مرة أخرى، سعى الرئيس الفرنسي لبناء علاقة شخصية مع أحد كبار هذا العالم. حاول ذلك مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عندما دعاه في عام 2017، ضيف الشرف، لحضور العرض العسكري التقليدي الذي يجري كل عام بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في جادة الشانزليزيه وساحة الكونكورد في باريس. وفي صيف عام 2019 جرّب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما خصه بدعوة للمجيء إلى منتجعه الصيفي في حصن بريغونسون، المطل على مياه المتوسط حيث وصل بوتين على متن طوافة وقدم باقة من الورد لعقيلة ماكرون. وها هو، في زيارته للصين التي انتهت أمس، يعاود المحاولة مع الرئيس شي جينبينغ من خلال لفتة الانتقال في اليوم الثالث للزيارة من بكين إلى مدينة كانتون «غوانغزهو باللغة الصينية» الواقعة جنوب البلاد التي سبق لوالد الرئيس الصيني أن كان مسؤولاً عنها زمن القائد التاريخي ماو تسي تونغ قبل أن يغضب عليه ويُبعده عن المسرح السياسي. والأهم من ذلك أن زوجة شي جينبينغ وهي مغنية أوبرا في شبابها، سبق لها أن مارست فنها لسنوات في المدينة المذكورة. ولأن الشيء بالشيء يُذكَر، فإن شي جينبينغ أراد أن يردّ التحية لـماكرون بأجمل منها إذ ذهب أيضاً من جانبه إلى كانتون حيث دعا ماكرون وعقيلته إلى عشاء خاص في مكان رفضت أوساط الرئيس الفرنسي الكشف عنه. إلا أنها وصفته بأنه «متميز».
تُبين مجريات الأحداث أن دبلوماسية العلاقة الشخصية التي ينتهجها ماكرون لم تنجح مع ترمب ولا مع بوتين. الأول لم يخفِ عداءه للاتحاد الأوروبي الذي يدعو ماكرون لتعزيزه ولتمكينه من تحقيق «استقلاليته الاستراتيجية». أما مع الرئيس الروسي، فإن المحاولات التي بذلها ماكرون لثنيه عن حربه على أوكرانيا فشلت جميعها وذهبت هباء الساعات الطويلة التي أمضاها معه إما وجهاً لوجه وإما بالتواصل الهاتفي لمحاولة وقف الحرب وإيجاد حل سياسي للخلافات الروسية - الأوكرانية. ثم إن المراهنين على نجاحها مع زعيم ثاني أكبر اقتصاد في العالم والساعي لتكون بلاده «أكبر قوة» في جميع المناحي بحلول العام 2049، أي بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء الدولة الصينية الحديثة، قلائل رغم الوعود الشفهية التي حصل عليها ماكرون خصوصاً بالنسبة إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ شهر فبراير (شباط) من العام الماضي.
عندما وصل ماكرون (الأربعاء) إلى بكين، مصحوباً برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، كانت تعتمله مجموعة أهداف تتناول علاقات بلاده الثنائية «والأوروبية» مع الصين في التجارة والاقتصاد والشراكات الصناعية والبيئة... ولكن خصوصاً العمل على إقناع بكين للامتناع عن الانخراط عسكرياً إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، لا بل حثها على القيام بجهد كبير لدفع بوتين إلى طاولة المفاوضات بوصفها الطرف القادر على التأثير على بوتين. وسبق للمصادر الرئاسية الفرنسية أن نبّهت من أن موقف بكين «يمكن أن يغيّر الوضع في أوكرانيا «من النقيض إلى النقيض». وفي الكلمات التي استخدمها ماكرون مرتين أمس قبل وعقب لقائه نظيره الصيني ركز على مسؤولية بكين «في إعادة روسيا إلى رشدها» وعلى الامتناع عن تزويد بوتين بأسلحة صينية، فيما نبهت فون دير لاين إلى أن الاتحاد الأوروبي سيحدد علاقته بالصين استناداً لما سيكون عليه أداؤها في الحرب الأوكرانية.
