في رحاب «شاتو لا كوست»، تلك الضيعة الريفية في بروفانس بفرنسا التي تحولت متحفاً مفتوحاً في أحضان الطبيعة، يقيم الفنان اللبناني - الأميركي نبيل نحاس معرضه الأول في فرنسا تحت عنوان «جذور السماء»، يقدم عدداً من الأعمال الحديثة للفنان تعرض في قاعتين منفصلتين.
يصحب الفنان مجموعة من الصحافيين لمعرضه، يقول، إنه لا يحب الحديث عن أعماله، ولكنه يجيب عن الأسئلة بجمل قصيرة يكسرها بإطالة النظر للوحة أو أخرى في القاعة.
في القاعة الأولى لوحات لطبيعة حزينة، لأشجار ضخمة، تحمل الكثير من جذوره في لبنان، هنا نرى أشجار الأرز والزيتون غير أنها ليست كالأشجار في ربوع لبنان، بعضها هنا متفحم، عارٍ من الأغصان والأوراق، يغلب عليها السواد. أسأله عن طغيان اللون الأسود في اللوحات، وعن إذا ما كان يفكر بأحداث داكنة في لبنان مثل انفجار مرفأ بيروت، يختار الابتعاد عن الشرح والتوصيف ويجيبني بجملة مقتضبة «لم أكن أفكر بذلك، اعتدت على استخدام اللون الأسود في أعمالي». الأشجار الداكنة بتدرج ألوانها والطبقات المتتالية من الألوان الداكنة عليها مع خلفيات حمراء صارخة، تبث إحساساً قوياً بالحزن. قبل دخولنا القاعة مع الفنان نلتقي أحد الزوار. يحيي الفنان قائلاً «الأعمال مؤثرة جداً يا نبيل، وكأننا في ثلاجة موتى»، يجيبه الفنان بابتسامة صغيرة «لماذا لا تعتبرها جذوراً للأمل؟» في القاعة وأمام اللوحات يغلب الشعور بالموت على الأمل، أسأله عن الحالة الشعورية التي كان عليها «قلت لي بأن اللون الأسود من ألوانك المعتادة، ولكننا لا نستطيع الهرب من تأثير الأسود والأحمر هنا». يجيبني قائلاً «استخدمت هذه الألوان من قبل»، يتوقف قليلاً قبل أن يضيف «كنت أرسم لأشجار الأرز قبل الانفجار (مرفأ بيروت) لم أتعمد رسمها بالمناسبة». مضيفاً «لا أحب شرح الأشياء في لوحاتي». الأشجار تبدو مجردة من الأغصان والأوراق، أعلق مرة أخرى وأخيراً يستجيب الفنان لمغزى سؤالي ويقول «بعض هذه الأشجار تحتضر الآن، وهو تعليق على حالة الأمور الآن». يقول، إن تأثيرات الأوضاع في لبنان تقبع في أعماق عقله. أشجار الأرز التي ترمز للبنان قريبة لقلبه يقول «لدي بعض منها في حديقتي، عمرها مئات السنين، أتمنى أن تكون حاملة لتاريخ طويل في داخلها». يصفها بأنها أشجار «معذبة» ويضيف «لبنان في كارثة، مرّت بكثير مثلها منذ بداية تاريخها، ولكنها دائماً تعود».
ليست فقط الأشجار التي تتجسد حولنا، في أكثر من مكان تتجاور الأشجار «المعذبة» مع أشكال هندسية أو دوائر منتظمة في خيوط دائرية. تتساءل إحدى الحاضرات حول ماهية الدوائر ويجيبها قائلاً «أنا لا أرسم بأسلوب واحد فقط، أنا فضولي بطبعي، فإذا ما حدث أمر ما يشغلني أترك اللوحة التي أعمل بها وأتحول لغيرها إذا أحسست أنها ستأخذني لمنطقة مختلفة، وبعدها أعود مرة أخرى للوحتي الأولى».
