«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)

ظهر مفهوم «الأزمات المتراكبة» (polycises) تحت تأثير الأزمات التي اجتاحت العالم مؤخراً. صادف المفهوم قبولاً في أوساط عدة، وصل إلى ذروته عندما تم تبنيه في تقرير المخاطر العالمية لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف بـ«منتدى دافوس».
«بوليكريسيس» أو «الأزمات المتراكبة»، هي حزمة مخاطر يغذي بعضها بعضاً، لها آثار مضاعفة؛ بحيث إن الأثر الإجمالي للحزمة يزيد على مجموع آثار المخاطر المكونة لها. وفقاً لهذا المفهوم، فإن العالم قد دخل مرحلة جديدة كفت فيها المخاطر عن أن تأتي فرادى متتابعة. فالتسارع في معدلات التطوير التكنولوجي والانتشار السريع لفنون الإنتاج والتكنولوجيا، وسلاسل التوريد المعقدة، والزيادة السريعة في حركة السفر، والثورة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، كل هذه عوامل تؤدي إلى تسارع توليد وانتقال المخاطر والتهديدات، مما جعلها تأتي في حزم شديدة الوطأة تستعصي على المواجهة.
ينطبق مفهوم «الأزمات المتراكبة» على الوضع الراهن الذي تتداخل فيه أزمة صحية ممثلة في وباء «كوفيد 19» مع أزمة جيوسياسية بسبب الحرب في أوكرانيا، وأزمة في النظام الدولي بسبب التوتر الناتج عن صعود الصين، وأزمة اقتصادية ناتجة عن كل هذا، وأزمة بيئية بسبب اقتراب أزمة التغير المناخي من نقطة اللاعودة، فيما يتواصل الإخفاق العالمي في اتخاذ الإجراءات الضرورية للمواجهة.
يبشرنا أنصار مفهوم «بوليكريسيس» بأن الأزمات المتلاحقة التي تضرب العالم الآن لا تمثل لحظة استثنائية في تطور البشرية والنظام الدولي، لكنها بداية لمرحلة جديدة، تكون فيها الأزمات المتراكبة هي القاعدة، حيث تتفاعل المخاطر المتعددة بعضها مع بعض، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تضرب بشكل متزامن في عدد من النظم العالمية في مجالات الاقتصاد والأمن والنظام السياسي الدولي والصحة العامة والبيئة. الأزمات المتعددة تضرب في المجالات المختلفة، وتضرب أيضاً في المساحات الموجودة بين هذه المجالات، ففي هذه المساحات البينية يوجد عدم وضوح للمسؤوليات، وتغيب استراتيجيات واضحة ومجربة للعمل، بما يحول المساحات البينية إلى مناطق غير محمية مفتوحة تنمو فيها الأزمات والتحديات. التحول الرقمي السريع يغير من طبيعة المجالات المختلفة، ويسهم في خلق مساحات بينية واسعة، تضعف فيها القواعد المنظمة، ولا توجد فيها هياكل واضحة للسلطة وصنع القرار، بما يضاعف من تحديات المخاطر المتعددة.
في مقال نشره في «فاينانشيال تايمز» العام الماضي، تتبع المؤرخ البريطاني آدم توز Adam Tooze تطور مفهوم «بوليكريسيس»، الذي ظهر لأول مرة في تسعينات القرن الماضي، على يد المفكر الفرنسي إدغار موران Edgar Morin، أحد أهم المنظرين لما يعرف بالأنظمة المعقدة (complex systems). يعد موران من رواد التفكير العابر للتخصصات الأكاديمية (multidisciplinary)، وهو ما أهله لصك مصطلح «بوليكريسيس» العابر بطبيعته للحدود الأكاديمية الصارمة. في عام 2016 استخدم جان كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، هذا المفهوم لما وجده فيه من قدرة على شرح الحالة الدولية، مما أسهم في إخراج مفهوم «بوليكريسيس» من مجال التفكير والتحليل إلى مجال السياسة العملية.
يرى توز أن المشكلة تصبح أزمة عندما تستعصي على قدرتنا على المعالجة. وأنه بينما كان من الممكن حتى مطلع هذا القرن لكل منا، حسب توجهه الآيديولوجي، تحديد أزمة واحدة أو عوار واحد مسؤول عن المشكلات التي تواجهنا، وبالتالي اقتراح حل يمكننا من السيطرة على كل التحديات، فإن أحداً في عالم اليوم، بما في ذلك أصحاب العقائد الآيديولوجية الصماء، لا يمكنه الادعاء بأن هناك أزمة واحدة، وحلاً واحداً أحادي البعد يمكنه حل الأزمات التي تواجه العالم.