- الرئيس الصيني لا يتزحزح فعلياً
ما محصّلة جهود ماكرون على هذا الصعيد؟ يمكن اعتبار أن الأخير أصاب نجاحاً «مبدئياً» في ثلاثة أمور: الأول، أن جينبينغ دعا إلى «استئناف محادثات السلام» الخاصة «بالحرب الأوكرانية» في «أسرع وقت ممكن». ومن يدعو إلى حل تفاوضي لا يمكنه منطقياً أن يعمد، في الوقت عينه، إلى تسليح الطرف الذي بدأ الحرب. وتجدر الإشارة إلى أن بكين سبق لها أن طرحت «خطة للسلام» منتصف شهر فبراير الماضي التي لاقاها الغربيون بكثير من الفتور كما رفضها الرئيس الأوكراني زيلينسكي لأنها لا تقول بانسحاب كل القوات الروسية من جميع الأراضي الأوكرانية، فيما انتقدتها موسكو لأنها «لا تأخذ بعين الاعتبار» وبشكل واضح وعلني، رغم التقارب مع بكين، ما تسميها «الحقائق الجديدة على الأرض»، أي الاعتراف بضم المناطق الأربع الأوكرانية «زابوريجيا، وخيرسون، ولوهانسك، ودونيتسك» التي ترى موسكو أنها أصبحت أراضي روسية. بيد أن الكرملين، عن طريق الناطق باسمه ديميتري بيسكوف، سارع لإطلاق النار مسبقاً على أي مساعٍ صينية لاحقة باتجاه الدفع نحو مفاوضات سلام جديدة. وقال بيسكوف: «إن الوضع مع أوكرانيا معقّد وليس هناك أي أفق لحصول تسوية سياسية. وفي الوقت الحالي، ليس لدينا حل آخر غير مواصلة العملية العسكرية الخاصة». لكنّ المسؤول الروسي حرص على الإشادة بموقع الصين التي «تحظى بالطبع بإمكانية هائلة وفعالة حين يتعلق الأمر بخدمات الوساطة». وفي أي حال، فإن جينبينغ، أقله علناً، لم يقل إنه سيقوم بوساطة، كما لم يتطرق أيٌّ من الرئيسين إلى محددات الوساطة أو إلى تاريخ إطلاقها أو آلية عملها. وكان لافتاً أن ماكرون اتصل بداية الشهر الجاري بالرئيس الأوكراني للتشاور معه حول الرسائل التي سيحملها معه. وعقب الاتصال، صدر عن قصر الإليزيه بيان جاء فيه ما حرفيته: «إن الرئيسين تناولا الوضع العسكري، وإن رئيس الجمهورية أكد مجدداً دعمه لأوكرانيا من أجل أن تضع حداً للعدوان الروسي كما أنهما بحثا الجهود الدبلوماسية الساعية لتنظيم قمة حول السلام». وبقي هذا التلميح غامضاً ولم يسبق لأحد أن تحدث عن «قمة السلام».
خلاصة القول أن ما جاء على لسان شي جينبينغ لا يصل إلى حد الالتزام بالعمل من أجل وقف الحرب بشكل هدنة أو وقف الأعمال القتالية. وإذا كان متعارفاً عليه أن بكين هي الجهة الوحيدة القادرة على التأثير على موسكو وأنه ليس في الساحة اليوم أي خطة سلام أخرى، فمعنى ذلك، وفق قراءة دبلوماسيين في العاصمة الفرنسية، أن الحرب ستتواصل خصوصاً أن الطرفين يتأهبان لإطلاق عمليات عسكرية واسعة تريد منها كييف تحرير مزيد من الأراضي المحتلة بعد أن تتسلم ما وعدت به من أسلحة ثقيلة غربية «دبابات، ومنظومات صاروخية، وحتى طائرات قتالية» فيما تسعى روسيا لترسيخ حضورها في المناطق الساعية للسيطرة عليها حتى تصبح واقعاً لا رجوع عنه. في المقابل، إذا كانت محادثات ماكرون - فون دير لاين قد أقنعت الرئيس الصيني بالامتناع عن الاستجابة لطلبات روسيا لمدها بالأسلحة والذخائر والعتاد، فإنها تكون قد أصابت نجاحاً فعلياً. وثمة مسألة أخرى شدد عليها ماكرون وهي حث جينبينغ على التواصل مع زيلينسكي الذي دعا الزعيم الصيني لزيارة كييف، على غرار ما فعل في روسيا أو على الأقل التواصل معه، وهي الدعوات التي صمّ الأخير أذنيه عنها. وخلال المحادثات مع ماكرون - فون دير لاين قَبِلَ الطلب الأوروبي لكنه رهنه بـ«توافر الظروف»، أي عندما ترى بكين أنه ملائم.