لماذا اختار الجمع بين لوحتين مختلفتين في الأسلوب؟ أسأله ويقول «عنوان المعرض هو (جذور السماء)، وهو مستمد من عنوان رواية للمؤلف الفرنسي رومان جاري (جذور السماء) وهي أول رواية (بيئية) في العالم. كنت دائماً مهتماً بالطبيعة في شكلها الروحي، ليست الطبيعة التي ترينها من النافذة، بل الطبيعة بمعناها الواسع والمتعلق أيضاً بالكون، الأشجار هنا متعلقة بجذورها وأيضاً بالسماء».
في إحدى اللوحات شجرة عملاقة لا نرى سوى منتصفها تتوسط اللوحة وإلى جانبها لوحة تحتلها أشكال هندسية متشابكة، قد تكون الامتداد البيئي للشجرة بتركيبتها الجينية. يقول، إن الأشكال الهندسية مستوحاة من شكل سمكة نجم البحر (لنجم البحر قصص أخرى في لوحات الغاليري الثاني)، ويضيف مشيراً إلى تلك الأشكال «هي رسومات أنتجتها في السبعينات، الأشكال فيها مستمدة من نجم البحر، إذا رسمنا خطاً يمر بأطراف نجم البحر نحصل على هذا الشكل الهندسي وهو أساس الهندسة الإسلامية، قلت لنفسي لماذا لا أعيد استخدام هذه الرسومات التي تمثل الشكل الجزيئي وقد تكون هي التركيب الجزيئي للشجرة».
يرفض الحديث عن استخدام الألوان في لوحة تمثل شجرة زيتون صفراء على خلفية سوداء، مرت فرشاته المليئة باللون على جذع الشجرة وأغصانها، نلاحظ أن اللون انساب في قطرات على اللوحة، يبدو غير مرتاح مرة أخرى لشرح طريقته في العمل «أنا أرسم اللوحات فقط، وليس لدي الكثير لأقوله عنها».
- الفنان والطبيعة
خلال الجولة ألتقي جوانا شفالييه منسقة المعرض، ويدور بيننا حديث عن الفنان وأعماله. تعلق على العرض بقولها «جذور السماء»، يمكن اعتباره بمثابة يوميات للفنان، رسم اللوحات بعد انفجار مرفأ بيروت.
تقول، إن الأعمال في هذه القاعة مختلفة عن الأعمال في القاعة التالية «في القاعة التالية لن تعرفي إن كنتِ تنظرين لقاع البحر أم للسماء». بالإشارة إلى التعامل مع الطبيعة في أعمال نحاس، تقول «نبيل يتعاطف مع الطبيعة، ويمكننا رؤية الأشكال الهندسية على أنها أساس العالم».
تشرح أكثر طريقة الفنان في العمل «نبيل يسبغ على اللوحات الكثير من العاطفة والانطباعات والكثافة، إذا رأيت اللوحات في صور فوتوغرافية فلن تستطيعي فهم هذا الحضور للون والتركيب وحتى الثقل، ولكن إذا اقتربتِ من اللوحة ستحسين وكأنك في داخلها».
عن استخدام الألوان وتساقطها على قماش اللوحة، هل هو أمر متعمد؟، تقول «هو يحب فعل ذلك لأنه يمنحه الحرية، عندما ننظر لعمله نحس بأنه غير محكوم، يتنقل من لوحة لأخرى، يضع لمسات هنا ثم يذهب للوحة أخرى وينشغل بها، هي الحرية في الرسم، لا قيود ولا تحكم، كمن يقوم بخطوات راقصة، يمكننا رؤية الديناميكية».
شفالييه تفهم نبيل نحاس وطريقة عمله، تحس بها وتتفاعل معها وحين تشرحها لنا تدخلنا لعالم الفنان وطريقة تفاعله، تشرح لنا «نبيل يأخذ وقته، قد يلقي مزحة ثم يهرب من الحديث، لا يشعر بأنه مرتاح للحديث عن عمله، أمر طريف في الحقيقة لأنه عندما يشرح عمله قد يقول أشياء مختلفة، وكلها حقيقية، ليس هناك تفسير واحد، أرى أعماله مثل فطيرة (ميل فوي) الفرنسية المكونة من طبقات، أعماله أيضاً هي طبقات من الفكر والإيحاءات».