جذور فهم آدم توز لمفهوم «بوليكريسيس» نجدها في كتاب نشره في عام 2018 بعنوان «الانهيار: عقد الأزمات المالية التي غيرت العالم». لم يقف توز في هذا الكتاب عند حدود أزمة 2008 الاقتصادية، وإنما وسع نطاق اهتمامه ليشمل ما أسماه قوس التحول التاريخي الكبير ذا الأبعاد الثلاثة: بعد اقتصادي جسدته الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وبعد جيوسياسي تمثل في الهجمات التي شنتها روسيا ضد دول مرشحة لعضوية حلف ناتو، والبعد السياسي المتمثل في الأزمة السياسية التي يمر بها النظام السياسي الأميركي، والتي عدَّ انتخاب الرئيس ترمب دليلاً عليها.
أنصار مفهوم «الأزمات المتراكبة»، أو «بوليكريسيس»، في تزايد، وفي كندا خصص «معهد كاسكاد» (cascade institute)، المتخصص في دراسة الأزمات الدولية، برنامجاً لدراسة «الأزمات المتراكبة»، لبحث آليات انتقال التأثير بين النظم المختلفة، وكيفية الاستفادة من ذلك لمعالجة الأزمات.
على الجانب الآخر، هناك نقاد يشكون في القيمة التحليلية لهذا المفهوم، وما إذا كان فعلاً قادراً على تحسين فهمنا للأزمات، وتحسين قدرتنا على معالجتها. في رأي هؤلاء فإنه ليس هناك جديد في القول بأن تغييراً في أحد النظم الإيكولوجية أو الاقتصادية يسبب تغييراً في نظم أخرى، سياسية أو اجتماعية. فهذا هو الأمر العادي الذي يحدث طوال التاريخ.
يتحفظ النقاد على ما يقع فيه البعض من المساواة بين اجتراح لفظ أو مصطلح جديد، وبين تطوير مفهوم يمسك بظاهرة اجتماعية. اللفظ هو مجرد تعبير جذاب، فيما المفهوم هو أداة تحليلية ذات قيمة معرفية وعلمية أصيلة. المؤرخ الأسكوتلندي الأميركي نيل فيرغسون، يعد «بوليكريسيس» مجرد بديل بلاغي لمصطلح بلاغي آخر هو «العاصفة الكاملة» (perfect storm). جيدون رايهن Gideon Raihen، محرر الشؤون الدولية في «الفاينانشيال تايمز»، التي ينشر فيها آدم توز مقالاته، يرى أننا إزاء أكليشيه لا مفهوم تحليلي ذي قيمة معرفية وعملية.
الأزمات المتراكبة التي تواجه العالم ليست ادعاء أو ظاهرة مفتعلة، لكن التحدي الذي يواجهه مفهوم «البوليكريسيس» هو تعيين الآليات التي تتكون وفقاً لها الظاهرة، وشروط وجودها حتى تتأكد قيمته النظرية والعملية. فالعولمة تزيد من مستوى الترابط والتشبيك، وبالتالي التعقيد، عبر العالم، وتجلب معها سهولة انتقال الأموال والمنتجات والأفكار، وأيضاً الأزمات. غير أن العولمة تأتي أيضاً بالمصالح المشتركة والتعاون بين الأطراف، بما يمكنهم من إدارة الأزمات المعقدة. لقد تشكلت مجموعة العشرين عام 1999 على مستوى وزراء المالية، ثم تحولت منذ عام 2008 إلى مؤسسة قمة تجتمع سنوياً. هكذا سهل التعاون إدارة أزمات العولمة، وعندما تعطل التعاون ظهرت الأزمات المتراكبة المستعصية على الحل.
