أقام مهرجان تطوان السينمائي في العاشر من الشهر الماضي ندوة حول واقع السينما المغربية وما يتوخاه النقاد والمبدعون منها ووضعها اليوم في السوق كإنتاجات متعددة المستويات والتوجهات.
موضوع كهذا يُطلق من حين لآخر وتحت البنود ذاتها. فبين كل فترة وأخرى يتم طرح مثل هذه المواضيع البحثية في ندوات تتشابه في العناوين كما في الغايات والنتائج. لكن الجديد في ندوة المهرجان المغربي هو إنه يتحدّث عن طفرة جديدة من الأعمال الجيدة التي تم إطلاقها في السنوات العشر الأخيرة والأعمال الجديدة التي تداولها الباحثون والنقاد بالاهتمام.
هناك ما بين 18 و22 فيلماً مغربياً يتم إنتاجه في كل سنة منذ انتهاء ما فرضه وباء «كورونا» من التزامات. قبل ذلك كان العدد أكبر قليلاً، إذ بلغ في بعض سنوات العقد الماضي نحو 30 فيلماً في العام بذلك نافس - عددياً على الأقل - ما تنتجه السينما المصرية.
- حكايات النساء
أهم ما تعكسه السينما المغربية حالياً من مزايا هو التنوّع الكبير في الطروحات والقدرة على الوصول إلى المنصّات العالمية (مهرجانات وبعض العروض التجارية في الغرب). هذا بحد ذاته ليس جديداً فهناك أجيال متعاقبة من المخرجين المغاربة الذين حققوا أعمالهم بمساعدة حكومية (مركز السينما المغربية) أو من دونها ومنذ نحو نصف قرن. في كل موجة تطوّرٌ يصاحب المرحلة ويعكس الاهتمام بوسائل وصيغ المعالجات وبتقديم نصوص تخدم الرغبة في طرح قضايا ومواقف اجتماعية مهمّة. العديد من الأفلام له صيغة جماهيرية بحتة ولكن عدداً متزايداً منها صالحة لدخول المهرجانات والأسواق الأجنبية من دون إهمال التوزيع الداخلي أيضاً.
من الأعمال الحديثة فيلمان للمخرجة مريم توزاني هما «آدم» (2019) و«القفطان الأزرق» (2022). في الفيلم الأول حكاية امرأة حامل وبلا مأوى تستضيفها أرملة لديها فتاة تساعدها في إدارة دكان لبيع الفطائر الشعبية. في ذلك الفيلم المدروس بعناية ورقّة ستتبادل الامرأتان بعض المواقف. كل واحدة ستساعد الأخرى في شؤون حياتها. ففي مقابل منح المرأة الحامل مكاناً للعيش ستقوم الثانية بمساعدة الأخرى في صنع العجائن، مما يرفع من مدخول المحل. كذلك، ستمنح المرأة الحامل الأرملة القوّة للتوقف عن حدادها الدائم والانفتاح على الحياة من جديد.
لا تبتعد المخرجة كثيراً عن الحكايات الباحثة في مشاكل المرأة في فيلمها الثاني «القفطان الأزرق». هنا بطلة هذا الفيلم، مينا (لبنى أزبال) هي أيضاً امرأة عاملة لكن مشكلتها ليست طبيعية ولا هي مطروقة في السينما العربية من قبل. فهي تواجه ميول زوجها المثلية من موقع ضعيف كونها تعيش بثدي واحد نتيجة إصابتها بالسرطان. في الفيلمين نجاح في اختيار حكايات جيدة محورها المرأة، والقدرة على نقل هذا الاهتمام إلى مستوى جاد وطموح.
المنوال الذي تختاره المخرجة توزاني لسرد حكاياتها أقرب إلى الشخصيات وصدق معاناتها من ذاك الذي نجده في فيلم زميلتها مريم بن مبارك. في فيلمها «صوفيا» رغبة في طرح المرأة كقضية (وهذا فعل تشترك به سينمات عربية كثيرة هذه الأيام أصابت في اختياراتها أم لم تصب) لكن الأحداث التي تقع في فيلمها من النوع الذي يرفع الراية الخطأ في هذا الصدد. صوفيا (مها علمي) حامل من دون علم والديها (رغم أن بطنها يدل على ذلك) وعندما تنجب بمساعدة قريبة لها تدعي أن الأب هو شاب فقير ثم تكشف عن حقيقة أن الشاب ليس هو الأب، بل رجل أعمال من أصدقاء والدها تعرّض لها في غياب والديها. يمنح الفيلم بطلته الحق في الكذب، مما ينسف أي قضية حقّة حاولت المخرجة ولوجها في ذلك الفيلم.
هذا هو حال فيلم «ملكات» (تم نقده في الأسبوع الماضي) أيضاً وهو فيلم جديد للمخرجة ياسمين بنكيران التي تنجح في سرد ومعالجة الحكاية كقصّة تشويقية أكثر مما تنجح في تحويل الموضوع إلى موقف يدعو لقضية المرأة الاجتماعية. فبطلاتها هاربات من جرائم ارتكبنها، مما يُلغي أن الفيلم يتحدث عن قضية حرية المرأة كما أكدت المخرجة وبعض النقاد.
