دونالد ترامب.. مرشح من نوع خاص

المرشح الجمهوري في سباق البيت الأبيض.. ظاهرة تحير علماء السياسة

دونالد ترامب.. مرشح من نوع خاص
TT

دونالد ترامب.. مرشح من نوع خاص

دونالد ترامب.. مرشح من نوع خاص

يوم الأحد الماضي نشرت صحيفة «واشنطن بوست» (العدد الأسبوعي)، وفي عدد واحد ثمانية تقارير عن دونالد ترامب، ملياردير العقارات الذي ترشح لرئاسة الجمهورية باسم الحزب الجمهوري. هذه عناوين التقارير: «آلام النمو لرجل ظهر فجأة في المقدمة» و«قادة الحزب الجمهوري قلقون من إساءات ترامب، لكنه لا يهتم» و«تاريخ تصرفات ترامب الخرقاء» و«منافسو ترامب ينتقدونه لإساءة المشرفة على المناظرة» و«ما لم يقل ترامب عن إفلاسه، أربع مرات» و«ترامب شاور بيل كلينتون قبل أن يترشح»، و«ترامب: نجحت في العقارات، وسأنجح في السياسة» و«فكاهيات: هل سيشتري ترامب البيت الأبيض؟». وفي مناظرة يوم الأربعاء الماضي، فاز ترامب على بقية المرشحين بفروقات كبيرة.. فمن هو هذا الرجل الذي يقيم الأرض ولا يقعدها في الولايات المتحدة؟

في العام القادم، سيكون عمر ترامب سبعين عاما، قضاها كلها، تقريبا، في بيع وشراء عقارات، منذ أن كان صبيا يزور مكتب والده، الذي كان من كبار مستثمري العقارات في نيويورك. هاجر جده من أبيه إلى أميركا من اسكوتلندا، وهاجر جده من والدته إلى أميركا من ألمانيا. عن هذا كتبت مجلة «تايم»، في سرد لسيرة حياته، أنه جمع بين «تشدد الألمان ومغامرات مرتفعات اسكوتلندا». عندما كان في المدرسة الابتدائية، قدم محاضرات عن أنواع العقارات. وعندما كان في المدرسة الثانوية، كان، فعلا، يبيع ويشترى عقارات (بمساعدة والده). وعندما جاء وقت الدراسة الجامعية، أرسله والده إلى ربما أشهر كلية إدارة الأعمال في الولايات المتحدة.. وارتون (جامعة بنسلفانيا).
في عام 1968 وكان عمره 22 عاما، تخرج بشهادة بكالوريوس في الاقتصاد، وكان عنوان رسالته: «استهداف الطبقة الوسطي في شراء وبيع العقارات». بعد تخرجه، تبع القول بالفعل.
أكمل مشروعا كان بدأه وهو في الجامعة: شراء وتحسين ثم بيع شقق «سويفتون» في سنساتي (ولاية أوهايو). واصطاد عصفورين بحجر واحد: الأول: كتب رسالة البكالوريوس عن المشروع. الثاني: استفاد من الدراسة في تنفيذ المشروع. وهكذا، بدا في طريق جعله واحدا من أشهر ملوك العقارات في أميركا، وفي العالم. حتى صار اسم «ترامب» مطابقا لاسم عقارات ناجحة. بدأ يكرر تجربة شقق «سويفتون» اشتراها بسبعة ملايين دولار، ثم صرف مليون دولار لتحسينها، ثم باعها بعشرة ملايين دولار. عندما اشتراها كانت نسبة الشقق المؤجرة 60 في المائة. وعندما باعها، كانت النسبة 100 في المائة.

