميتافيزيقيون يؤمنون بأن للكون نهاية، وأنها حادثة لا محالة، سواء كان هذا بسبب كارثة بيئية أو حرب نووية. فهل يكون تشاؤم «البوليكريسيس» من النوع الوظيفي الذي يساعدنا على الانتصار على المخاطر، أم أن هذا رأي متفائل بأكثر مما يسمح به الحال؟
* باحث مصري



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.