«البوليكريسيس» هي نتيجة فشل القوى الدولية الرئيسية في مواصلة التعاون، فلا هي تعمق التعاون بينها، ولا هي قادرة على الإبقاء على نفس مستوى كفاءة أداء مؤسسات التعاون القائمة. فعندما أخذت العولمة في التراجع، وضعفت قدرة أطراف النظام الدولي على التعاون، انطلقت حزم الأزمات المتراكبة، واحتجنا لصك مفهوم ومصطلح جديدين لوصفها وتحليلها. الأزمات المتراكبة هي، إذن، نتيجة لاتجاه العولمة ناحية الانحسار. فشبكات الإمداد، والنظم المالية والمصرفية وحركة السياحة والسفر واندماج الأسواق، كل هذا ما زال يعمل على الأقل بقوة الدفع وكميراث وصل لنا من زمن ازدهرت فيه العولمة، في حين أصبحت القوى الدولية الرئيسية عاجزة عن مواصلة التعاون من أجل إدارة شبكات الاعتماد المتبادل المعقدة هذه، بل ساد بينها الشك وعدم الثقة، ودخلت في صراعات حادة (الحرب في أوكرانيا والتنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة نموذجاً)، أصبحت ضمن مكونات حزمة الأزمات «البوليكريسيس»، التي تضرب العالم.
غياب الثقة، زيادة الشكوك، التنافس الاستراتيجي، سباق التسلح، عسكرة العلاقات بين القوى الكبرى؛ هذه هي آليات تكوين الأزمات المتراكبة، ليس لأنها تخلق الأزمات، ولكن لأنها تعطل التعاون الضروري لإدارتها، بما يتيح لها الفرصة للاستمرار والتكاثر والتفاعل.
لكل مفهوم عائلة فكرية ينتمي لها، ومفهوم «البوليكريسيس» ينتمي لتيار التشاؤم الذي يرى الحضارة الإنسانية مقبلة على أزمة كبرى. يجد هذه التيار أصوله لدى الاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس (ت 1834) الذي صدمه الازدياد السكاني السريع الذي شهدته أوروبا في مطلع العصر الحديث، فنشر في عام 1798 كتاباً شهيراً قال فيه بأن عدد السكان يزيد بمتوالية هندسية، فيما تزيد الموارد بمتوالية حسابية، وعند نقطة معينة تعجز الموارد عن مجاراة الاحتياجات المتزايدة. الجذر الأقرب لمفهوم «بوليكريسيس» يرجع إلى مطلع السبعينات عندما صدر تقرير حدود النمو عن المجموعة المعروفة بنادي روما. كتب واضعو تقرير حدود النمو أن «المشكلات التي تواجه البشرية شديدة التعقيد والتداخل بحيث إن المؤسسات والسياسات التقليدية لم يعد بإمكانها التعامل معها ولا حتى فهمها، وأن فشل البشرية في مواجهة هذه الأزمة ناتج بالأساس عن أننا نواصل دراسة عناصر الإشكالية منفردة، دون أن نفهم أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، وأن التغيير في أحد العناصر يعني تغييراً في العناصر الأخرى». إنه تقريباً المنطوق نفسه الذي استخدمه أصحاب مفهوم «بوليكريسيس»، بما يؤكد الصلة الفكرية مع الجذر الذي تم وضعه في عام 1972 في تقرير حدود النمو.
اللافت هو تبني منتدى دافوس لهذه الرؤية المتشائمة. لقد اشتهر «دافوس» بعقيدة متفائلة، بشرت بالعولمة والتوسع الاقتصادي والاعتماد المتبادل والتوسع غير المحدود للأسواق، وتشجيع الدول على الالتحاق بالمنظومة الاقتصادية العالمية؛ لكن يبدو أن عصر التفاؤل هذا قد انتهى، وأن التشاؤم أصبح له أنصار أقوياء حتى في مجال الأعمال.
حتى التشاؤم يأتي في أنواع. هناك تشاؤم وظيفي، يؤدي مهمة التنبيه للمخاطر وزيادة جاهزيتنا للتعامل معها. النبوءات المتشائمة التي يطلقها متشائمون وظيفياً هي من نوع النبوءات التي تهزم نفسها لأنها تزيد قدرتنا على التغلب على تحديات بادئة. هناك تشاؤم آيديولوجي، يرى أنصاره أن العالم مقبل على كارثة طالما استمرت أوضاع معينة سياسية واقتصادية. أغلب أنصار هذا التيار نجدهم بين نقاد الرأسمالية، الذين يرونها مصدراً لخراب الكوكب وضياع البشرية، التي لا أمل لها بغير تجاوز النظام الرأسمالي. هناك متشائمون ميتافيزيقيون يؤمنون بأن للكون نهاية، وأنها حادثة لا محالة، سواء كان هذا بسبب كارثة بيئية أو حرب نووية. فهل يكون تشاؤم «البوليكريسيس» من النوع الوظيفي الذي يساعدنا على الانتصار على المخاطر، أم أن هذا رأي متفائل بأكثر مما يسمح به الحال؟
* باحث مصري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.