صفقات نيويورك
خلال السنوات القليلة التالية، وقبل أن يصل عمره إلى ثلاثين عاما، عقد سلسلة صفقات مع بلدية نيويورك: أولا: اشترى «بن سنترال» (مركز المواصلات في نيويورك) بستين مليون دولار، من دون أي مقدم نقدي. وطوره لتصير قيمته، خلال خمس سنوات، ضعف قيمته الأولى.
ثانيا: اشترى فندق «كومودور» الذي كان أعلن إفلاسه، وحوله إلى فندق «غراند حياة»، واحد من أرقى فنادق نيويورك. ثالثا: في عام 1986 كانت ترميمات شقق «وولمان» استغرقت أربع سنوات أكثر من المدة المقررة. ومن دون دعم مالي من بلدية نيويورك، تبرع ترامب، وأكمل الترميمات، خلال ثلاثة أشهر فقط، وبتكاليف تقل مليون دولار عن ما كانت قررت البلدية. بعد نجاحاته في نيويورك، انطلق إلى مدن أميركية أخرى. ودخل عالم كازينوهات وفنادق القمار. في عام 1988، اشترى كازينو وفندق «تاج محل» من نجم برامج التلفزيون ميرف غريفين.
لكن، عندما دخل دنيا الكازينوهات والقمار. زاد طمعه. وفجأة، في عام 1990 واجهت شركاته إفلاسا شاملا. ولم تستطع إكمال ثالث فنادق وكازينوهات «تاج محل» بقيمة مليار دولار. واضطر لإعلان إفلاس شركاته (وليس إفلاسه هو شخصيا). خلال العشر سنوات التالية، خرج من الكارثة بعد أن ركز على ناطحات السحاب في نيويورك: أولا: «برج ترامب العالمي» السكني، الذي يتكون من 72 طابقا، بالقرب من مبنى الأمم المتحدة. ثانيا: «ترامب بالاس» السكني على نهر هدسون. ثالثا: «فندق ترامب العالمي»، قرب سنترال بارك.

منافسة بلومبيرغ
هكذا، ربط اسمه باسم عقاراته. اليوم، يملك أكثر من خمسين عقارا عملاقا باسمه في الولايات المتحدة، ومثل هذا العدد خارج الولايات المتحدة. منها: فندق «ترامب إنترناشيونال» في هاواي: «برج ترامب» في شيكاغو: «برج ترامب» في فورت لوترديل (ولاية فلوريدا): «كازيون ترامب» في أتلانتيك سيتي (ولاية نيوجيرسي)، الخ..
في بداية هذا العام، قالت مجلة «فوربز» (لرجال الأعمال) إن ثروة ترامب وصلت إلى أربعة مليارات دولار. وقال نفس الشيء تلفزيون «بلومبيرغ» (الذي يملكه مايكل بلومبيرغ، ملياردير الإعلام، وسابقا عمدة نيويورك). لكن، غضب ترامب، وزمجر، وقال إن ثروته ثمانية مليارات دولار، وهي أكثر من ثروة بلومبيرغ. وقال: «يحسدني بلومبيرغ، وجند تلفزيوناته وإذاعاته ليحتقرني». في وقت لاحق، تأكد أن ثروة بلومبيرغ عشرة مليارات دولار (أغنى من ترامب). وأن ثروة ترامب الإجمالية هي، نعم، ثمانية مليارات دولار، لكن، نصفها ديون، مما يخفضها إلى أربعة مليارات دولار.
لكن، يظل ترامب يتفوق على بلومبيرغ، وعلى غيره من المليارديرات الأميركيين، بمزيد من المغامرات. خلال العشر سنوات الماضية، دخل مجالات جديدة: «مطاعم ترامب» و«بوفيهات ترامب» و«آيس كريم ترامب» و«سفريات ترامب» و«إكسسوارات ترامب» و«عطور ترامب» و«ساعات ترامب» و«شيكولاته ترامب» و«فودكا ترامب» و«ويسكي ترامب» و«ستيك ترامب» و«مجلة ترامب» و«إذاعة ترامب» (ربما الأخيرتان لمنافسة عدوه اللدود بلومبيرغ).

