تتكاتف عوامل ترفع «الزند ذئب العاصي» إلى المكانة العالية. بجانب أن بطله هو تيم حسن المؤكِّد جدارة بالدور الفارق؛ ثمة حلفُ السياق والصورة المتماسك، بينهما أداء الشخصيات أدواراً تفرض التوقف عندها. النَفَس الملحمي التاريخي يكثّف الرغبة في الاكتشاف. فالموروث الشعبي البطولي يحرّك الفضول ويكرّس عنصر الجذب. فرادة العمل والشوق إلى صنفه، ورقتان رابحتان في مصلحته.
يجدر عدم إغفال اللهجة في أنها تتحلّى بجاذبية سمعية تدغدغ غير المعتادين على بطلهم وهو يتقن مَخارجها. تيم حسن بشخصية «عاصي الزند»، ينفض عنه «جبل شيخ الجبل» («الهيبة»)، أولاً باللهجة البارع في أدائها فتصبغه بالكاريزما والخصوصية. انتقدها كثيرون وشكوا من «صعوبتها»، لكنها فعّالة في تسريعه خلع شخصيته الشعبية الساحقة، بأقل عناء، من أذهان العامة، ليعلق بدلاً منها لسانه الجديد ومفرداته الصاخبة، رغم ميله إلى التكلُّف بتلفّظه اسم الفيلسوف الألماني نيتشه و«أقواله» طوال الوقت على سبيل السخرية؛ وإلى المبالغة في الشتيمة الذكورية كلما خاصم عدواً.
مخزون الشخصية العسكري وخلفيتها الاجتماعية «يبرران» تفلّت اللسان وخروجه على الطور، إنما الانتهاك اللفظي للأنثى أمكن الارتقاء عنه بما لا يضمن إقامة بشاعة كهذه على الألسن تيمنّاً بالقائد. حركة يده كـ«إفيه» إيمائية، تفوز بالوَقْع الأشد عفوية على المتلقي.
ضخامة الإنتاج («الصبّاح أخوان»)، وجمالية الإخراج، من كادرات ولقطات طبيعية ساحرة، تُضاف إلى مشهدية المعارك (ذروتها معركة النهر) والغزوات، تشكل دليلاً قاطعاً على نضج كاميرا المخرج سامر البرقاوي وتفوّقها الفني لتغدو رافعة المسلسل.
ذلك كله بالاستناد إلى نصّ يعزف على وتر حقبة مجيدة يحلو تناقلها (كتابة عمر أبو سعدة)، وإلى انعكاس مناخها الخاص في الأزياء (رجاء مخلوف) والإكسسوار، والتوغّل البديع للموسيقى بروحية السياق وتشعّب خطوطه (تأليف آري جان سرحان)... كلها دعائم قوة وسط تفوّق الجغرافيا السورية بامتدادها ومشهديتها المذهلة. العمل «إم بي سي»، «شاهد»، تتكامل فيه العناصر المتكافئة. ورغم أنّ البطل المسيطر هو «عاصي»، فإن مَن حوله يجيدون التمرير لضمان تسديده ضرباته الحاسمة.
زمن آخر (الأعوام بين 1895 و1900) وزاوية مغايرة لطرح إشكالية البطش العثماني بالفلاحين ومصادرة أراضيهم ومحاصيلهم. حول ضفاف نهر العاصي والقرى المحيطة به، تجري فصول حكاية ملحمية بطلها ليس منزّهاً عن الخطأ، ويتّبع لأجل بعض غاياته وسائل ليست دائماً محمودة.
لعلّ صنّاع العمل يتقصّدون «تفريغ» محرّكه من «أسطورية» الأبطال. وهذا يمنح «عاصي الزند» بُعداً بشرياً يخدم تصديق واقعيته. تجاوزاته ورعونته وتبريره تلطّخ لقمة العيش بالدم، دعوة درامية لإسقاط الهالة المفرطة الملقاة على الأبطال لتفادي وسمهم بالهشاشة الكرتونية.
الغلبة للتصدّي لا لهدوء الجبهات، وللتقدّم عوض ضبط اللعب. حتى الحب يتخذ مقعداً خلفياً، لحجز الثأر والتوسّع والصفقة جميع المقاعد. يمرّ زواج «عاصي» بـ«نجاة» (دانا مارديني الناطقة بصمتها؛ دورها قليل المنعطفات) بلا «طنّة ورنّة»، فيما مشهد المزاد ينال نصيبه من الجذب المبهر، مشيراً إلى خفّة دم لدى تيم حسن وحسٍّ كوميدي يمكن استثماره في المستقبل.
لنقد ما يُحكى عن «مغالطات ثقافية - تاريخية»، أهل اختصاص يُفنّدون بالدلائل والمراجع، لسنا منهم. درامياً؛ العمل مشغول بمهارة. فحين أراد إعلاء التشويق، هبَّ بطله لسرقة مصرف عثماني والخروج من بابه العريض مرفوع الرأس، متنكراً (رشّة كوميديا وخيال). وحين أراد تكثيفاً للوجع، قُتلت شقيقته بين يديه (نانسي خوري بإطلالة لافتة)، وحين فضَّل تكاثُر الأعداء، لم يكتفِ بـ«نورس باشا» (أنس طيارة في أفضل أدواره)، بل وسّع الدائرة لتبلغ الخصومة أشدّها مع «إدريس» (فايز قزق المتألق)، الطمّاع، الثمل، المجبول بالكراهية.
يحرّك مقتل قائد الدرك الأحداث على خلفية أفول السلطنة العثمانية والانكفاء التدريجي لزمن الإقطاع؛ فيقدّم العمل مقاربة إنسانية تختزل مصائر سكان قرى حوض النهر وخروجهم المُكلف إلى الضوء. في الموازاة، تتصاعد شخصية «عاصي» من «برّيتها» إلى اصطدامها بالموبوءات؛ وبطموحه التوسّع، يشير إلى تحولات الإنسان أمام قهّارين: الزمن والمال.
الشخصي والعام في رسم مسار المسلسل يلتقيان عند حقيقة أنّ لا شيء يبقى ثابتاً؛ من السياسة إلى التحالفات، فالسلوك البشري. كلها رهن الواقع وما يطرأ عليه، فيطال الأفراد والجماعات، وبينهما حالة المدّ والجَزر منذ فجر التاريخ وإلى الأبد.
التوظيف الدرامي المتقن للشخصيات يرفعها إلى البطولة. مَن يرتدون البزّات ويشغلون المناصب بينهم تيسير إدريس وعلاء الزعبي وجابر الجوخدار إلى يحيى مهايني وباسل حيدر، ومَن يناضلون لانتزاع الحق بالتفاوض أو السلاح، بينهم مجد فضة وكرم شنان وطارق عبدو (كان لجرجس جبارة دور لافت بانفتاحه رغم قصره)؛ مع حضور نسائي متشعّب الخطوط (رهام القصار، يارا خوري، سمر فرح، نهال الخطيب)؛ جميعهم في أماكنهم، بمنزلة النوتات في تكامُل المعزوفة.
مُرهِقة العتمة الكاحلة في الليالي، حيث القنديل ضئيل النور يتولّى الإرشاد إلى الوُجهة. يعوّض المسلسل وَقْع ظلّها الكئيب بفكاهة حضور البطل ودسّ الفنتازيا في مغامراته. جانب فني آخر يجيد إتقان اللعبة: «وصلات العتابا في خيم عشائر الغجر» وأغنية الشارة بمناجاة مها الحموي الحزينة.