- ماكرون حصل على وعود
هكذا يبدو أن زيارة ماكرون لم تحقق اختراقاً فعلياً في الملف الأوكراني وأن ما حصل عليه هو مجرد «وعود» يمكن أن تتحقق أو لا تتحقق. فالرئيس الصيني لم يندد بنشر روسيا أسلحة نووية في بيلاروسيا ودافع بشكل غير مباشر عن بوتين بقوله، وفق المصادر الفرنسية، إنه يتعين «الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الأمنية المشروعة لكل الأطراف» في إشارة إلى مخاوف موسكو من وصول الحلف الأطلسي إلى حدودها الغربية. كذلك طالب شي جينبينغ بالتوصل إلى «بناء أمني متوازن، فاعل ودائم» وهو ما تطلبه روسيا فيما كتبت صحيفة «تشاينا ديلي» إنه «يتعين على أوروبا على الأقل أن تبدأ بإعادة النظر بالسياسة الأطلسية والبحث عن أمنها على حساب أمن الآخرين، وهو ما يعد السبب الأول لانعدام الاستقرار العالمي». ورغم تشديد ماكرون وفون دير لاين على أهمية أن تمتنع الصين عن تسليح روسيا، فإن المصادر المرافقة لماكرون لم تُشر إلى تجاوب أو ردة فعل صينية. وقد استخدم ماكرون كلمات بالغة الشدة بقوله إن «من يساعد المعتدي سيعد شريكاً له في الدوس على مبادئ القانون الدولي»، فيما نبهت رئيسة المفوضية الأوروبية إلى أن إقدام بكين على شيء كهذا «سيسيء بشكل واضح لعلاقاتنا المشتركة». وردت بكين على التحذير الأخير بقولها في بيان إن «الأزمة الأوكرانية ليست مشكلة بين الصين والاتحاد الأوروبي».
إذا كان الغربيون يسعون إلى منع الالتحام بين موسكو وبكين، فإن الطرف الصيني يريد من جانبه أن يُحدث تشققات في المواقف الغربية بحيث تبقى باريس وبرلين، وهما القوتان الفاعلتان أوروبياً، بعيدتين نوعاً ما عن تبني المواقف الأميركية بالغة التشدد إزاء الصين. ونقلت المصادر الفرنسية عنه تنديده بـ«منطق الحرب الباردة والمواجهة بين الكتل»، مضيفاً أن بلاده تعدّ أوروبا «قطباً مستقلاً في عالم متعدد الأقطاب» والمقصود أنها غير تابعة للولايات المتحدة، رافضاً أن تكون العلاقات الصينية - الأوروبية «رهناً بطرف ثالث». وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون تجنب إثارة مسائل تثير حنق الصين مثل ملف تايوان أو وضع الأويغور، مفضلاً التركيز على ما يقرّب الطرفين على صعيد العلاقات الثنائية التجارية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية.
في اليوم الأخير ومع انتهاء زيارة الدولة، صدر بيان مشترك مطول من 51 فقرة وخمسة فصول أبرزها الفصل الثاني الخاص بالأمن والاستقرار في العالم. وأشارت إحدى فقراته، إلى جانب المبادئ العامة التي تحكم أداء الطرفين على المستوى العالمي والسعي للعمل المشترك على المستوى العالمي، إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران. وتشدد الفقرة المذكورة على «التزامهما بالعمل من أجل حل سياسي ودبلوماسي للملف النووي الإيراني وتمسكهما بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية... ودعمهما للوكالة الدولية للطاقة الذرية». وفي الحصاد الاقتصادي، أفضت زيارة ماكرون إلى نتائج ملموسة أبرزها يتناول شركة «إيرباص» التي حققت نجاحين: الأول بيع 160 طائرة للصين وإطلاق خط إنتاج إضافي لمصانعها الواقعة في منطقة «تياجين» قريباً من بكين بحيث يدخل الخدمة في العام 2025، وتعد الصين أكبر سوق للطائرات المدنية في العالم. وما يصح على «إيرباص» يصح على شركات أخرى مثل «كهرباء فرنسا» و«سويز» و«لوريال» وشركة «سي إم إي - سي جي إم» البحرية والكثير غيرها التي وقّعت اتفاقات وعقوداً بمناسبة الزيارة، بلغت 14 اتفاقاً وعقداً بعشرات المليارات.