الألماني الاسكوتلندي
في العام الماضي أثار ترامب النقد (والإعجاب، وأيضا الغيرة) عندما اشترى نادي غولف «دونبيغ» في آيرلندا، واحدا من أشهر أندية الغولف في العالم. ويراه كثير من الآيرلنديين جزءا من تراثهم التاريخي. (لعنت صحيفة آيرلندية ترامب. ووصفته بأنه «هذا الاسكوتلندي المغامر»).
في الشهر الماضي، عندما انتقد ترامب المهاجرين غير القانونيين من المكسيك، وأساء إليهم، ووصفهم بالكسل، والفساد، واغتصاب النساء، قاطع تلفزيون «إن بي سي» منافسات ملكة جمال العالم، التي كان ينقلها كل عام. ولم يكن كثير من الناس يعرفون أن ترامب هو صاحب شركة منافسات ملكة جمال العالم، وأيضا صاحب شركة منافسات ملكة جمال الولايات المتحدة (اشترى الشركتين عام 1996).
في عام 1983. اشترت ترامب فريق «الجنرالات» (ولاية نيوجيرسي) لكرة القدم. وبعد خمسة أعوام، باعه إلى وولتر دنكان، ملياردير النفط في ولاية أوكلاهوها. وبعد خمسة أعوام أخرى، اشتراه مرة أخرى. وفي كل مرة، زادت أرباحه. وهكذا، يشتري الفاشل، ويحسنه، ويبيعه، ويربح. وهكذا، على خطى والده. لكن، بينما كان الوالد يشترى ويبيع عمارات سكنية يعيش فيها فقراء (مثلا: عمارات سكنية في حي «هارلم» في نيويورك)، صار الابن يشتري ويبيع الفنادق الراقية وكازينوهات القمار.

إساءات
في تقرير عن «إساءات ترامب، خاصة ضد النساء والأنثويات (قادة منظمات مساواة المرأة بالرجل)، قالت صحيفة «واشنطن بوست» إن الإساءات ليست جديدة على ترامب. بل اشتهر بها خلال مناورات، ومساومات، ومراهنات، ومراوغات، شراء وبيع العقارات، فقط، لم يكن الناس يعرفونها إلا عندما ترشيح لرئاسة الجمهورية. وصارت التلفزيونات والصحف ومواقع الإنترنت تتابعه خطوة بخطوة. من بين هذه: أولا: في الشهر الماضي، قال عن المهاجرين غير القانونيين من المكسيك: «صارت الولايات المتحدة مقلب زبالة لمشاكل الدول الأخرى. انتهت هجرة العباقرة والأذكياء إلينا. صارت المكسيك ترسل إلينا أصحاب المشاكل. جاءوا إلينا مع مخدراتهم، وجرائمهم، واغتصاباتهم». وأضاف: «لكن، بعضهم طيبون».
ثانيا: في مناظرة المرشحين من الحزب الجمهوري يوم الأربعاء، شن ترامب هجوما شخصيا على ميغان كيلي، التي اشتركت في تقديم الأسئلة خلال المناظرة. قال إنها تعودت على أن تسأله أسئلة حرجة. وإنها غاضبة عليه، وإن غضبها «يسيل منها كالدم، من فمها، ومن أماكن أخرى (العادة الشهرية؟)..». وفي الحال، احتجت كيلي، واحتج تلفزيون «فوكس» الذي قدم المناظرة، وانتقد ترامب حتى بقية المرشحين الذين اشتركوا معه في المناظرة. يوم الاثنين، في تلفزيون «سي إن إن» قال ترامب: «ليست إساءة الناس من عاداتي». ولم يعترف. ولم يعتذر.