- أبعاد عائلية
وضع المرأة مهم في السينما المغربية لكنه ليس، في فيلم «عرق الشتا» للمخرج حكيم بلعبّاس، عن وضع المجتمع بأسره. هي من لبنة العائلة وكيف تحيا وبأي نصيب من الأقدار التي تهيمن على قراراتها. هذا ما ورد في فيلمه النيّر «عرق الشتا»، دراما عميقة ورائعة كونها مستمدة من البيئة التي يعرفها المخرج جيداً. يروي بلعبّاس هنا حكاية مزارع اسمه مبارك (من قرية أبي الجعد، التي وُلد فيها المخرج سنة 1961) يحفر في أرضه طامعاً في بئر ماء ينقذ به المحاصيل في موسم أصابه الجفاف. لديه زوجة حامل وابن معاق وديون عليه سدادها وآمال صغيرة (تبدو له بحجم جبال عالية) يريد تحقيقها. لكن كل شيء بعيد المنال بدوره. الاستدانة من المصرف لا تبدو ممكنة والأرض لا تفي بالمطلوب وثقل العالم يعلو كتفيه. يحث مبارك الخطى، لكن لا شيء تستطيع هذه الخطوات الوصول إليه لإنقاذه مما يعاني منه.
منح المخرج الحالة الشخصية أبعادها العائلية كما في المشاهد الحميمة بين مبارك وزوجته وتلك المتوترة في العمق بينه وبين ابنه المعاق الذي يتمنى لو لم ينجبه. تلاحق الكاميرا بأسلوبها الواقعي هذه الشخصيات، وما على المخرج إلا أن يؤسس لها ما يريده منها. غالباً المشاهد كافية لأن تعبر عن الدور المطلوب منها، كمشاهد الحفر، التي تبدأ بعمق ظاهر لكن الحفرة تصبح أعمق وأعمق تماماً رمزاً لحال مبارك (دور رائع للممثل غير المحترف حميد بلعباس) المنزلق أكثر وأكثر في بؤسه ويأسه. لا يحتاج حكيم إلى الحوار. ليس أن الفيلم صامت أو بلا حوار، لكن الصورة تعبر عن كل شيء يستطيع الكلام قوله.
ينقد حكيم بلعبّاس وضعاً اجتماعياً كما فعل العديد من أترابه وما زالوا بينهم نبيل عيوش في «غزية» وهاشم العسري في «البحر من ورائكم» و«الجاهلية» وإسماعيل العراقي في «زنقة كونتاكت». هذا الأخير يموج بين الواقع والفانتازيا الداكنة ويدور حول مغني روك (أحمد حمّود) يلتقي، في مطلع الفيلم وبناء على حادثة سير، بالمومس راجيا (خنساء باتما). لقاؤهما أكبر من مجرّد صدفة وينتهي بهروب مشترك صوب مستقبل غير مستقر. كلاهما هارب. سيتركان مدينة كازابلانكا (يمنحها المخرج صورة جديدة) إلى البرية، حيث لا مكان بعد ذلك للجوء جديد.
الأكثر عرضة لنقد مفتوح على دلالات اجتماعية بأسلوب فانتازي هو هشام العسري انطلاقاً من كل فيلم قام بإخراجه حتى الآن. في «الجاهلية» (2018)، على سبيل المثال، طرح معالجة على شخصيات لا تكشف عما هي وما تفكر به. يتحدث أحدهم فيقول إنه يود الانتحار، لكنه لا يبين السبب. الشخصية التي يمكن أن نطلق عليها كلمة «محورية»، هي شخصية لطفي، الذي يعيش بلا ذاكرة (كشأن «ضربة في الرأس» فيلم آخر للمخرج نفسه) والمحاط بشخصيات متعددة لكل منها درب يؤدي لمشكلة أخرى لا يتسع الفيلم لطرحها في ساعتيه.
في «البحر من ورائكم» (2016) قدم العسري شخصية رجل اسمه طارق ويربط سريعاً بينه وبين فاتح الأندلس طارق بن زياد، صاحب العبارة الشهيرة التي يشكل نصفها عنوان الفيلم. هو شخص حزين. مطحون. تعرّض للاضطهاد وسوء المعاملة وها هو الآن لا يقوى على فعل شيء. أكثر من مرّة تتاح له فرصة الانتقام من رجل ذي سُلطة كان اعترف بمسؤوليته لما حدث لعائلته، الأمور من هنا، وفي غير مكان، لا تترابط جيّـداً على نحو مستتب ولا الفيلم يبلور حكاية مسرودة جيّـداً.
ما تنتجه السينما المغربية من أعمال يستحق التوقف عنده مع ارتفاع منسوب الأفلام الراغبة في الوصول إلى المزيد من الأسواق الغربية. هذا أسهل بكثير من فتح الأسواق العربية لأسباب تتعلق باللغة وامتناع رأس المال عن تأسيس قنوات توزيع فعلية للأفلام المستقلّة.