عن الأشجار المحترقة تقول «هي تعبيرات عن المشاعر التي اجتاحته بعد انفجار المرفأ، أحس بالقلق والحزن على معاناة الناس، لم يكتب ذلك بالكلمات، ولكنه قام برسم سلسلة من اللوحات، قد لا يعرف الناظر أنها رسمت بوحي من ذلك الحدث ولكنها تبعث بشعور ثقيل وقوي».
اللوحات تصور أشجار الأرز وأشجار زيتون ونخلات وحيدة، كلها ترمز للوطن، لتاريخه وثقافته وأيضاً تركيبته البيئية. في لوحة تتصدر العرض تظهر لوحة يغلب عليها اللون الأصفر؛ ما نتخيله حرائق غابات مستعرة بينما في لوحات مجاورة تتناول لوحات أشجار زيتون محروقة على خلفية مشتعلة حمراء، تعتبر شفالييه كل ذلك إشارات واضحة للأحداث التي مر بها لبنان في 2020. تؤكد المنسقة على أن الفنان يعبّر عن كل ذلك بنبرة تحدٍ على الرغم مما تظهره الألوان وتعبيرات الفرشاة من الصدمة والألم. ترى في تصوير الأشجار مقاومة وتحدٍ من الفنان للواقع المرير في تشكيل تلك الكتل الداكنة الصلبة صامدة تمثل الكبرياء والألم الجماعي.
- من قاع البحر إلى السماء
في الغاليري الثاني نحن أمام عالم آخر، لوحات عملاقة تسكنها أسماك نجم البحر. هي الأساس تفترش اللوحات بألوان مختلفة، تمثل الطبقة الأساسية باللون الرمادي وفوقها طبقات أخرى من الألوان بعض تلك الأشكال المجسمة ملون وفي لوحات أخرى لامع. مثلما قالت شفالييه نحس بأننا ننظر إلى قاع البحر في الكثير منها، أشكال لكائنات لا نعرفها ودوائر وأشكال هندسية، كل منها لها نسيج مركب من الألوان الأكريليك ومن مجسمات السيليكون.
يتحدث الفنان عن التجربة الأساسية التي أدخلت نجم البحر للوحاته «في عام 1991 هبّت عاصفة قوية، وكان بيتي قريباً من الشاطئ، عندما ذهبت إلى هناك وجدت الشاطئ مغطى بأسماك نجم البحر، أخذت بعضها معي للبيت ووضعتها على لوحة قماشية، انصرفت عنها لفترة ثم عدت للوحة وللأسماك ونظرت لها وجدت أن هناك شيئاً ما يجذبني لها». يرى الفنان تلك الأسماك إشارة إلى أصل الأشياء يستوحي من شكلها التركيبات الهندسية التي نراها «نحن هنا نبدأ من الصفر، وهو ما يعادل أساس الهندسة». يستدرك «لست مهتماً بنسخ الطبيعة، ولكني مهتم بالتطور، يمكنك الانتقال من قاع البحر للكون، هناك جملة أعجبتني للفيلسوف نيتشه تقول (يجب أن يكون لديك فوضى في داخلك لتلد نجمة راقصة)، أعتقد أن المقولة تعبّر عن هذه اللوحة».
يعرج الفنان في حديثه إلى علاقة لوحاته بالفن الإسلامي، يشير إلى اللوحات الضخمة المفروشة أرضيتها بأشكال نجم البحر «أعتقد أن هذه اللوحات تمثل ماهية الفن الإسلامي، فهو ليس في الخط أو في الكتابة، بل في هذه الأشكال».
خلال حديثي مع شفالييه أشير إلى أن علاقة نحاس بالطبيعة قوية جداً، تصحح لي «ليست قوية، بل هي أساسية، كل شيء مرتبط بالطبيعة؛ وهو ما يجعل أعماله معاصرة جداً فهو مهتم جداً بالبيئة والطبيعة والحفاظ عليها».