طموحات سياسية
في عام 1997، أصدر ترامب كتاب «ترامب: فن الانتصار بعد الفشل» (بعد أن أعلن إفلاس شركاته أربع مرات). وكتب فيه عن صديقه الرئيس بيل كلينتون: «فشل ثم نجح (في مناصب سياسية في ولاية أركنساس). وها هو الآن رئيس أميركا.. اقدر على أن افعل أكثر ذلك».
كان ذلك ثالث كتاب أصدره، كلها، طبعا، عنه هو، وفيها اسمه في كل عنوان كتاب: «ترامب: فن الصفقات» و«ترامب: الحياة في القمة».
في ذلك الوقت، تحدث ترامب عن طموحاته السياسية. كان يميل نحو الحزب الديمقراطي. لكن، كان كلينتون (وزوجته) يسيطر على المسرح الديمقراطي. لم يكن هذا هو السبب الرئيسي الذي جعله يتحول إلى الحزب الجمهوري. كانت الأسباب الرئيسية هي: أولا: صفقاته، ومناوراته، ومساوماته التجارية، واستغلاله قوانين الضرائب والعقارات.
ثانيا: فلسفة «السوق المفتوحة» التي تطلق عنان الرأسماليين، وتقلل سيطرة الحكومات.
ثالثا: «عادات اجتماعية» تربى عليها.
في أكثر من كتاب، قال إنه «رجل تقليدي»، وانتقد النساء، وانتقد المهاجرين، وانتقد دول العالم الثالث. وها هو، بعد عشرين عاما، يثير المشاكل بسبب ذلك.
كتب عن ثلاث نساء تزوجهن، واحدة بعد الأخرى (على الأقل، فشل مرتين). وعن «طمع النساء» (لجوء زوجات وصديقات سابقات إلى المحاكم للحصول على تعويضات بملايين الدولارات).
في الجانب الآخر، صار واضحا أن النساء لا يرتحن له: في الماضي، بسبب مشاكله الزوجية وغرامياته. وفي الحاضر، خلال الحملة الانتخابية (وإساءة مذيعة التلفزيون كيلي). وأوضح استطلاع نشرت نتيجته في الأسبوع الماضي (قبل إساءة كيلي)، أن النساء يكرهن ترامب بنسبة ضعف كراهية الرجال له.
في الحقيقة، أساء ترامب إلى كيلي بعد أن سألته سؤالا لا يخلو من إساءة: «لماذا تحتقر النساء؟ لماذا تنتقدهن في حسابك في (تويتر)؟ لماذا كتبت في كتبك أنك تحتقرهن؟ لماذا تصف النساء بأنهن كلاب وخنازير سمينة؟ ما هو رأيك فيما قالت هيلاري كلينتون بأنك تقود حربا ضد النساء؟».

إلى أين؟
يوم الاثنين، كتب ليون هادار، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ماريلاند: «تحير علماء السياسة واحدة من مفارقات المعارك الانتخابية الأميركية: يميل أبناء الطبقة الوسطى والدنيا من البيض نحو انتخاب مرشحين جمهوريين لرئاسة أميركا يسعون إلى إضعاف دولة الرفاهية، ويريدون خفض الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية والاقتصادية والحد من سلطة النقابات العمالية».
وأضاف: «يبدو غريبا أن الغالبية العظمى من الناخبين البيض في اثنتين من أفقر الولايات الأميركية، تينيسي وويست فرجينيا، يدعمون المليونير الجمهوري والمرشح المؤيد لقطاع الأعمال، دونالد ترامب. بينما يؤيد الناخبون في أغنى منطقتين في البلاد، بيفرلي هيلز ومقاطعة مارين (لوس أنجليس) باراك أوباما الذي وعد بزيادة الضرائب المفروضة عليهم».
وأضاف هادار: يصف ناقدون ترامب بأنه «مسخرة» أو «مجنون». لكنه يظل يفوز ويفوز: 10 في المائة، 20 في المائة، والآن ما يقرب من 30 في المائة من أصوات الجمهوريين. لهذا، أتوقع أن يصل إلى نهائي المنافسات، رغم أنه وصف مرشحين معارضين له بأن واحدا «غبي»، وواحدا «أبله»، وواحدا «خاسر»، والمذيعة كيلي «دموية»، والمهاجرين المكسيكيين «مغتصبون». وانتقد وسخر من بطل حرب فيتنام، جون ماكين.
وقال هادار: «الحقيقة هي أن كل تنابز جديد يساعده في الحصول على مزيد من الزخم السياسي.. هذا ما يحير علماء السياسة الأميركيين».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.